الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحثنا في الفصل السابق تحت عنوان [صفة الصلاة] مُكوِّنات الصلاة من أقوال وأفعال، فذكرنا الأقوال والأفعال التي تشكل بمجموعها الصلاة، ونريد أن نبحث في هذا الفصل تحت عنوان [القنوت والخشوع في الصلاة] معاني هاتين اللفظتين وما تدلان عليه، ونبين أن القنوت في هذا الفصل يعني الامتناع عن الأقوال غير المشروعة، وأن الخشوع يعني الامتناع عن الأفعال غير المشروعة في الصلاة، ونبدأ بالكلام على القنوت وما يدل عليه، ثم نتكلم على الخشوع وما يدل عليه.
1ــ القُنُوتُ في الصلاة
أصل القنوت في اللغة الدوام على الشئ، ومن هذا المعنى تفرعت معانٍ عدة. وأما في الشرع فهو دوام الطاعة لله عز وجل، ومنه قوله عز وجل {ومَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صَالِحَاً نُؤْتِهَا أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقَاً كَرِيْمَاً} الآية 31 من سورة الأحزاب. وقوله تعالى {إنَّ إبراهِيْمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتَاً للهِ حَنِيْفَاً ولَمْ يَكُ مِن المُشْرِكِيْنَ} الآية 120 من سورة النحل. وقوله سبحانه {وقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدَاً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} الآية 116 من سورة البقرة. وكثير غيرها، وكلها تعني دوام الطاعة لله عز وجل وما تستلزمه الطاعة من تذلل وخضوع.
إلا أن هذه اللفظة قد استُعملت لمعانٍ أخرى في الشرع، فربما أُطلقت وأُريد بها الدعاء، ومنه ما رُوي عن البراء بن عازب رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة الصبح والمغرب» رواه الترمذي. وما رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً بعد الركوع يدعو على أحياءٍ من العرب ثم تركه» رواه ابن حِبَّان. وما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دُبُر كلِّ صلاة
…
» رواه ابن خُزَيمة. ومِن ذلك يقال دعاء القنوت.
وربما أُطلقت وأُريد بها طول القيام، ومنه ما ورد عن جابر رضي الله عنه أنه قال «سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت» رواه أحمد والترمذي وابن حِبَّان وابن ماجة. قوله طول القنوت: أي طول القيام.
وتطلق لفظة القنوت ويُراد بها السكوت والامتناع عن الكلام، ومنه ما ورد عن زيد ابن أرقم رضي الله عنه أنه قال «كنا نتكلم في الصلاة، يُكلِّم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: وقوموا لله قانتين، فأُمِرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام» رواه مسلم وأبو داود والترمذي. فكلمة قانتين في هذه الآية تعني ساكتين مُمْسِكين عن كلام الناس. هذا هو المعنى المقصود من القنوت في هذه الآية الكريمة أخذاً من سبب النزول، وهذا المعنى هو مدار البحث هنا. ولكننا ونحن نأخذ هذا المعنى لا ننسى المعنى العام للقنوت وهو دوام الطاعة لله عز وجل.
فالقنوت مدار البحث إذن هو الامتناع عن الكلام مع الناس وعدم مخاطبة الآدميين، والاقتصار في الصلاة على مخاطبة الله سبحانه دون سواه، لتبقى الصلاة كلُّها لله، ولتبقى الطاعة كلها له، ولتبقى العبادة كلها خالصة لله رب العالمين. فأيُّ كلام مع غير الله هو قطعٌ لطاعة الله، وهو وقفٌ للقنوت، وبالتالي هو إنقاص للصلاة، فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الرجل لينصرف وما كُتِب له إلا عُشْرُ صلاته تُسُعُها ثُمُنُها سُبُعُها سُدُسُها خُمُسُها رُبُعُها ثُلُثُها نِصْفُها» رواه أبو داود. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «إن الرجل ليصلي الصلاة ولعله لا يكون له منها إلا عُشْرُها أو تُسُعُها أو ثُمُنُها أو سُبُعها أو سُدُسُها حتى أتى على العدد» .
فإذا صلى المسلم فأدى واجبات الصلاة كلَّها ولم يرتكب حراماً حصَّل صلاة تامة، وإن انتقص من واجباتها شيئاً أو ارتكب حراماً حصَّل صلاة ناقصة بقدر ما انتقص من واجباتها أو فعل فيها من حرام، حتى يصلي فلا يحصِّل إلا عُشْر صلاةٍ أو ربعَ صلاة أو نصفَ صلاة، فمن تكلم مع غيره وهو في الصلاة فقد قطع بكلامه طاعته لله فانتقص بذلك من صلاته بقدر ما تكلم، وما ينبغي له أن يفعل ذلك، لأنه مأمور بدوام الطاعة مشغولٌ بها عما سواها من الأقوال، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «كنا نسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله كنا نسلِّم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: إن في الصلاة لشُغلاً» رواه مسلم وأبو داود وابن أبي شيبة وأحمد.
نعم إنَّ مَن صلى كان في شغل بمخاطبة ربه عز وجل عن مخاطبة غيره. ويزيد الأمرَ وضوحاً ما جاء من طريق عبد الله رضي الله عنه قال «كنا نسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم إذ كنا بمكة قبل أن نأتي أرض الحبشة، فلما قَدِمنا من أرض الحبشة أتيناه فسلمنا عليه فلم يردَّ، فأخذني ما قَرُب وما بَعُدَ حتى قضَوا الصلاة فسألته فقال: إن الله عز وجل يُحْدِث في أمره ما يشاء، وإنه قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة» رواه أحمد. ورواه أبو داود وابن حِبَّان والنَّسائي وابن أبي شيبة باختلاف في الألفاظ. ورواه أبو يعلى وعبد بن حميد وفيه «
…
وإذا كنتم في الصلاة فاقْنُتُوا ولا تَكَلَّموا» . قوله فاقنتوا ولا تكلَّموا صريحُ الدلالة على أن القنوت يعني السكوت والامتناع عن الكلام.
فالقانت هو الذي لا يتكلم في صلاته إلا الكلام المشروع من قراءةٍ وذكرٍ لله عز وجل، فعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال «بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثُكْلَ أُمِّتاه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكنِّي سكتُّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي وأُمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرَني ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه مسلم وأحمد والدارمي والنَّسائي. ورواه أبو داود وجاء فيه «إن هذه الصلاة لا يحلُّ فيها شئ من كلام الناس هذا، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» . قوله في الحديث «فلما رأيتهم يصمتونني لكني صمتُّ» يبدو فيه حذفٌ ومن ثَمَّ لَبسٌ، وقد جاء في رواية ابن حِبَّان لفظ يزيل اللبس «فلما رأيتهم يصمتوني لكي أسكت سكتُّ» ووقع عند الطحاوي لفظ «فلما رأيتهم يسكتونني سكتُّ» .
فالصلاة عبادة، والعبادة كلها لله سبحانه، فأقوالها قراءةٌ وذِكرٌ ودعاءٌ وتسبيحٌ وتحميدٌ، وكله لله عز وجل، وما سواه مما لم يُشْرع في الصلاة، ومما هو موجَّه لغير الله فغير صالحٍ في الصلاة بدلالة الرواية الأولى، وحرام لا يحلُّ بدلالة الرواية الثانية، وكلاهما يدلان على وجوب القنوت. ومن هنا فإن تشميت العاطس والتسليم على الناس والحديث مع الناس في مختلف الشؤون حرام لا يجوز في أثناء الصلاة. ويكفي أن نتذكر الحديث الذي مرَّ في بحث [حكم تكبيرة الإحرام] وهو ما رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلُها التسليم» رواه أحمد والترمذي. فإن فيه (وتحريمها التكبير) ومعناه أن الدخول في الصلاة بالتكبير يجعل كل كلام غير كلام الصلاة محرَّماً، وهذا الحكم عام يشمل المكتوبة كما يشمل النافلة، ويشمل الإمام كما يشمل المنفرد، كما يشمل المأموم.
والكلام في الصلاة صنفان: صنف مشروع متعين كقراءة الفاتحة والتكبير والتسبيح والتشهد، وصنف مشروع غير متعيِّن كالأدعية في الركوع والسجود والجلوس، وكذِكر الله تعالى مما ندب إليه واستُحب. أما الصنف الأول فهو من الأقوال التي تتشكل الصلاة منها، وأما الصنف الثاني فهو من الأقوال والكلام المأذون به في الصلاة، وهو دون الأقوال التي تتشكل الصلاة منها، بمعنى أنه لو قالها أو لم يقلها أو أكثر منها أو قلَّل، فالصلاة باقية على حالها وشكلها. وقد مرَّ في الفصل السابق الدعاء والتعوُّذ والذِّكر المأذون به في الصلاة بل والمستحب أيضاً فلا نعيد. ونضيف هنا إلى ما سبق أن من المأذون به من الكلام والدعاء هو ما يصاحب قراءة القرآن، فالمصلي إذا قرأ القرآن في الصلاة وقف عند آيات الله يدعو ويتعوَّذ بما يتناسب مع ما يقرأ، فعن حذيفة رضي الله عنه قال «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ما مرَّ بآيةِ رحمة إلا وقف عندها فسأل، ولا مرَّ بآية عذاب إلا وقف عندها فتعوَّذ» رواه ابن خُزَيمة. وعن حُذيفة رضي الله عنه قال «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ ثم ركع
…
» رواه مسلم. وقد مرَّ في بحث [قراءة ما زاد على الفاتحة من القرآن في الصلاة] .
فهذه الأدعية والتعُّوُّذات تندرج تحت ذكر الله سبحانه، فقد جاء في رواية لأبي داود من طريق معاوية بن الحَكَم السلمي قوله صلى الله عليه وسلم «إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكرِ الله عز وجل، فإذا كنتَ فيها فليكن ذلك شأنك» . فقوله (إنما) يفيد الحصر، فيحصر الكلام بقراءة القرآن وذكر الله عز وجل، ولا يزاد عليهما مما يخاطب به الناس. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مُنع من كلام الناس في الصلاة فنحن ممنوعون منه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى بني المُصْطَلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره فكلمته، فقال لي بيده هكذا - وأومأ زهير بيده، ثم كلمته فقال لي هكذا - فأومأ زهير أيضاً بيده نحو الأرض، وأنا أسمعه يقرأ يومئ برأسه، فلما فرغ قال: ما فعلتَ في الذي أرسلتك له؟ فإنه لم يمنعني أن أُكلمك إلا أني كنت أُصلي
…
» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. فهذا دليل قطعي الدلالة على أن الكلام مع الناس ممنوع في أثناء الصلاة.
أما الكلام مع النفس فلا بأس به شرطَ أن يكون مِن ذكر الله سبحانه، فلو عطس المصلي في صلاته فلا بأس بأن يقول (الحمد لله، أو الحمد لله على كل حال) ، ولو سمع صوت الرعد وهو يصلي فلا بأس بأن يقول (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تُهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك) ، ولو سمع صوت الريح الشديدة وهو في الصلاة فلا بأس بأن يقول (اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً) وهكذا مما يدخل تحت الدعاء وذكر الله سبحانه، فعن رفاعة رضي الله عنه قال «صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطستُ فقلتُ: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحبُّ ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فقال: مَن المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية: مَن المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة: مَن المتكلم في الصلاة؟ فقال رفاعة بن رافع بن عفراء: أنا يا رسول الله، قال: كيف قلت؟ قال قلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحبُّ ربنا ويرضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعةٌ وثلاثون مَلَكاً أيهم يصعد بها» رواه الترمذي. ورواه النَّسائي باختلاف يسير.
وهناك حالتان اثنتان يجوز فيهما الكلام الموجَّه للآخرين وردت بهما أحاديث شريفة تستثنيهما من وجوب القنوت والسكوت فيُقتَصر عليهما ولا يجوز تعدِّيهما أو القياس عليهما، ومع ذلك وجب أن يكون الكلام مما يصلح للصلاة من القرآن والذِّكر لا غير، وهاتان الحالتان هما: حالة الفتح على الإمام، وحالة احتياج المصلي لتنبيه غيره إلى خطأ أو نائبةٍ من النوائب.
أما الإمام فإنَّه إن صلى بالناس صلاة جهرية فأخطأ في قراءة القرآن، أو لم يُسعفه حفظُه فوقف عن القراءة، فإن للمصلين أن يُسْعِفُوه بقراءة الآية أو الآيات التي أخطأ بقراءتها أو نسيها فلم يذكرها، ولا يزيدون على القراءة شيئاً. وأما إن أخطأ الإمام في فعلٍ من أفعال الصلاة كأَن جلس في آخر الركعة الأولى، أو أراد النهوض من الركعة الثانية دون جلوس فإن المصلين يسبحون بالقول (سبحان الله) إن كانوا رجالاً، ويصفقن بأكُفِّهِنَّ فحسب إن كنَّ نساء.
وكذلك يسبحون إن نابتهم نائبة في أثناء صلاتهم. والدليل على جواز الكلام مع الغير في الحالة الأولى ما رواه المُسَوَّر بن يزيد المالكي قال «شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة، فترك شيئاً لم يقرأه، فقال له رجل: يا رسول الله تركتَ آيةَ كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا أذْكَرْتَنيها؟» رواه أبو داود وابن حِبَّان. وفي رواية أخرى لابن حِبَّان من طريق المُسَوَّر بن يزيد «قال فهلا أذكَرْتَنيها؟ قال: ظننت أنها قد نُسخت، قال: فإنها لم تُنسَخ» . وما رواه عبد الله ابن عمر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاةً فالتبس عليه، فلما فرغ قال لأُبيٍّ: أشهدت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك أن تفتحها عليَّ؟» رواه ابن حِبَّان. ورواه أبو داود إلا أنه لم يورد (أن تفتحها عليَّ) وما رواه الحاكم بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال «كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
والدليل على جواز الكلام مع الغير في الحالة الثانية هو ما رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مَن نابه شئ في صلاته فليقل: سبحان الله، إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال» رواه أحمد والطحاوي. وروى ابن حِبَّان من طريق سهل بن سعد رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه فقال: أتصلي للناس فأُقم؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلَّص حتى وقف في الصف فصفَّق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناسُ التصفيقَ التفت أبو بكر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ أثبُتْ مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله تعالى على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدَّم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى، فلما انصرف قال: يا أبا بكر ما منعك أن تلبث إذ أمرتُك؟ فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قُحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ مَن نابه شئ في صلاته فليسبِّح، فإنه إن سبِّح التُفِتَ إليه، وإنما التصفيق للنساء» . وفي رواية أخرى لابن حِبَّان من طريق سهل بن سعد «
…
ثم قال للناس: إذا نابكم في صلاتكم شئ فلْيسبح الرجال ولْتصفِّق النساء» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» رواه مسلم وأحمد وابن ماجة وابن حِبَّان والطَّحاوي. وفي رواية أخرى لمسلم والنَّسائي بزيادة «في الصلاة» في آخرها.
وأُكرِّر القول إن الكلام مع الغير في هاتين الحالتين إنما يكون بكلامٍ من جنس كلام الصلاة المشروع أو المأذون فيه، أي من الكلام المخاطَب به ربُّ العالمين، وليس من الكلام المخاطَب به البشر، فلا يزيد الرجل إن احتاج لمخاطبة الغير على أن يسبِّح، والتسبيح من جنس كلام الصلاة، ولا يزيد الرجل إن احتاج للفتح على الإمام على أن يقرأ الآيات التي سها عنها إمامُه أو أخطأ في تلاوتها دون أيةِ إضافةٍ أخرى من كلام الناس في الحالتين، وما سوى ذلك فالقنوت واجب الالتزام، وهو يعني السكوت والامتناع عن كلام الناس.
والمسكوت عنه هو الكلام، والكلام يعني الألفاظ ذوات الحروف، فما لا حروف فيه فليس بكلام، ومِن ثَمَّ فليس بمحظور، ولا يتنافى مع القنوت، فالبكاء وإن كان بصوت مسموع فإنه ليس كلاماً ومِن ثّمَّ فليس بمحظور، فهذا مُطرِّف بن عبد الله قد روى عن أبيه أنه قال «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولِصدره أَزيزٌ كأزيز المِرْجل من البكاء» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. وإن علياً رضي الله عنه قال «ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا قائمٌ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح» رواه ابن حِبَّان وأحمد. والأدلة على جواز البكاء في الصلاة كثيرة ومعروفة.
والنفخُ وإن كان بصوت مسموع فإنه غير محظور، لأنه ليس كلاماً حتى ولو خرج بحروف، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس «وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد في الركعة الثانية وجعل يقول: ربِّ لِمَ تعذبهم وأنا فيهم؟ ربِّ لِمَ تعذبنا ونحن نستغفرك؟ فرفع رأسه وقد تجلَّت الشمس
…
» رواه أحمد. ورواه أبو داود وجاء فيه «
…
ثم نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف، ثم قال: رب ألم تَعِدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته وقد أَمْحَصَت الشمسُ» . قوله أَمْحَصت: أي ظهرت وانجلت. فهذان دليلان على جواز النفخ في الصلاة، دليلٌ على مطلق النفح، وآخر على النفخ بحرفين اثنين، فماذا يقول أصحاب القول بحرمة إخراج أي صوت بحرفين، الذين يعدُّون ذلك كلاماً؟.
نعم نحن نقول بحرمة الكلام بحرفين، بل ونقول بحرمة الكلام بحرف واحد مثل فعل الأمر: قِ أو فِ أو عِ، من وقى ووفى ووعى، ما دام الحرف قد خرج على أنه كلام، أما إن خرج صوتٌ من غير جنس الكلام فما دليلهم على تحريمه؟ فهذا صوت قد خرج بحرفين [أف أف] وخرج مكرَّراً، أي خرج بأربعة حروف، أخرجه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فهل يبقى لهم عذر بعد ذلك؟.
والنحنحة وإن كانت بصوت مسموع، وإن خرجت بحرف أو بحرفين أو حتى بثلاثة (إِ حِ مْ) ، فهي ليست كلاماً، ومن ثَمَّ فإنها ليست محظورة، وهذا كافٍ وحده، ومع ذلك فإن عندنا ما يدل على جوازها من النصوص، فعن علي رضي الله عنه قال «كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةٌ آتيه فيها، فإذا أتيتُه أستأذنت إن وجدته يصلي فتنحنح دخلتُ، وإن وجدته فارغاً أَذِن لي» رواه النَّسائي. ومثل النفخِ والنحنحةِ والبكاءِ: الأنينُ والتَّوجُّعُ والحشرجةُ، لأن الدليل قد قام على تحريم الكلام، والكلام هو المعهود والمعروف، وما سواه فغير داخل في هذا الدليل.
والكلام مع الناس في الصلاة، هل هو من مبطلاتها وما يترتب على ذلك من وجوب الإعادة، أم هو حرام فحسب يأثم صاحبه وينقص من صلاته ولا يترتب عليه إعادة الصلاة؟ قال ابن المنذر (أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامداً وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة، واختلفوا في كلام الساهي والجاهل) . وقال الترمذي (العملُ عليه عند أكثر أهل العلم قالوا: إذا تكلم الرجل عامداً في الصلاة أو ناسياً أعاد الصلاة) . وقال قوم: إذا تكلم الرجل عامداً في الصلاة أعادها، وإذا تكلم ناسياً أو جاهلاً صحَّت صلاته. وعزاه النووي إلى الجمهور.
وقد استدل من قال ببطلان صلاة المتكلم بقوله عليه الصلاة والسلام «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس» وهو طرفٌ من حديث رواه مسلم وغيره من طريق معاوية بن الحكم وقد مرَّ قبل قليل. فقالوا إنَّ كون الكلام لا يصلح في الصلاة معناه أنه يُفسد الصلاة، فإذا أفسدها أبطلها ووجبت إعادتها. وأخذ قوم من هؤلاء بقاعدة أنَّ ما يحرم في الصلاة يبطلها.
فنقول لهؤلاء: إننا نسلِّم بأن الكلام في الصلاة لا يصلح فيها وأنه حرام لا يجوز، ولكننا ونحن نقول بهذا إنما نقف عند دلالات النصوص ولا نتعداها إلى افتراضات أو استنتاجات لا تحتملها هذه النصوص، فمن أين لهم أن كل محرَّم في الصلاة يبطلها؟ ومن أين لهم أنَّ ما لا يَصلح في الصلاة يبطلها؟.
أما أخذُهم بقاعدة أن ما يحرم في الصلاة، أو أن ترك واجبٍ في الصلاة يبطلها فهو أيضاً خطأ، والصحيح هو أنه لا يبطل الصلاة إلا ترك شرط من شروطها، أو ترك ركن من أركانها، وما سوى ذلك لا يبطل الصلاة ولا يفسدها. ولا أُريد الدخول في أبحاث علم الأصول أكثر من ذلك لأن مكانه ليس هنا، وإنما أردُّ عليهم بما رواه معاوية بن الحكم وقد مرَّ قبل قليل «إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت: يرحمك الله
…
قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس» . فهذا معاوية قد تكلم، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكلام في الصلاة لا يصلح، وجاء في رواية أبي داود «إن هذه الصلاة لا يحلُّ فيها شئ من كلام الناس هذا» . أي أعلمه بحرمة ما قام به ولم يزد على ذلك، فلم يطالبه بالإعادة، فدل ذلك على أن صلاته لم تبطل بفعل الحرام. ولا يصح تأويل هذا النص بالقول إنه وإن لم يذكر الطلب من معاوية بالإعادة فإن ذلك لا يمنع من أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد طلب منه الإعادة، فنقول لهؤلاء: حتى يثبت قولكم هذا نقول له. فهذا دليل واضح على أن الكلام حرام، وعلى أن الحرام في الصلاة لا يبطلها ولا يفسدها، وهو ردٌّ كافٍ على أحد الاستدلالين.
أما استدلالهم الأول وهو أن القول «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس» يدل على فساد صلاة المتكلم، فمنقوض هو الآخر بحديث معاوية بن الحكم نفسه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع كلام معاوية في الصلاة، وأفهمه أنه فعل حراماً، وأنه فعل ما لا يصلح في الصلاة، واكتفى بهذا البيان ولم يزد عليه أمراً بوجوب الإعادة. فالقول إذن بوجوب الإعادة هو تقوُّلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يجوز.
وأما قولهم إن الكلام جهلاً لا يبطل الصلاة، وإن معاوية هذا تكلم جاهلاً والجاهل معذور، فالرد عليهم هو أن ما يُبطِل الصلاة من ترك شرط أو ترك ركن لا يجعل فاعلَه جهلاً ناجياً من بطلان صلاته ووجوب إعادتها، ذلك أنَّ من صلى دون وضوء جهلاً أو نسياناً، أو من صلى قبل دخول الوقت جهلاً أو نسياناً، أو من صلى فترك الركوع جهلاً أو نسياناً فصلاته باطلة، وتجب عليه إعادتها، ولا ينفعه جهله ولا سهوه هنا، وبناء على هذا فإنا نقول إنَّ معاوية بن الحكم لو فعل ما يبطل الصلاة، سواء كان ذلك جهلاً أو نسياناً، فإن صلاته تصبح باطلة، وعندئذٍ يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعادة، فلما وجدنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادتها، فقد دل ذلك على أن الكلام ليس من مبطلات الصلاة.
وأيضاً قد روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في الصلاة ناسياً، فبنى على ما صلى» رواه الطبراني. فقوله «فبنى على ما صلى» بعد أن تكلم ناسياً، يدل بما لا لبس فيه على أن الكلام نسياناً لا يُبطل الصلاة، وأن هذا الحديث يعضد الفهم الذي ذهبنا إليه من أن معاوية بن الحكم لم يُؤمر بالإعادة.
وأيضاً عندنا حديث ذي اليدين وهو من الأحاديث الصحيحة المشهورة، وهذا الحديث رواه مسلم وأبو داود وابن حِبَّان وابن ماجة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة من طريق عمران بن الحصين، ورواه ابن ماجة من طريق ابن عمر، ورواه مسلم والترمذي من طريق أبي هريرة بلفظ غير ما سبق، ونكتفي بإيراد الرواية الأخيرة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فسلَّم في ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقُصِرت الصلاةُ يا رسول الله أم نسيتَ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعضُ ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، فأتمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم» رواه مسلم والترمذي. فهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكلم بعد التسليم من ركعتين لصلاة العصر، وتكلم المسلمون، ثم قام بعدئذٍ بإِتمام ما بقي من صلاته واصلاً الركعتين الأُوليين بركعتين أُخريين، ولم نره يستأنف صلاته معلناً بطلانها. ولمن شاء أن يقول إنه تكلم ناسياً، ولمن شاء أن يقول إنه تكلم جاهلاً نقول: إنه لو كان الكلام من مبطلات الصلاة لعلَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته بدرس عمليٍّ فأعاد الصلاة بهم، فلما رأيناه لم يفعل ذلك، وإنما بنى على ما صلى وأتم صلاته، فقد دل ذلك دلالة بالغة الوضوح على أن الكلام ليس من مبطلات الصلاة.
وأيضاً عندنا حديث المسئ صلاته وهو أيضاً من الأحاديث الصحيحة المشهورة، وقد رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم، فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام فقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تُصَلِّ، ثلاثاً، فقال: والذي بعثك بالحق ما أُحسنُ غيره فعلِّمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» . فانظر كيف أرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل ثلاث مرات قائلاً له إنه لم يُصلِّ، بمعنى أن صلاته كانت باطلة، فلماذا أرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرجل ثلاث مرات ولم يُرجع معاوية بن الحكم مرة واحدة؟ إنه ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسكت عن معاوية بن الحكم فلا يأمره بالإعادة لو كان قد صلى صلاة باطلة، فلما رأيناه قد سكت عنه فقد دل ذلك على صحة صلاة معاوية، وكونه عليه الصلاة والسلام قد أعلم معاوية بأنه ارتكب حراماً في صلاته فقط، فإن ذلك يدل دلالة مؤكدة على أن فعل الحرام في الصلاة لا يبطلها.