الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مذهب الظاهرية
(1)
.
فتلخص لنا من هذا الخلاف أمران:
أحدهما: يتعلق بطهارة الجلد.
وثانيهما: يتعلق بالانتفاع به.
فقيل: الدباغ لا يطهر مطلقاً.
وقيل: يطهر مطلقاً.
وقيل: يطهر جميع الجلود إلا الكلب والخنزير والإنسان.
وقيل: يطهر ما تحله الذكاة.
وقيل: يطهر ما كان طاهراً في الحياة، وإن كان محرماً أكله.
وأما يتعلق بالانتفاع به،
فقيل: يباح الانتفاع بالجلود مطلقا، سواء دبغت أم لا
(2)
.
وقيل: يباح الانتفاع بها بشرط الدبغ.
وقيل: يباح الانتفاع بها في يابس وقيل: في يابس وماء.
وهاك دليل كل قول من هذه الأقوال:
دليل من قال الدباغ لا يطهر وينتفع به بعد الدبغ في يابس أو ماء
.
قولهم مركب من ثلاث مسائل، لكل مسألة لهم فيها دليل، منها نجاسة
(1)
المحلى (1/ 118)، وذكره مذهباً لداود الظاهري ابن رشد في البيان والتحصيل (3/ 357)، وعون المعبود (11/ 179).
(2)
هذا القول يراه الإمام الزهري رحمه الله، كما في مصنف عبد الرزاق (1/ 62)، ومسند أحمد (1/ 365)، وأبو داود (4122)، مجموع الفتاوى (21/ 101)، وحكاه ابن تيمية عن بعض السلف.
جلد الميتة ولو دبغ، وأن الدباغ لا يطهر، وأنه يباح الانتفاع به في يابس أو ماء.
فأما دليلهم على نجاسة جلد الميتة ولو دبغ، فقالوا: إن الجلد جزء من الميتة، وقد قال سبحانه وتعالى:{حرمت عليكم الميتة}
(1)
، فلم يطهر بالدباغ كاللحم.
ولأن الجلد حرم بالموت فكان نجساً، كما كان قبل الدبغ.
والجواب أن يقال:
أولاً: أنتم لا تقولون بنجاسة شعر الميتة إذا جز، وهو جزء من الميتة، وسبب النجاسة في الميتة هو احتقان الدم فيها واحتباسه، ولذلك مالا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، والجلد إذا دبغ فالدباغ ينشف رطوبته ويجففه، فالميتة ثلاثة أقسام:
منها ما هو طاهر مطلقاً كالشعر إذا جز، سواء جز في حال الحياة، أو بعد الموت.
ومنها ما لا يطهر بحال كاللحم، والدم المسفوح.
ومنه ما يحكم بنجاسته ما دام متصلاً برطوبة النجاسة ودمها، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهراً. ونجاسة الجلد قبل الدباغ كنجاسة الثوب، فإذا دبغ قطعت عنه النجاسة
(2)
.
(130)
وأما دليلهم على تحريم الانتفاع به قبل الدبغ، فهو ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي
(1)
المائدة: 3.
(2)
مجموع الفتاوى بتصرف (21/ 90 - 102).
ليلى،
عن عبد الله بن عكيم، قال: أتانا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا غلام، أن لا تنتفعوا بإهاب ميتة، ولا عصب
(1)
.
[رجاله ثقات إلا أن عبد الله بن عكيم لم يثبت له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرسل، وقد اختلف في إسناده اختلافاً كثيراً]
(2)
.
(1)
المصنف (5/ 206).
(2)
الحديث في إسناده اختلاف كثير، فرواه الحكم بن عتيبة، واختلف عليه:
فقيل: عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم مرسلا.
وقيل: عن الحكم عن عبد الله بن عكيم.
وقيل: عن الحكم، عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم.
وتارة يحدث به عبد الله بن عكيم مباشرة، وتارة يرويه عبد الله بن عكيم، عن مشايخ من جهينة.
ورواه القاسم بن مخيمرة، واختلف عليه أيضاً:
فقيل: عن القاسم، عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة.
وقيل: عن القاسم، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم.
وكما اختلفوا في إسناده، اختلفوا في متنه:
فقيل: قبل وفاته بشهر.
وقيل: قبل وفاته بشهر أو شهرين على الشك.
وقيل: قبل وفاته بأربعين يوماً.
وقيل: قبل وفاته بثلاثة أيام. وهاك تفصيل ما أجمل من هذه الاختلافات:
أما حديث الباب: الحكم بن عتيبة، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم
فقد أخرجه أحمد (4/ 310،311) والمصنف (5/ 206) رقم 25278 وابن ماجه (3613) عن غندر.
وأخرجه أحمد (4/ 311) من طريق وكيع. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأخرجه الطحاوي (1/ 468) من طريق أبي عامر، ووهب بن جرير.
وأخرجه ابن حبان (1278) من طريق النضر بن شميل، كلهم، عن شعبة به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 206) رقم 25276، والنسائي في الكبرى (4576)، والصغرى (4250) وابن ماجه (3613) من طريق منصور.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 206) رقم 25277، وعنه ابن ماجه (3613) وأخرجه الترمذي (1729)، والمحاملي في أماليه (78) من طريق الشيباني.
وأخرجه ابن حبان (1277) والطبراني في الأوسط (7/ 330) رقم 7642 من طريق أبان بن تغلب.
وأخرجه الترمذي (1729) من طريق الأعمش.
وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه (1/ 439) من طريق أبي إسحاق السبيعي.
وأخرجه عبد بن حميد كما في المنتخب (488) والطبراني في الأوسط (1/ 251) رقم 822 من طريق أشعث بن سوار الأجلح.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (2/ 320) رقم 210 من طريق خالد بن كثير الهمداني، و (3/ 40) رقم 2407 من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان.
وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير (2/ 214) رقم 1050 من طريق حمزة الزيات، ثمانيتهم عن الحكم به.
هذا فيما يتعلق بطريق الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم.
وأما طريق الحكم، عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم، فقد أخرجه أبو داود (4128) ومن طريقه البيهقي (1/ 15) قال: حدثنا محمد بن إسماعيل مولى بني هاشم، قال: حدثنا الثقفي، عن خالد، عن الحكم بن عتيبة، أنه انطلق هو وناس معه إلى عبد الله بن عكيم، رجل من جهينة، قال الحكم: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إلي، فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى جهينة قبل موته بشهر، أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب.
واختلف على الثقفي، فرواه أبو داود كما سبق، عن الثقفي، عن خالد، عن الحكم، عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ورواه أحمد (4/ 310) عن الثقفي، عن خالد، عن الحكم، عن عبد الله بن عكيم، دون واسطة بين الحكم وعبد الله بن عكيم.
فصار الحكم تارة يحدث به عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم كما هي رواية الأكثر.
وتارة يحدث به الحكم عن رجال مجهولين عن عبد الله بن عكيم.
وتارة يحدث به عن عبد الله بن عكيم مباشرة دون واسطة.
وأرجحها عندي رواية شعبة والأعمش ومنصور والشيباني وأبي إسحاق ومن وافقهم عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
كما أن هناك اختلافاً آخر، فروي الحديث عن عبد الله بن عكيم كما سبق، وروي عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة، فقد روى الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 468) من طريق محمد بن المبارك، قال: ثنا صدقة بن خالد، عن يزيد بن أبي مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن عبد الله بن عكيم، قال: حدثني أشياخ من جهينة، قالوا: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء.
واختلف على صدقة بن خالد، فرواه محمد بن المبارك، عن صدقة، عن يزيد بن أبي مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة.
ورواه هشام بن عمار كما في صحيح ابن حبان (1279) عن صدقة، عن يزيد، عن القاسم، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، فيكون بين القاسم وبين ابن عكيم رجلان، بينما رواية الطحاوي يرويه القاسم عن عبد الله بن عكيم مباشرة، وهذا اختلاف ثالث في السند يضاف إلى ما سبق. ورواية هشام بن عمار أرجح لموافقتها رواية الحفاظ مثل شعبة والأعمش والشيباني وغيرهم، وفيها إرسال كما بينته سابقاً.
وأخرجه أحمد (4/ 310)، والنسائي في الكبرى (4577)، وفي الصغرى (4251) من طريق شريك، عن هلال الوزان، عن عبد الله بن عكيم، وفيه كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهينة
…
الحديث. وهذا الإسناد قد تفرد به شريك، عن هلال، وشريك سيء الحفظ.
وقد ضعف الحديث بعض العلماء.
قال الترمذي (4/ 194): سمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه قبل موته بشهرين، وكان يقول: كان هذا آخر أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده، حيث روى بعضهم، فقال: عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة.
وجاء في التمهيد (4/ 164): قال داود بن علي: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث فضعفه، وقال: ليس بشيء، إنما يقول: حدثني الأشياخ.
وبعد أن ساق ابن عبد البر الاختلاف في إسناده، قال: وهذا اضطراب كما ترى يوجب التوقف عن العمل بمثل هذا الخبر. المرجع السابق.
وقال النووي: حديث ابن عكيم أعل بأمور ثلاثة:
أحدها: الاضطراب في إسناده.
الثاني: الاضطراب في متنه، فروي قبل موته بثلاثة أيام، وروي بشهرين، وروي بأربعين يوماً.
الثالث: الاختلاف في صحبته، قال البيهقي وغيره: لا صحبة له، فهو مرسل. انظر نصب الراية (1/ 121).
وصحح الحديث بعض العلماء، قال ابن حبان رحمه الله (4/ 96): هذه اللفظة: " حدثنا مشيخة لنا من جهينة " أوهمت عالماً من الناس أن الخبر ليس بمتصل، وهذا مما نقول في كتابنا: إن الصحابي قد يشهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويسمع منه شيئاً، ثم يسمع ذلك الشيء عن من هو أعظم خطراً منه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمرة يخبر عما شاهد، وأخرى يروي عمن سمع، ألا ترى أن ابن عمر شهد سؤال جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، وسمعه من عمر بن الخطاب؟ فمرة أخبر بما شاهد، ومرة روى عن أبيه ما سمع، فكذلك عبد الله بن عكيم، شهد كتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قرئ عليهم في جهينة، وسمع مشايخ جهينة يقولون ذلك، فأدى مرة ما شهد، وأخرى ما سمع، من غير أن يكون في الخبر انقطاع. اهـ
قلت: لا يقال مثل ذلك إلا بقرينة، كما لو حدث راو الحديث عن شيخين، فإنه يحكم باضطراب روايته إلا إن جاءت قرينة تدل على أنه سمع منهما، كما لو جمعهما جميعاً في إسناد واحد، والله أعلم.
وقال ابن حجر: أعله بعضم بالإنقطاع، وهو مردود، وبعضهم بكونه كتاباً، وليس بعلة قادحة، وبعضهم بأن ابن أبي ليلى راويه عن ابن عكيم لم يسمعه منه لما وقع عند أبي داود عنه أنه انطلق، وناس معه إلى عبد الله بن عكيم، قال: فدخلوا وقعدت على الباب، =
وأجيب:
أولاً: ضعف حديث عبد الله بن عكيم.
ثانيا: لو صح الحديث، فلا حجة فيه؛ لأن الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ.
قال أبو داود: قال النضر بن شميل، وإنما يسمى إهاباً ما لم يدبغ
(1)
.
وقال البيهقي: وهو محمول عندنا على ما قبل الدبغ
…
الخ
(2)
.
= فخرجوا إلي فأخبروني، فهذا يقتضي أن في السند من لم يسم، ولكن صح تصريح عبد الرحمن بن أبي ليلى بسماعه من ابن عكيم، فلا أثر لهذه العلة أيضاً. اهـ
قلت: وهم الحافظ هنا رحمه الله، حيث تصور أن ابن ليلى هو الذي سمعه من رجال مجهولين، والصحيح أن هذا وقع مع الحكم بن عتيبة، وليس في سند أبي داود الذي أشار إليه الحافظ ذكر لعبد الرحمن بن أبي ليلى حيث ساق أبو داود (4128) إسناده إلى الحكم بن عتيبة قال: أنه انطلق هو وناس معه إلى عبد الله بن عكيم رجل من جهينة، قال الحكم: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إلي فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم.
وسبب وهم الحافظ، والله أعلم أنه تابع ابن دقيق العيد، فقد قال ابن دقيق الكلام نفسه كما في نصب الراية، فتبعه الحافظ دون أن ينظر في إسناد أبي داود عليهم رحمة الله جميعاً.
وقد يجيب غير الحافظ بأن الحكم صرح بسماعه من عبد الرحمن فلا أثر لهذه العلة، والجواب أن الحكم قد اختلف عليه في إسناده اختلافاً كثيراً كما بينت سابقاً، فتارة يحدث به عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، وتارة يحدث به عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم، وتارية يحدث به عن عبد الله بن عكيم مباشرة.، فهذا اختلاف بين، كما أنه ليس الاختلاف الوحيد في السند، فارجع إلى طرق الحديث السابقة يتبين لك ما ذكرت، والله أعلم.
(1)
سنن أبي داود (4218).
(2)
سنن البيهقي (1/ 15).
وقال ابن حبان: ومعنى خبر عبد الله بن عكيم: " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " يريد به قبل الدباغ، والدليل على صحته قوله صلى الله عليه وسلم: أيما إهاب دبغ فقد طهر
(1)
.
وقال ابن حجر: وأقوى ما تمسك به من لم يأخذ بظاهره معارضة الأحاديث الصحيحة له، وأنها عن سماع، وهذا عن كتابة، وأنها أصح مخارج. وأقوى من ذلك: الجمع بين الحديثين بحمل الإهاب على الجلد قبل الدباغ، وأنه بعد الدباغ لا يسمى إهاباً، وإنما يسمى قربة وغير ذلك، وقد نقل ذلك عن أئمة اللغة كالنضر بن شميل، وهذه طريقة ابن شاهين، وابن عبد البر، والبيهقي، وأبعد من جمع بينهما بحمل النهي على جلد الكلب والخنزير لكونهما لا يدبغان، وكذا من حمل النهي على باطن الجلد، والإذن على ظاهره " اهـ.
وقول الحنابلة: إن حديث عبد الله بن عكيم ناسخ لما قبله، فهذا أيضاً قول فيه ضعف:
أولاً: مبني على الحكم بتأخره، وهذا غير مقطوع به، وكونه جاء في حديث عبد الله بن عكيم قبل وفاته بشهر أو بشهرين ليس جزماً بالتأخير؛ لأنه قد يكون قوله " إذا دبغ الإهاب فقد طهر " قبل موته بيوم أو يومين
(2)
.
ثانياً: لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع، وهذا الجمع غير متعذر،
(1)
صحيح ابن حبان (4/ 96).
(2)
قال ابن عبد البر في التمهيد (4/ 165): وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر، كما جاء في الخبر، فممكن أن تكون قصة ميمونة (وسماع ابن عباس منه قوله: إيما إهاب دبغ فقد طهر) قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم.