الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما في المسجد الحرام فإن المرور بين أيدي المصلين جائز، فالمسلم فيه يستطيع أن يصلي إلى الكعبة والطائفون يمرون بين يديه ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً دون إثم من الطائفين ودون إثم من المصلين بترك دفعهم، وإن الله سبحانه وتعالى لأرحم بعباده من أن يضيِّق على المسلمين في أثناء عباداتهم في بيته الحرام لاختلاطهم فيه وشدة الزحام، ولولا ذلك لتعذَّر على الناس الصلاة في صحن المسجد الحرام حيث الطائفون لا ينقطعون عن الطَّواف ليلاً ونهاراً، فعن كثير بن كثير عن أبيه عن جده قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً، ثم صلى ركعتين بحذائه في حاشية المقام، وليس بينه وبين الطُّوَّاف أحد» رواه النَّسائي وابن حِبَّان والطحاوي. ورواه ابن ماجة وقال (هذا بمكة خاصة) . ورواه البخاري في كتابه التاريخ بلفظ «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حاشيته (يعني حاشية الطواف) والناس يمرون بين يديه» . ورواه عبد الرزاق بلفظ «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد الحرام والناس يطوفون بالبيت بينه وبين القِبلة بين يديه ليس بينه وبينهم سُترة» . والدلالة واضحة.
ما يقطعُ الصلاةَ بمروره
يقطع الصلاة مرور المرأة الحائض - أي مَن بلغت المحيض - والكلب الأسود، والحمار، بين يدي المصلي إن لم يكن قد اتخذ سُترة له، أو اتخذ سُترة وكان المرور بينه وبين سُترته. وإنما قلنا المرأة الحائض تمييزاً لها عن الصغيرة دون البلوغ، لأن الصغيرة لا تقطع الصلاة بحال، ولا نعني بالحائض مَن كانت في حالة الحيض في أثناء المرور كما توهَّم بعض الفقهاء. وقلنا إن الكلب الأسود يقطع الصلاة تمييزاً له عن الكلاب ذوات الألوان الأخرى، فالكلب الأبيض والكلب الأحمر والكلب الأصفر لا تقطع الصلاة. وأما الحمار فيقطع الصلاة عموماً، ذكراً كان أو أنثى، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخِرة الرَّحْل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخِرةِ الرَّحْل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود، قلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» رواه مسلم. ورواه أحمد وأبو داود والبيهقي وابن حِبَّان باختلاف في الألفاظ. قوله آخِرَةِ الرحل - وفي بعض الروايات مؤخرة الرحل - يعني العود الذي يكون في آخر السرج الذي يوضع على ظهر الجمل من أجل الركوب يستند إليه الراكب، وقد مرَّ قبل قليل. وقوله إن الكلب الأسود شيطان لا يعني أنه من الجن، وإنما يعني أنه يتصف بالشر كما يتصف الشيطان بالشر، وقد ورد في الحديث ذكرُ الشيطان وصفاً لمرتكب الشرور، دون أن يعنيَ ذلك أنه من الشياطين على الحقيقة، فعن أبي سعيد الخدري قال «بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَرْج إذ عَرَضَ شاعرٌ ينْشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا الشيطان، أو أمسكوا الشيطان، لأَن يمْتَلِئَ جوفُ رجلٍ قيحاً خيرٌ لهُ من أن يمْتَلِئَ شِعراً» رواه مسلم وأحمد.
قوله - بالعرج - هي قريةٌ على نحوِ ثمانيةٍ وسبعينِ ميلاً من المدينة.
فذاكَ النص الذي رواه مسلم وغيره من طريق أبي ذر يفيد أن مرور هؤلاء الثلاثة أمام المصلي الذي لا يتخذ سُترة يقطع الصلاة عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يقطع الصلاةَ المرأةُ الحائض والكلبُ» رواه أبو داود وأحمد وابن حِبَّان. ورواه ابن ماجة بلفظ «يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض» . فهذا الحديث خصَّ الحائض من الإناث بالقطع فيخرج منه غير الحائض، أي الصغيرة. وعن موسى بن طلحة عن أبيه قال «كنا نصلي والدواب تمرُّ بين أيدينا، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مثلُ مؤخرة الرَّحل تكون بين يدي أحدكم، ثم لا يضره ما مرَّ بين يديه، وقال ابن نمير فلا يضرُّه مَن مرَّ بين يديه» رواه مسلم وأحمد وابن ماجة وابن خُزيمة وابن حِبَّان. ومفهوم هذا الحديث أن مَن مرَّ مِن أمام السُّترة من هؤلاء الثلاثة قطع الصلاة، وأما إن مروا من خلف السُّترة فإنهم لا يقطعونها.
وقد ذهب عدد من الفقهاء والأئمة إلى أن هؤلاء الثلاثة لا يقطعون الصلاة مستدلين بجملة من الأحاديث، نذكر منها ما يلي:
أ - عن صخر بن عبد الله بن حرملة أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول عن أنس «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس، فمرَّ بين أيديهم حمار، فقال عيّاش بن أبي ربيعة: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، فلما سلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَن المُسبِّح آنفاً سبحان الله؟ قال: أنا يا رسول الله، إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة، قال: لا يقطع الصلاة شئ» رواه الدارقطني.
ب - عن إبراهيم بن يزيد حدثنا سالم بن عبد الله عن أبيه - عبد الله بن عمر - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر قالوا: لا يقطع صلاة المسلم شئ وادرأ ما استطعت» رواه الدارقطني، ورواه مالك موقوفاً على عبد الله بن عمر.
ج - عن عفير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبي أُمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يقطع الصلاة شئ» رواه الدارقطني والطبراني في المعجم الكبير.
د - عن مُجالد - بن سعيد الهمذاني - عن أبي الوداك عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يقطع الصلاة شئ وادرؤا ما استطعتم فإنما هو شيطان» رواه أبو داود والدارقطني وابن أبي شيبة.
هـ - عن عباس بن عبيد الله بن عباس عن الفضل بن عباس قال «أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية لنا ومعه عباس، فصلى في صحراء ليس بين يديه سُترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك» رواه أبو داود والنسائي، ورواه الطحاوي بمعناه.
و عن إسحق بن عبد الله بن أبي فروة عن يزيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تَقطع صلاةَ المرء امرأةٌ ولا كلبٌ ولا حمارٌ، وادرأ من بين يديك ما استطعت» رواه الدارقطني.
فنقول لهؤلاء إن جميع الأحاديث التي تنص على أن الصلاة لا يقطعها شئ لم تثبت ولم تخرج عن دائرة الضعف والضعف الشديد، وهذه الأحاديث الستة أبرزها، وهي لا تقوى مطلقاً على مناهضة أحاديثنا الصحيحة والحسنة، فتترك ولا يلتفت إليها، لأن الحديث الأول فيه صخر بن عبد الله، قال ابن عدي: يحدِّث عن الثقات بالأباطيل، عامة ما يرويه منكراً من موضوعاته. وقال ابن حِبان: لا يحلُّ الرواية عنه. وقد ضعَّف ابن حجر هذا الحديث.
والحديث الثاني فيه إبراهيم بن يزيد، قال أحمد والنسائي: متروك. وقال يحيى بن معين: ليس بشئ.
والحديث الثالث فيه عُفير بن معدان، قال أحمد: ضعيف منكر الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بثقة. ومثله قال أبو حاتم الرازي.
والحديث الرابع فيه مُجالد بن سعيد ضعَّفه الدارقطني راوي الحديث نفسه، كما ضعفه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وابن أبي حاتم وابن سعد. وقال يحيى بن معين: لا يحتج به. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئاً.
والحديث الخامس فيه انقطاع بين عباس بن عبيد الله وبين عمه الفضل بن العباس، لأن عباس بن عبيد الله لم يدرك عمه، فهو حديث منقطع.
والحديث السادس رواه ابن أبي فروة، وهو متروك قاله أبو الطيب محمد آبادي. هذا إضافة إلى أن أبا هريرة راوي هذا الحديث قد روى عنه مسلم وأحمد وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل» أي عكس ما جاء في هذا الحديث.
من هذا الاستعراض يتبين بوضوح تام أن جميع هذه الأحاديث ضعيفة أو واهية، وهي ما استند إليه القائلون إن الصلاة لا يقطعها شئ، فوجب طرحها وعدم الاحتجاج بها لا سيما وأنها جاءت متناقضة مع أحاديثنا الصحيحة والحسنة، وبذلك يثبت الرأي القائل إن المرأة الحائض، أي من بلغت، والكلب الأسود والحمار تقطع الصلاة.
أما عن حقيقة قطع هؤلاء الثلاثة للصلاة، فقد اختلف الفقهاء في تحديد معنى القطع، فمنهم من فسَّر القطع بإبطال الصلاة ووجوب إعادتها عند مرور هؤلاء، ومنهم من فسَّر القطع بإلحاق النقص في الصلاة دون الإبطال وهم أصحاب الرأي الراجح. فاللغة العربية كما تفيد المعنى الأول فأنها تفيد المعنى الثاني أيضاً، فالله سبحانه يقول في سورة يوسف {
…
فلمَّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ وقطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
…
} الآية 31. فهنا لفظة (قطَّعن) لا تفيد البتر وإنما تفيد الجرح فحسب، فالقطع كما يفيد البتر {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فإنه يفيد إلحاق النقص أو الجَرْح {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} فلا بد من قرينة تحدِّد أياً من هذين المعنيين لقطع الصلاة بمرور هؤلاء الثلاثة. وقد وجدت حديثاً رواه يزيد بن نمران مرَّ في بحث [دفع المار عند اتخاذ السترة] يشكِّل القرينة على أن القطع هنا يعني النقص فحسب ولا يعني الإبطال، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم «قطع علينا صلاتنا قطع الله أثره» . ففي هذا الحديث لم يُتْبع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القول الأمرَ منه لأصحابه بإعادة الصلاة المقطوعة، وإنما سكت الحديث عن الأمر مما يدل على أن القطع لا يتعدى النقص، وإلا لصدر الأمر النبوي بالإعادة، فلما لم يصدر الأمر بالإعادة دل على أن المعنى المراد من القطع هو النقص فحسب، فهذا الحديث يصلح قرينة تصرف القطع عن معنى البتر إلى معنى النقص، ولا يصرفنا عن هذا الفهم ما رواه ابن حبان من طريق ابن خزيمة عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تعاد الصلاة من مَمَرِّ الحمار والمرأة والكلب الأسود، قلت: ما بال الأسود من الأصفر من الأحمر؟ فقال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» . فقد جاء في الحديث لفظة (تعاد الصلاة) مما يعني الإبطال والبتر، وينفي بالتالي معنى النقص فحسب.