الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعود إلى التسبيحات المأثورة فنقول: أما عدد هذه التسبيحات في الركوع الواحد فهو أن لا يقل عن ثلاث مرات، فهذا هو أدنى التَّمام، فإن قيلت مرة أو مرتين أجزأت مع نقص الفضل لعدم التأسِّي، إذ لم يُعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها مرة أو مرتين، ولا حدَّ لأكثره خاصةً بالنسبة للمنفرد.
والإمام يسبح بمقدار ما لا يُثقل على المأمومين، وإذا كان لا بد من تحديدٍ فإني أرى أن يسبِّح الإمام سبعَ تسبيحات، فيتمكن المأمومون من قول تسبيحاتهم الثلاث دون عجلة، لا سيما وأن منهم البطئ والمسبوق والمريض، فالرفق بهؤلاء مندوب. هذا هو ما أراه القدر المختار للإمام، وإن زاد على هذا القدر فلا يزيد على العشر تسبيحات، فعن سعيد بن جبير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «ما رأيت أحداً أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الغلام - يعني عمر بن عبد العزيز - قال فحَزَرنا في الركوع عشر تسبيحات، وفي السجود عشر تسبيحات» رواه أحمد. ورواه أبو داود قريباً منه.
وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع، فيُكره لنا ذلك، فعن علي رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القَسِّيِّ، وعن تختُّمِ الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع» رواه مالك. وعنه رضي الله عنه قال «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد» رواه مسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «ألا إني نُهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً، فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم» رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن حِبَّان. قال الترمذي (وهو قول أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم، كرهوا القراءة في الركوع والسجود) .
الرفعُ من الركوع والذّكر فيه
الرفع من الركوع فرض لا يحل تركه، وهو إقامة الرجل صُلْبه، أي ظهره من الركوع، والإقامة هذه تعني تمام انتصاب الظهر بعد الركوع، ويسمى أيضاً الاعتدال، وهو ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونه، فعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تُجزئ صلاةٌ لا يقيم الرجل فيها صُلْبَه في الركوع والسجود» رواه ابن ماجة وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان وابن خُزيمة. ولأحمد وابن ماجة وابن خُزيمة من طريق علي بن شيبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «
…
يا معشر المسلمين إنه لا صلاة لمن لا يُقيم صُلبه في الركوع والسجود» . ولأحمد من طريق طلق بن علي الحنفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله عز وجل إلى صلاة عبد لا يقيم فيها صُلْبه بين ركوعها وسجودها» . وهذا أوضح في الدلالة، وفي رواية لأبي داود من طريق علي بن يحيى بن خلَاّد عن عمه أن رجلاً دخل المسجد - فذكر حديث المسئ صلاته - فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنه لا تتم صلاةٌ لأحدٍ من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء
…
ثم يقول سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائماً، ثم يقول الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً، ثم يقول الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصلُه، ثم يرفع رأسه فيكبِّر، فإذا فعل ذلك فقد تَّمت صلاته» .
والاطمئنان في حالة الرفع فرضٌ لا يحل تركه، وأقله أنْ تسكن الحركة في هذه الحالة فلا تتواصل في الركوع والرفع والسجود، بل لا بد من السكون في الركوع، ومن السكون في الانتصاب منه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «
…
ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» رواه أبو داود. وفي روايةٍ لأحمد من طريق رفاعة بن رافع الزرقي «
…
فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدُدْ ظهرَك، ومكِّن لركوعك، فإذا رفعت رأسك فأَقم صُلْبَك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها» . والحالة المثلى أن يطول الاعتدال ليبلغ قريباً من الركوع، فعن البراء رضي الله عنه قال «كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده، وإذا رفع رأسه من الركوع وبين السجدتين قريباً من السواء» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وعن ثابت قال «كان أنس بن مالك رضي الله عنه ينعت لنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي» رواه البخاري. ورواه ابن حِبَّان وأحمد.
أما الذِّكْر في حالة الرفع فيُسنُّ للإمام وللمنفرد أن يقولا عند الرفع من الركوع [سمع الله لمن حمده] ولا يُسنُّ ذلك للمأموم، ويسن للثلاثة أن يقولوا عقب ذلك [اللهم ربَّنا ولك الحمد] أو [اللهم ربَّنا لك الحمد] أو [ربنا ولك الحمد] أو [ربنا لك الحمد] أية صيغة من هذه الصيغ يقولونها تجزئهم، فهي قد وردت كلها في أحاديث صحيحة وحسنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: اللهم ربنا ولك الحمد
…
» رواه البخاري. فهنا قال [اللهم ربنا ولك الحمد] وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإنه مَن وافق قولُه قولَ الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» رواه البخاري. فهنا قال [اللهم ربنا لك الحمد] . وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان إذا كبَّر استفتح ثم قال
…
وإذا رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد
…
» رواه أحمد. فهنا قال [ربنا ولك الحمد] وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد» رواه ابن حِبَّان. فهنا قال [ربنا لك الحمد] .
هذه هي الأدلة الأربعة على الصيغ الأربع. وحيث أن الصيغة الأولى [اللهم ربنا ولك الحمد] تشمل ما نقصت عنه الصيغ الثلاث الأخرى فهي تعتبر أفضلها، فالعبادة ثوابٌ، والثواب على كل لفظ وكل حرف، وهنا عبادةٌ بحروف أكثر فهي الأَولى والأفضل.
ثم إن الحديث الأول أثبت أن الإمام يقول [سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا ولك الحمد] وهذا حجة على من يَقْصُر قول الإمام على [سمع الله لمن حمده] فحسب، فهذا الحديث جاء بلفظ عام، فهو يصلح دليلاً للإمام ودليلاً للمنفرد، يعززه ما رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن «أن أبا هريرة كان يكبِّر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضان وغيره، فيكبِّر حين يقوم، ثم يكبِّر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يقول: ربنا ولك الحمد، قبل أن يسجد
…
ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده إني لأقربكم شَبَهاً بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنْ كانت هذه لصلاتُه حتى فارق الدنيا» رواه البخاري. فقوله «في كل صلاة من المكتوبة وغيرها» يفيد أنها تشمل الإمام والمنفرد لأن غير المكتوبة تُؤدَّى انفرادياً. وقوله «إنْ كانت هذه لصلاتُه حتى فارق الدنيا» يفيد أن هذه الأفعال التي أداها أبو هريرة هي الأفعال نفسها التي أدَّاها الرسول صلى الله عليه وسلم. وإذن فالإمام والمنفرد كلاهما يقول [سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا ولك الحمد] .
فيبقى المأموم، فهذا يقول [اللهم ربنا ولك الحمد] فقط، ولا يقول [سمع الله لمن حمده] والدليل على ذلك ما جاء في الحديث الثاني «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد» فالمطلوب من المأمومين أن يقولوا [اللهم ربنا ولك الحمد] فحسب، ولا يزيدون عليها جملة [سمع الله لمن حمده] ، ويدل على ذلك أيضاً ما رواه رفاعة بن رافع الزرقي رضي الله عنه قال «كنا يوماً نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: مَن المتكلم؟ قال: أنا، قال: رأيت بضعة وثلاثين مَلَكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أوَّلَ» رواه البخاري. فهنا لم يقل الرجل [سمع الله لمن حمده] ومع ذلك حصل هذا التسابق بين الملائكة على كتابة ما قال. قال الترمذي (والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم: أن يقول الإمام - سمع الله لمن حمده - ويقول مَن خلف الإمام - ربنا ولك الحمد) .
أما متى يقول المصلي - إماماً كان أو منفرداً – [سمع الله لمن حمده] و [اللهم ربنا ولك الحمد] ؟ فقد أجاب أبو هُريرة رضي الله عنه على هذا السؤال بما رواه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صُلْبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ربَّنا ولك الحمد» رواه ابن خُزَيمة. فالمصلي يقول [سمع الله لمن حمده] وهو يرفع رأسه من ركوعه، أي في أثناء حركته، وعندما يعتدل واقفاً وتسكن حركته يقول [اللهم ربنا ولك الحمد] أو أية صيغة من الصيغ الواردة.
نعود ثانية إلى الصيغ الواردة فنقول: لقد ذكرنا قبل قليل أربع صيغ تقال عقب [سمع الله لمن حمده] وفضَّلنا عليها الصيغة [اللهم ربنا ولك الحمد] . ونقول الآن إن هؤلاء الكلمات الأربع هي الحد الأدنى لما يقوله المصلي عقب [سمع الله لمن حمده] لكنْ هناك صيغٌ إضافية تقال أيضاً منها الصيغة المارَّة في حديث البخاري من طريق رفاعة ابن رافع وهي [ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه] وقد قرأتم ما لها من فضل. وهناك صيغة أطول قليلاً هي [اللهم ربنا لك الحمد ملءَ السموات وملءَ الأرضِ وملءَ ما بينهما، وملء ما شئت من شئ بعدُ] فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال.. وإذا رفع قال: اللهم ربنا لك الحمد، ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئتَ من شئ بعدُ..» رواه مسلم.
وهناك صيغة ثالثة أطول من سابقتها هي [ربنا لك الحمد ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما شئتَ من شئ بعدُ، أهلَ الثَّناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطيَ لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ] وقد وردت هذه الصيغة عند الدارمي ومسلم وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزَيمة، ولكن باختلافات يسيرة في الألفاظ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمدُ ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما شئتَ مِن شئ بعدُ، أهلَ الثَّناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيتَ ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ» رواه الدارمي. وفي رواية لابن حِبَّان بزيادة الواو «ربنا ولك الحمد» وفي رواية لأحمد بزيادة اللهم «اللهم ربنا لك الحمد» وفي رواية لابن خُزَيمة بزيادة اللهم والواو «اللهم ربنا ولك الحمد» وفي رواية لمسلم بزيادة وملءَ ما بينهما «مِلْءَ السموات ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ ما بينهما» والزيادة من الرواة الثقات مقبولة، فتُزاد هذه الزيادات إلى النص الوارد عند الدارمي فتصبح هكذا [اللهم ربنا ولك الحمدُ ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئت من شئ بعدُ، أهلَ الثناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبدٌ، اللهم لا مانع لما أعطيتَ ولا مُعطي لما منعتَ ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ] .