الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرفا الاستقبال
السين وسوف
من المناسب بحث حرفي الاستقبال سوف والسين هنا، لاختصاصهما بالفعل المضارع، إن سوف والسين حرفا استقبال (1). قال تعالى:{إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا} [النساء: 56]، وقال:{سأصليه سقر} [المدثر: 26].
ولفظ (السوف) يدل على البعد عمومًا، فمن معانيه الموت، ومثله السواف، ومنه قولهم: ساف المال يسوف إذا هلك، ويقال: رماه الله بالسواف أي الموت، والسوف الصبر. ومنه المسافة والسيفة وهو بعد المفازة والطريق (2).
والسوف الشم، وقيل بل هو لشم رائحة ما ليس حاضرًا.
جاء في (بدائع الفوائد): " وأما سوف فحرف، ولكنه على لفظ السوف الذي هو الشم لرائحة ما ليس بحاضر، وقد وجدت رائحته كما أن سوف هذه تدل، على أن ما بعدها ليس بحاضر، وقد علم وقوعه وانتظر إيابه، ولا غرو أن يتقارب معنى الحرف من معنى الاسم المشتق المتمكن في الكلام (3).
فلفظ السوف عموما يفيد البعيد.
وحرف الاستقبال (سوف) موافق للفظ السوف، ومعناه فإن الاستقبال بـ (سوف) فيه بعد وتراخ، وربما أخذ منه وجرد لمعنى الاستقبال، كما أخذ حرف (على) من العلو، وحرف (خلا) من الخلو.
(1) انظر "المغني" 1/ 138، كتاب سيبويه 2/ 311، شرح الرضي على الكافية 2/ 248
(2)
انظر لسان العرب - سوف: 11/ 65، تاج العروس / سوف 6/ 147
(3)
بدائع الفوائد 1/ 91 - 92
قالوا: و (سوف) أكثر تنفيسا من السين: فإن لفظها أكثر فهو يؤذن بالبعد.
جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وسوف أكثر تنفيسا من السين .. وقيل أن السين منقوص من سوف دلالة بتقليل الحرف على تقريب الفعل (1).
وقال ابن أياز في (شرح الفصول) أن التراخي في سوف أشد منه في السين، بدليل استقراء كلامهم، قال تعالى:{وسوف تسئلون} [الزخرف: 44]، وطال الأمد والزمان، وقال تعالى:{سيقول السفهاء من الناس ماولاهم} [البقرة: 142]، فتعجل القول (2). وقال:{إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا} [النساء: 56].
قال: {وسف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائد: 54]، وقال:{ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم} [النساء: 91]، وقال:{سنراود عنه أباه} [يوسف: 61]، وقال:{سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} [الكهف: 78]. فاستعمل (سوف) للبعيد، والسين للقريب.
ومما يدل على ذلك قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام لابنائه: {قال سوف استغفر لكم ربي} [يوسف: 98]، وقوله على لسان إبراهيم عليه السلام لأبيه:{سأستغفر لك ربي إنه كان بي} [مريم: 47]، فجاء بوعد يعقوب بسوف، ووعد إبراهيم بالسين، لأن وعد يعقوب أطول من وعد إبراهيم، وذلك لما فعلوه به وبأخيهم يوسف، فهو وعدهم بالاستغفار في المستقبل حين طلبوا ذلك منه، قال تعالى:{قالوا ياأبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} [يوسف: 97 - 98]، بخلاف آية إبراهيم فإنه دعاه أباه إلى الإسلام، فلم يستجيب وفي نهاية الحديث قال له:{سلام عليك سأستغفر لك ربي} [مريم: 47]، فجاء بالسين الدالة على القرب، يدل على ذلك بدؤه بقوله:{سلام عليك} فالفرق واضح.
(1) شرح الرضي على الكافية 2/ 248، وانظر الكليات 204
(2)
الأشباه والنظائر 2/ 274
ومما يدل على إفادة (سوف) للبعد والتراخي، أنه يؤتى بها للتبعيد، وذلك نحو قوله تعالى:{ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} [الأعراف: 143]، وهذا في طلب موسى عليه السلام، من ربه أن يريه ذاته:{قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} فجاء بـ (سوف) ولم يأت بالسين الدالة على القرب، للدلالة على بعد هذا الأمر، وأن وقوعه بعيد المنال مستحيل الحصول.
ونحوه قوله تعالى: {ويقول الإنسان أءنا ما مت لسوف أخرج حيا} [مريم: 66]، وهذا للتبعيد، وذلك أن هذا القائل يعتقد أن الحياة بعد الموت أمر بعيد الوقوع، لا يكون فجاء بـ (سوف) الدالة على البعد، ولم يأت بالسين.
وقالوا هما حرفان مؤكدان، إذا دخلا على فعل أفادا أنه واقع لا محالة.
جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {أولئك سوف يؤتيهم أجورهم} [النساء: 1552]، " معناه إن ايتاءها كائن لا محالة وإن تأخر، فالغرض به توكيد الوعد وتثبيته، لا كونه متأخرًا (1).
وجاء فيه في قوله: {أولئك سيرحمهم الله} [التوبة: 71]، " السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد في قولك:(سأنتقم منك) تعني أنك لا تفوتني وأن تباطأ ذلك (2).
وجاء فيه في قوله تعالى: {فسيكفيكهم الله} [البقرة: 137]، " ضمان من الله لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة، وإن تأخر إلى حين"(3).
والذي يبدو أن (سوف) أكثر توكيدًا من السين، لزيادة حروفها عليها، ويدل على ذلك الاستعمال القرآن لها، قال تعالى:{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} [النساء: 10].
(1) الكشاف 1/ 434
(2)
الكشاف 2/ 48
(3)
الكشاف 1/ 241، وانظر المغنى 1/ 138 - 139، التفسير الكبير للرازي 16/ 131
وقال: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا} [النساء: 29 - 30]، فجاء بـ (سوف) هنا بخلاف آية الايتام، وذلك أن المقام يقتضي الزيادة في التهديد، لأنه في عقوبة قتل النفس عدوانا وظلما، بخلاف الآية السابقة فإنها في كل أموال اليتامى، والقتل أشد ولا شك، فزاد لهم في التهديد والتوكيد لما زاد الفعل سوءا ونكرا، ثم إنه لما قال (عدوانا وظلما) فزاد العدوان على الظلم، زاد لهم التهديد، فجاء بـ (سوف) التي هي آكد من السين، ونسب الاصلاء إلى نفسه فقال (فسوف نصليه نارا) بخلاف الآية السابقة فإنه قال (وسيصلون سعيرا) فنسبه إليهم.
ومن الطريف أن يؤتى بلفظ (السوف) الذي يفيد الهلاك والموت مع فعلة القتل بخلاف آية الايتام. ونحو ما مر قوله تعالى: {فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله} [غافر: 44].
وقوله: {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون، إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، في الحميم ثم في النار يسجرون} [غافر: 70 - 72].
وذلك أنه في الآية الأولى لم يزد التهديد على ما ذكر، وهو قوله:{فستذكرون ما أقول لكم أما في الآيات التالية فإ التهديد يطول ويستمر إلى الآية 76} ، فلما طال التهديد، وازداد جاء بـ (سوف) التي هي أطول من السين، وأكثر توكيدًا.
وقد يكون المقام مقام إطالة فيؤتى بـ (سوف)، أو مقام إيجاز فيؤتى بالسين، وذلك لزيادة حروف الأولى على الثانية، فمن ذلك قوله تعالى:{إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا} [النساء: 56]، وقوله:{والذين أمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار} [النساء: 57].
فجاء في الأولى بـ (سوف) وفي الثانية بالسين وذلك أن المقام يقتضي أن يكون كل
في موضعه، فإن الآيات التي قيلت في الكافرين تسع آيات. تبدأ بقوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 48 - 56]، بخلاف آية المؤمنين، فإنها آية واحدة وهي الآية المذكورة، فجاء في مقام اللإطالة بـ (سوف) وفي مقام الإيجاز بالسين.
ونحوه قوله تعالى: {ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيما} [النساء: 74]. وقوله: {فأما الذين أمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} [النساء: 175]. فأنت ترى أنه في الآية الأولى قال (فسوف نؤتيه) وفي الثانية قال: (فسيدخلهم في رحمة منه) وذلك للسبب نفسه، فإن الآية الأولى في سياق القتل والشهادة الذي يبدأ بالإيماء إلى الشهادة في قوله تعالى:{ومن يطع الله والرسول .. والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69].
ويستمر بالتحريض على القتال: {يأيها الذين أمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} [النساء: 71]، وتستمر آيات القتال، ومقدارها عشر آيات، بخلاف آية المؤمنين فإنها آية واحدة وهي الآية المذكورة وتأتي بعدها آية المواريث.
فاقتضي المقام أن يؤتي بـ (سوف) الكثيرة الحروف في مقام الإطالة، والسين في مقام الإيجاز. وقد يكون القصد إظهار أن ما يدعدون به قريب فيؤتى لذلك بالسين وذلك نحو قوله تعالى:{سأصليه سقر} [المدثر: 26]، وقوله:{سندع الزبانية} [العلق: 18]، وقوله:{سنفرغ لكم أية الثقلان} [الرحمن: 31]، فجاء بالسين للدلالة على أن ذلك قريب الوقوع وهو نظير قوله تعالى:{إنا أنذرناكم عذابا قريبًا} [النبأ: 40]، وقوله:{أتي أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1].
فأنت ترى أنه يستعمل كلا منهما حسبما يقتضيه المقام.