الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
د - عن حفص عن أنس بن مالك أَنه قال «انطُلِقَ بنا إلى الشام إلى عبد الملك ونحن أربعون رجلاً من الأنصار لِيَفْرِضَ لنا، فلما رجع وكنا بفجِّ الناقة صلى بنا العصر ثم سلم ودخل فسطاطه، وقام الناس يضيفون إلى ركعتيه ركعتين أخريين قال، فقال: قبَّح الله الوجوه، فوالله ما أصابت السُّنَّة ولا قُبلت الرخصة
…
» رواه أحمد. وروى أحمد من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير أن معاوية صلى في مكة ركعتين فترة ثم صلى أربعاً.
فعائشة وعثمان وأربعون من الأنصار ومعاوية كلهم صلوا في السفر أربعاً، وطبعاً صلى عثمان وكذلك معاوية أربعاً يأتمُّ بهما ناسٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كانت الصلاة الرباعية غير جائزة للمسافر لمَا حصل ما حصل من هؤلاء الصحابة، ولمَا أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فعل عائشة هذا، فالصحيح أن القصر في السفر رخصة وليس عزيمة كما يقول بذلك عدد من الفقهاء.
مسافة القصر
لقد اختلف الأئمة والفقهاء اختلافاً كبيراً في تقدير المسافة التي لا بدَّ من أن يقطعها المسافر حتى يجوز له أن يقصر الصلاة، حتى إنَّ محمد بن المنذر قد أوصل هذه الآراء إلى العشرين، ونحن نكتفي باستعراض أبرز الآراء هذه، لا سيما وأن معظمها لا دليل معتبراً عليها، ثم نناقشها مع أدلتها وشُبُهاتها بشئ من التفصيل، حتى نقف على الصواب في هذه المسألة بإذن الله تعالى.
أ - رأي الأحناف: جاء في كتاب المبسوط لشمس الدين السرخسي، وهو عُمدة كتب الأحناف، ما يلي [
…
والخارج إلى حانوتٍ أو إلى ضيعةٍ لا يسمى مسافراً، فلا بد من إثبات التقدير لتحقيق اسم المسافر، وربما قدَّرنا بثلاثة أيامٍ لحديثين، أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم «لا تسافر المرأةُ فوق ثلاثةِ أيامٍ ولياليها إلا ومعها زوجها، أو ذو رحمٍ محرمٍ منها» معناه ثلاثةَ أيام، وكلمة فوق صلةٌ في قوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق، وهي لا تمنع من الخروج لغيره بدون محرمٍ. وقال صلى الله عليه وسلم «يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيامٍ ولياليها» فهو تنصيص على أن مدة السفر لا تنقص عما يمكن استيفاء هذه الرخصة فيها، والمعنى فيه أن التخفيف بسبب الرخصة لما فيه من الحرج والمشقة، ومعنى الحرج والمشقة أن يحتاج إلى أن يحمل رَحلَهُ من غير أهله ويحطه في غير أهله، وذلك لا يتحقق فيما دون الثلاثة
…
] إلى أن قال [ولا معنى للتقدير بالفراسخ، فإن ذلك يختلف باختلاف الطرق في السهول والجبال والبر والبحر، وإنما التقدير بالأيام والمراحل، وذلك معلوم عند الناس فيرجع إليهم عند الاشتباه، فإذا قصد مسيرة ثلاثة أيام قصر الصلاة] وقد شاركهم الرأي هذا سعيد بن جُبَير وسفيان الثوري، ونُسب إلى عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم. فالمسافر في رأي الأحناف لا يجوز له أن يقصر الصلاة في أقل من مسيرة ثلاثة أيام، ولا عبرة عندهم بتقدير المسافة بالأميال والفراسخ، وإنما التقدير بالأيام والمراحل.
ب - رأي المالكية: جاء في كتاب المدونة الكبرى للإمام مالك ما يلي:
[قال ابن القاسم: كان مالك يقول قبل اليوم: يقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة، ثم ترك ذلك، وقال مالك: لا يقصر الصلاة إلا في مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً كما قال ابن عباس في أربعة بُرُدٍ] .
فالمسافر في رأي المالكية لا يجوز له أن يقصر الصلاة في أقل من مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً، وهي تعادل ستة عشرَ فرسخاً، أو 88.7 كيلو متراً.
ج - رأي الشافعية: جاء في كتاب الأم للشافعي ما يلي:
[
…
فللمرء عندي أن يقصر فيما كان مسيرة ليلتين قاصدتين، وذلك ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي، ولا يقصر فيما دونها، وأما أنا فأحبُّ أن لا أقصر في أقل من ثلاث احتياطاً على نفسي، وأن ترك القصر مباح لي. فإن قال قائل: فهل في أن يقصر في يومين حجة بخبرٍ متقدم؟ قيل: نعم عن ابن عباس وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أخبرنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس أنه سئل: أتقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، ولكن إلى عُسْفان وإلى جدة وإلى الطائف، قال: وأقرب هذا من مكة ستةٌ وأربعون ميلاً بالأميال الهاشمية، وهي مسيرة ليلتين قاصدتين دبيبَ الأقدام وسيرَ الثقل، أخبرنا مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة، أخبرنا مالك عن نافع عن سالم أن ابن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيرة ذلك، قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربعة بُرُدٍ، أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيرة ذلك، قال مالك: وذلك نحوٌ من أربعة بُرُدٍ] .
فالمسافر في رأي الشافعي يصح له أن يقصر في مسيرة ليلتين قاصدتين، وهي تعادل ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي، أي مسافة 85 كيلومتراً. ويحتاط الشافعي لنفسه فيقصر في مسيرة ثلاث ليالٍ، وهذه تعادل 127.5 كيلو متراً.
د- رأي الحنابلة: جاء في كتاب المغني لابن قدامة الحنبلي ما يلي:
[وإذا كانت مسافة سفره ستة عشرَ فرسخاً أو ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي فله أن يقصر. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله - أي لأحمد بن حنبل - في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة بُرُدٍ، قيل له: مسيرة يومٍ تامٍّ؟ قال: لا، أربعةُ بُرُدٍ ستة عشرَ فرسخاً ومسيرة يومين.
فمذهب أبي عبد الله أن القصر لا يجوز في أقل من ستةَ عشرَ فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، فيكون ثمانية وأربعين ميلاً، قال القاضي: والميل اثنا عشر ألف قدمٍ، وذلك مسيرة يومين قاصدين، وقد قدره ابن عباس فقال: من عُسْفان إلى مكة، ومن الطائف إلى مكة، ومن جدة إلى مكة
…
، فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين، وهذا قول ابن عباس وابن عمر، وإليه ذهب مالك والليث والشافعي وإسحق] وأضاف ابن قُدامة إلى ما سبق ما يلي [وروي عن ابن عمر أنه يقصر في مسيرة عشرة فراسخ، قال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر كان يقصر إلى أرضٍ له وهي ثلاثون ميلاً، وروي نحو ذلك عن ابن عباس، فإنه قال: يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه، وإليه ذهب الأوزاعي، وقال عامة العلماء: يقولون مسيرة يومٍ تامٍّ، وبه نأخذ
…
] فالمسافر في رأي أحمد بن حنبل يحتاج لأن يقطع مسافةَ ثمانيةٍ وأربعين ميلاً حتى يجوز له القصر، وهي تعادل 88.7 كيلو متراً، وهو رأي مالك. إلا أن ابن قُدامة لم يلتزم برأي إمامه وإنما أخذ بقول عامة العلماء بتقدير المسافة بمسيرة يومٍ تامِّ، وهي تعادل أربعةً وعشرين ميلاً، أي 44.35 كيلو متراً فقط، دون أن يذكر من هم هؤلاء العلماء.
هـ - رأي ابن حزم، وهو من علماء أهل الظاهر: جاء في كتابه المسمى المحلى ما يلي [والسفر هو البروز عن محلة الإقامة، وكذلك الضرب في الأرض، هذا الذي لا يقوم أحدٌ من أهل اللغة - التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن - سواه، فلا يجوز أن يخرج عن هذا الحكم إلا ما صحَّ النصُّ بإخراجه، ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا ولم يفطروا، ولا أفطر ولا قصر، فخرج هذا عن أن يسمى سفراً، وعن أن يكون له حكم السفر، فلم يَجُزْ لنا أن نُوقِع اسم السفر إلا على من سماه من هو حجة في اللغة سفراً، فلم نجد ذلك في أقلَّ من ميلٍ، فقد روينا عن ابن عمر أنه قال «لو خرجت ميلاً لقصرتُ الصلاةَ» ] . وأضاف ابن حزم ما يلي [وأما نحن فإن ما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر فلا يقصر فيه ولا يفطر، فإذا بلغ الميل فحينئذ صار في سفره تُقصَر فيه الصلاة ويُفطَر فيه، فمن حينئذ يقصُرُ ويُفطِرُ] .
فالمسافر في رأي ابن حزم يقصر الصلاة في مسيرة ميل واحد خارج بيوت المدينة أو القرية وتعادل 1848 متراً، أي كيلو متراً واحداً وثمانية أعشار الكيلومتر.
وللعلم فقط أذكر لكم آراء أخرى في هذه المسألة قال بها عدد من الفقهاء دونما حاجة منا لمناقشتها، أنقلها لكم من كتاب المحلى لابن حزم وهذه هي [أما من قال بتحديد ما يقصر فيه بالسفر من أُفق إلى أُفق، وحيث يحمَل الزاد والمزاد، وفي ستة وتسعين ميلاً، وفي اثنين وثمانين، وفي اثنين وسبعين ميلاً، وفي ثلاثة وستين ميلاً، أو في واحد وستين ميلاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً، أو خمسة وأربعين ميلاً، أو أربعين ميلاً، أو ستة وثلاثين ميلاً] .
ونحن قبل أن نبدأ بالمناقشة التفصيلية نذكر جملة من البنود الأصولية المعتبرة:
أ - إن الحكم حتى يكون شرعياً لا بد من أن يؤخذ من الشرع، أي من أدلته المعتبرة، وهي الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس فقط، وما سوى هذه الأدلة الأربعة لا تصلح عندنا للاحتجاج، ولا يكون الحكم المستنبط منها حكماً شرعياً في حقنا نحن.
ب - إن قول الصحابي حتى يكون دليلاً شرعياً لا بد من أن يُجمِعَ الصحابةُ عليه، أما إن قال صحابي أو عشرة من الصحابة أو حتى مائة منهم قولاً، وجاء صحابة آخرون بقولٍ أو أقوالٍ مخالِفة، فإن ذلك يعني أنَّ أياً من هذه الأقوال لا تعتبر دليلاً شرعياً، وكل ما يقال فيها أنها أحكام شرعية اجتهادية بحق من قال بها، ومن قلَّدها أو اتَّبعها فقط.
ج - إن الحقائق الشرعية مقدَّمة على الحقائق اللغوية، ولا يُعمل بالحقائق اللغوية إلا في حالة عدم وجود حقائق شرعية، ولا يجوز العكس مطلقاً تحت أي ظرف من الظروف.
د - إذا جاء قولٌ أو فعلٌ لصحابي، ثم جاء قولٌ أو فعلٌ مغايرٌ لصحابي آخر فإن ذلك يعني أنه قولٌ أو فعلٌ اجتهاديٌّ، وليس قولاً أو فعلاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا نُقل عن صحابي واحدٍ قولان أو فعلان مختلفان كان ذلك مَدْعاةً لرفض كلا القولين أو الفعلين وعدم جواز العمل بأيًّ منهما، إلا أن يكون أحدهما قد نُقل بسند ضعيف فيُطرح، ويؤخذُ الآخر إن كان قد نُقل بسند صحيح أو حسنٍ.
هـ - إذا ورد في مسألةٍ نصٌّ من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد في المسألة نفسها قول صحابي أُخِذ فقط بالنص من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك قول الصحابي، إلا أن يكون هذا القول شرحاً أو تفسيراً للنص، فلا بأس بأخذه عندئذٍ.
و - إذا ورد نصٌّ في مسألة عولجت المسألةُ بهذا النص وقُصِرَ النصُّ عليها، ولم يَجُزْ علاج أية مسألة أخرى به، إلا أن تكون بين المسألتين علةٌ مشتركةٌ ظاهرةٌ في النص صراحةً أو دلالةً، وإلا فلا قياس مطلقاً لا سيما في العبادات.
بالاتفاق على هذه البنود الأصولية، وبالنظر في آراء الأئمة الأربعة وغيرهم التي استعرضناها آنفاً على ضوء هذه البنود نستطيع بسهولة ويُسرٍ أن نردَّ جميع هذه الآراء، ونُظهر خطأها كلها، ونُثبت أن الصواب قد جانب الجميع فيها، وأنها كلها قد جاءت مخالِفةً للنصوص الشرعية الواردة في هذه المسألة. أما كيف؟ فإليكم البيان:
1 -
مناقشة رأي الأحناف: استدلَّ الأحناف على تقدير مسافة القصر بقوله عليه الصلاة والسلام «لا تُسافر المرأةُ فوق ثلاثة أيامٍ ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحِمٍ محرمٍ منها» وبقوله صلى الله عليه وسلم «يمسح المقيم يوماً وليلةًً والمسافرُ ثلاثة أيامٍ ولياليها» .
فنقول لهؤلاء ما يلي: إن هذين الحديثين لا يدلان على دعواهم بحالٍ من الأحوال، وذلك أن الحديث الأول قد جاء في موضوعٍ خاصٍّ بسفر المرأة فيُقصَرُ عليه ولا يتعداه إلى غيره، والمعلوم فقهياً أن النص إذا جاء مخاطباً النساء قُصِرَ عليهن ولم يدخل فيه الرجال بحال، فلا يشمل هذا الحديث سفر الرجل، فضلاً عن أنه في غير موضوع قصر الصلاة.
وأما الحديث الثاني فقد جاء في موضوع المسح في الوضوء فيُقصَرُ عليه، ولا يُنقلُ إلى موضوع قصر الصلاة في السفر. وإذن فإن هذين الحديثين لا يصح أن يؤتى بهما على موضوعنا، فسفر المرأة غير قصر الصلاة، والمسح في الوضوء غير قصر الصلاة، فهذه ثلاثة مواضيع منفصلة متباعدة لا تجمع بينها علةٌ ظاهرةٌ لا صراحةً ولا دلالةً حتى يصح القياس. ولا يقال إن السفر هو علةٌ مشتركة بين هذه المواضيع، لا يقال ذلك لأن السفر هنا ليس علةٍ وإنما هو سبب، والسبب لا يقاس عليه. وعليه، وحيث أن هذين النصين قد جاءا في موضوعين منفصلين تماماً عن موضوع قصر الصلاة، وحيث أنهما لا يشتركان مع قصر الصلاة بأية علة، فإن القياس هنا لا يصح.
ثم إن هؤلاء قد نظروا في لفظ هذين الحديثين فوجدوا فيهما لفظة السفر، ووجدوا هذه اللفظة قد جاءت بصدد السير ثلاثة أيام ولياليها، فقالوا: ما دام السير ثلاثة أيام ولياليها وُصف بأنه سفر، فإنا نقول إن المسافر هو من سار هذه المدة الزمنية أو أكثر منها، وليس أقل منها، وبذلك يصح له دون غيره قصر الصلاة. فنقول لهم ما يلي:
إننا لا نخالفهم في أن السير ثلاثة أيام ولياليها يعتبر سفراً، ولكننا نقول إن الثلاثة أيام ولياليها لم تأت في الحديثين شرطاً ولا تقييداً للسير حتى يعتبر سفراً، وإنما جاءت تقييداً زمنياً لسفر المرأة وللمسح في الوضوء فحسب، ولا أدل على خطأ دعواهم من الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلة ليس معها حرمة» رواه البخاري ومسلم. قوله: حرمة: أي رجل محرم بنسب أو قرابة. فهذا نص صحيح صريح على أن مسيرة يوم وليلة يطلق عليها اسم السفر، وهي ثلث المسيرة التي جعلوها شرطاً وتقييداً للسير حتى يصح إطلاق اسم السفر عليه.
بل إن هناك أحاديث صالحةً أطلقت اسم السفر على ما دون هذا وذاك بكثير، فعن اللجلاج قال «كنا نسافر مع عمر بن الخطاب، فنسير ثلاثة أميال فيتجوَّز في الصلاة ويقصر» رواه ابن أبي شيبة. وعن محارب بن دثار قال: سمعت ابن عمر يقول «إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر» رواه ابن أبي شيبة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تسافر امرأةٌ بريداً إلا مع ذي محرم» رواه البيهقي وأبو داود. والبريد أربعة فراسخ، وتقدر بـ 22 كيلو متراً. وهذه المسافة تقطع في نصف يوم تقريباً. فماذا يقول إخواننا الأحناف؟ إن مما لا شك فيه أن الحديثين اللذين استنبطوا منهما القصر لا يفيدانهم، وأن هذين الحديثين لا علاقة لهما من قريب أو بعيدٍ بموضوع مسافة القصر.
2 -
مناقشة رأي المالكية: رأي المالكية مأخوذٌ من قول منسوب لابن عباس رضي الله عنه فهو إذن اتباع لابن عباس لا اجتهادٌ منهم في النصوص، فمن أحب أن يقلد، أو يتَّبِع ابن عباس كما فعل مالك فليفعل، ولكننا هنا لسنا بصدد تقليد أو اتباع أحد، وإنما نريد أن نستنبط الحكم الشرعي من النصوص الشرعية، وسنذكر عدداً من النصوص الشرعية لاحقاً تعارض قول ابن عباس هذا، ومن ثَم قول المالكية، مما يُظهرُ خطأ هذا الرأي.
ثم إن أقوال الصحابة - وهي ليست أدلة شرعية - تعتبر غير صالحة للاحتجاج إن هي تعارضت واختلفت، ونحن في مسألتنا هذه نجد أقوال صحابةٍ وأفعالاً لصحابةٍ تخالف قول ابن عباس رضي الله عنه، مما يضطرنا إلى عدم أخذ هذا الرأي، فعن محمد ابن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال «يقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال» رواه ابن أبي شيبة. ومر قبل قليل حديث اللجلاج «كنا نسافر مع عمر بن الخطاب، فنسير ثلاثة أميال فيتجوَّز في الصلاة ويقصر» رواه ابن أبي شيبة. فالمسألة ليست مسألة انتقاءِ أقوالٍ من أقوالٍ دون سندٍ شرعي.
3 -
مناقشة رأي الشافعية: رأي الشافعية اتِّباع هو الآخر لابن عباس وابن عمر فيما نُسبَ إليهما، وليس اجتهاداً في النصوص الشرعية، انظروا في مسند الشافعي يقول ما يلي [أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح قال «قلت لابن عباس: أقصُرُ إلى عرفة؟ قال:لا، ولكن إلى جدة وعُسفان والطائف، وإن قدمتَ على أهلٍ أو ماشيةٍ فأَتم» . (قال) وهذا قول ابن عمر، وبه نأخذ] . فهو قول واضح تماماً أنه اتِّباع لابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما. وأكرر القول إننا هنا لسنا بصدد تقليد أو اتباع أحد، وإنما نريد أن نستنبط الحكم الشرعي من النصوص الشرعية، وهي متوافرة في مسألتنا هذه، وستأتي بإذن الله.
4 -
مناقشة رأي الحنابلة: القول فيه هو القول نفسه في رأي الشافعية، فالحنابلة قد اتَّبعوا بعض الصحابة، ولم يستدلوا على تقدير المسافة بالنصوص الشرعية، والغريب أنَّ ابن قُدامة، وهو فقيه الحنابلة المقدَّم، لم يأخذ برأي إمامِه أحمد، ولم يقلد أو يتَّبع صحابةً، ولم يستند إلى نص شرعي، وإنما اتَّبع، كما يقول، عامةَ العلماء، فأخذ بمسيرة يومٍ تامٍّ، وليتهُ ذكر لنا أسماء عامة العلماء هؤلاء، أو عددهم على الأقل، فأخطأ خطأين اثنين: أولهما أنه لم يستدل على رأيه بالنصوص الشرعية، والثاني أنه قلَّد أو قل اتَّبع عامة العلماء كما قال، مع أن علماء المذاهب الأربعة هم عامة العلماء، وهم لا يقولون بهذا القول.
5 -
مناقشة رأي ابن حزم: إن ابن حزم بحث المسألة بحثاً لُغوياً، وبنى رأيه على دلالة اللغة، فذكر أن السفر لغةً هو البروز عن محلة الإقامة، وكذلك الضرب في الأرض فأطلق السفر وجعل مطلق السفر يبيح القصر، ولكنه وقد قضى بما قضى به أحبَّ أن يستشهد بقول صحابي على صحة رأيه المبني على دلالة اللغة، فروى قولاً لابن عمر «لو خرجتُ ميلاً لقصرتُ الصلاة» ورواه أيضاً ابن أبي شيبة.
ولقد أخطأ ابن حزم خطأين اثنين: أولهما أنه بنى رأيه على دلالة اللغة، في حين أن هناك نصوصاً شرعيةً حددت مسافة القصر لم يأتِ على ذكرها. والثاني أنه استشهد، ولنقل استأنس بقول ابن عمر ولم يستدلَّ به، وحتى لو استدل به فإنه يبقى مخطئاً، فهو لم يأخذ بقول ابن عمر، وإنما أخذ بدلالة اللغة، ثم أورد قول ابن عمر لأنه رآه يؤيد ما توصَّل إليه، هذا إضافة إلى أن ابن عمر قد رويت عنه أفعال ٌ وأقوالٌ تعارض هذا القول المنسوبة إليه مما يجعلنا لا نطمئن إلى هذا الاستشهاد، ولا نقبل الاحتجاج به. فعن محمد بن زيد بن خُلَيدة عن ابن عمر قال «يَقْصُرُ الصلاةَ في مسيرة ثلاثة أميال» رواه ابن أبي شيبة. وعن نافع عن سالم «أن ابن عمر خرج إلى أرضٍ له بذات النصب فقصر وهي ستةَ عشرَ فرسخاً» رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والشافعي.وعن محارب بن دثار قال: سمعت ابن عمر يقول «إني لأُسافر الساعةَ من النهار فأقصر» رواه ابن أبي شيبة. وهذا عبد الرزاق قد ذكر في مصنَّفه عن ابن عمر عدة روايات مختلفة في تقدير مسافة القصر، فروى عنه أن مسافة القصر هي من المدينة إلى خيبر، وهي تعادل ستةً وتسعينَ ميلاً، وأن المسافة هي من المدينة إلى السُّويداء، وهي تعادل اثنين وسبعين ميلاً، وأنها من المدينة إلى ريم، وهي تعادل ثلاثين ميلاً، فكيف يُجيز ابن حزم وغيره ممن ينهج نهجه أن يستدل أو يستشهد على تقدير المسافة بقولٍ لابن عمر أو بفعلٍ له، وقد تعددت أقواله وأفعاله المروية عنه واختلفت؟
إن ابن حزم قد أخطأ بالاستشهاد بقول ابن عمر، وإن الشافعي قد أخطأ في الاستدلال بفعل ابن عمر الدال على أن القصر في أربعة بُرُدٍ، وإن الحنابلةَ قد أخطئوا بتقليد أو اتباع ابن عمر، فكل من استدل أو استشهد أو قلد أو اتبع ابن عمر رضي الله عنه في هذه المسألة فقد جانبه الصواب.
إن أقوال الصحابة إن تعارضت لم تقم بها حجة، وإن أقوال الصحابي الواحد إن تعارضت اعتُبرت لا قيمة لها، ولم يصح الاستدلال ولا الاستشهاد بها، وقد جاءت أقوال الصحابة في مسألتنا هذه متعارضةً ومختلفةً كثيراً، مما يدعونا إلى طرحها كلها، وعدم الاحتجاج بها مطلقاً، لا سيما وأن في هذه المسألة عدداً من النصوص الشرعية الصحيحة الكافية لاستنباط حكم هذه المسألة منها. قال ابن قُدامة صاحب المُغني [قال المصنف: ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة، لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولا حجة فيها مع الاختلاف، وقد روي عن ابن عباس وابن عمر خلاف ما احتج به أصحابنا ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه لوجهين (أحدهما) أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي رويناها،
…
(والثاني) أن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، لا سيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه
…
] . ولقد أصاب ابن قدامة في قوله هذا وأجاد.
أما النصوص التي جاءت تعالج هذه المسألة فهي:
أ - عن جُبير بن نُفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعةَ عشر أو ثمانية عشر ميلاً، فصلى ركعتين، فقلت له، فقال «رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى بذي الحُليفة ركعتين، فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل» رواه مسلم وأحمد والنسائي والبيهقي وابن أبي شيبة. وذو الحليفة: موضع يبعد عن المدينة ستةَ أميالٍ أو سبعة أميالٍ تقريباً.
ب - عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحُليفة ركعتين» رواه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي والترمذي. ورواه أحمد وزاد في آخره «آمناً لا يخاف في حجة الوداع»
ج - عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة، فقال:
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ - شُعبةُ الشاكُّ - صلى ركعتين» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والبيهقي وابن أبي شيبة.
د - عن أبي هارون عن أبي سعيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فرسخاً قصر الصلاة» رواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور.
الحديث الرابع فيه أبو هارون ضعَّفه القطان وأحمد وابن معين وأبو زُرعة وأبو حاتم الرازي والنسائي، ولم أجد مَن وثقه أو قبله، فيترك الحديث. فتبقى عندنا ثلاثة أحاديث صحيحة.
الحديثان الأول والثاني يذكران أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة - وهي تبعد عن المدينة ستةَ أميال أو سبعة أميال - ركعتين، وجاء في الحديث الثاني أنها كانت صلاة العصر. وذكر حديث أحمد أن ذلك كان في حجة الوداع، وفي ذلك دلالة على تأخر هذه الحادثة مما ينفي عنها حصول النسخ. فهذان نصان صحيحان يدلان على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قصر الصلاة الرباعية عندما سافر ما بين ستة أميال وسبعة، فلماذا لم يأخذ الأئمة الأربعة بهذين النصين؟ وإنما راح ثلاثة منهم ينظرون في أقوال الصحابة، ويستنبطون منها الأحكام رغم تعارضها واختلافها، أو في أدلة ليست في المسألة كما فعل الأحناف؟!
إن هذين الحديثين يبطلان أقوال الأئمة الأربعة بشكل واضح، فلا مسيرة ثلاثة أيام ولا مسيرة يومين، ولا مسيرة يوم وليلة، ولا مسيرة ميل واحد تصلح لتقدير مسافة القصر، فوجبت العودة عن هذه الأقوال، والتقيد بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء الحديث الثالث فيصلاً في هذه المسألة، فهو لم يذكر حادثة عين واحدة، وإنما نص على ديمومة هذا الفعل بدلالة قول الحديث (إذا خرج) وهو تشريع صريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شرع للمسلمين القصر إن هم سافروا ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ. والشك هذا من الراوي شعبة، فمن سافر من المسلمين ثلاثة أميال، أو سافر منهم ثلاثة فراسخ جاز له القصر. وحيث أن الفرسخ ثلاثة أميال، فيكون معنى الحديث أن من سافر ثلاثة أميال أو سافر تسعة أميال، قصر الصلاة. فتصبح عندنا ثلاثة أقوال محتملة في هذه المسألة: ثلاثة أميال، وسبعة أميال، وتسعة أميال، ونحن نأخُذُ بالأكثر منها احتياطاً وهو تسعة أميال وتبلغ حوالي سبعة عشر كيلو متراً. فهذه هي المسافة التي قدرتها الأحاديث النبوية الصحيحة، فوجب الأخذُ بها والالتزامُ بها، وردُّ جميع أقوال الصحابة المتعارضة والمخالفة لهذا التقدير الشرعي.
وليتهم، غفر الله لهم وعفا عنهم، أخذوا بالبنود الستة التي ذكرناها، وهي بنود صحيحة لا غبار عليها، ليخرجوا بمثل ما خرجنا به من تقديرٍ لمسافة القصر، ولكنهم لم يفعلوا، وبدلاً من أن يأخذوا النص الشرعي، ثم إن وجدوا أقوال صحابة أولوها بما يتفقوا معه أو ردوها، رأيناهم يأخذون أقوال الصحابة كتشريع، ويقومون بتأويل النص الشرعي تأويلاً بعيداً، أي هم قاموا بعكس ما كان يجب عليهم أن يفعلوا، فهذا النص الشرعي، أعني الحديث الثالث، قد أولوه بأن المقصود منه بدء القصر عند السفر الطويل بمعنى أن من نوى السفر ثلاثة مراحل، أو مرحلتين، أو أربعة بُرُد مثلاً، جاز له القصر إن هو قطع ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، فنقلوا هذا النص من موضوعه، وهو تقدير مسافة القصر إلى آخر هو: متى يبدأ القصر؟ وشتان بين الموضوعين، ولقد أخطئوا عندما لم يتقيدوا بهذا النص في تقدير المسافة، وزاد الخطأ منهم عندما أولوه بقولهم إنه نصٌّ في بدء القصر فحسب. ولبيان هذا الخطأ نقول ما يلي:
1 -
إن الإجماع عند الإئمة الأربعة هو أن من أراد أن يسافر فله أن يقصر بمجرد الخروج عن آخر بيت من بيوت المدينة أو القرية، وهذا يعني أن من غادر آخر بيت وابتعد عنه مائة متر فقط، أو حتى أقل من ذلك فإن له أن يقصر عندهم فلماذا يضعون حديث أنس في هذا المقام، وهو ينص على مسيرة ثلاثة أميال على الأقل، قبل بدء القصر عندهم؟ أليس في هذا تناقض؟ إنهم إما أن يبقوا على إجماعهم، وإما أن يأخذوا بهذا النص ويدَعوا الإجماع، لأن النص والإجماع، متعارضان هنا.
2 -
إن تأويلهم منقوض ومغلوط، وذلك أن هذا النص لم يجئ في موضوع بدء القصر، وإنما جاء في موضوع تقدير مسافة القصر، وأدَعُ ابن حجر العسقلاني، وهو شافعي المذهب، وصاحب كتاب فتح الباري بشرح البخاري يرد عليهم دعواهم، فقد جاء في هذا الكتاب ما يلي [وحكى النووي أن أهل الظاهر ذهبوا إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال، وكأنهم احتجوا في ذلك بما رواه مسلم وأبو داود من حديث أنس قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال - أو فراسخ - قصر الصلاة» وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه، وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر، ولا يخفى بُعْدُ هذا الحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال «سألت أنساً عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة - يعني من البصرة - فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع، فقال أنس» فذكر الحديث، فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يبتدأ القصر منه، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها
…
] وهكذا يظهر بوضوح أن من أراد سفراً يبلغ سبعة عشر كيلومتراً أو أكثر فإن له أن يقصر الصلاة الرباعية. هذا هو الحكم الشرعي الصحيح في هذه المسألة.
أما بدء قصر الصلاة، فإنه يحصل بمجرد الخروج عن آخر بيت من بيوت المدينة أو القرية، أي بمجرد مغادرة المدينة أو القرية التي يسكنها، ويستمر في القصر إلى أن يصل إلى أول بيت من بيوت المدينة أو القرية لدى عودته من سفره. قال البخاري «وخرج علي رضي الله عنه فقصر وهو يرى البيوت، فلما رجع قيل له: هذه الكوفة، قال: لا، حتى ندخلها» . ولا يوجد نص في هذه النقطة، فنستأنس بهذا الأثر.