الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموضوع بقوله «إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وِترٍ من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً» رواه البخاري والترمذي وأبو داود وابن خُزَيمة. قوله في وترٍ من صلاته: يعني الركعات الفردية غير الزوجية، وهما الركعتان الأولى والثالثة.
وكون هذه الجلسة خفيفة قصيرة لا يعني عدم الاطمئنان فيها وعدم السكون، فقد روى ابن خُزيمة عن أبي حُمَيد الساعدي قال «
…
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً، فذكر بعض الحديث وقال
…
ثم هوى ساجداً وقال: الله أكبر، ثم ثنى رجله وقعد فاعتدل حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم نهض» .
أما أنها سُنة وليست فرضاً فذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلبها من المُسئ صلاته عندما علَّمه ما عليه أن يفعل في صلاته، ولو كانت فرضاً لعلَّمه إياها، ثم إن قول أيوب في رواية أحمد «فرأيت عمرو بن سَلِمة يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه» ثم ذكر هذه الجلسة في الركعتين الأولى والثالثة ليدل على أن هذه الجلسة ليست فرضاً، وإلا لما تركها المسلمون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما كيفية الجلوس، ففي رواية ابن خُزَيمة الإجابة عليها «ثنى رجله وقعد فاعتدل، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه» . والمقصود بالرِّجل المثنيَّة الرِّجل اليسرى، فالجلسة تكون بأن يثني رجله اليسرى - أي يفرشها - وينصب الرِّجل اليمنى، ثم يقعد على اليسرى، وهي تماثل الجلسة للتَّشهد الأوسط كما سيأتي بعد قليل.
إلا أنه لو أقعى في هذه الجلسة على قدميه المنصوبتين فإني أرجو أن لا يكون في ذلك بأس، وربما كانت هذه الكيفية أسهل في النهوض، فالأمر موسَّع، والله عز وجل أعلم.
التشهُّدُ وهيئةُ الجلوس له
للتشهد في الصلاة عدة صيغ مأثورة أذكر لكم جملة منها:
أ-[التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] .
ب-[التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] .
ج-[التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله] .
وقد رتَّبتُ هذه الصيغ حسب الأولوية، فالأَولى أن يأخذ المسلم الصيغة الأولى، وإلا فالصيغة الثانية، وإلا فالصيغة الثالثة، وهذه هي أدلتها حسب ترتيبها:
أ- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه فقال: إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فلْيقل: التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه إذا قال ذلك أصاب كلَّ عبدٍ صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير بعدُ من الكلام ما شاء» رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد والنَّسائي وأبو داود. قوله السلام على فلان - وفي رواية: السلام على فلان وفلان -: يعني من الملائكة. بدلالة ما جاء في رواية ابن ماجة «
…
السلام على جبرائيل وميكائيل، وعلى فلان وفلان، يعنون الملائكة
…
» . وقوله ليتخير بعدُ من الكلام: الكلام هنا يعني الدعاء. بدلالة رواية النَّسائي وأحمد وأبي داود وابن خُزَيمة وهي «
…
ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه
…
» .
ب- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال «
…
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا، فبين لنا سُنَّتنا وعلَّمنا صلاتنا فقال
…
وإذا كان عند القعدة فليكن مِن أول قول أحدكم: التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» رواه مسلم. ورواه النَّسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد.
ج- عن ابن عباس رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التَّشهُّد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» رواه مسلم وأبو داود. ورواه الطحاوي بلفظ «وأن محمداً رسول الله» . ورواه أحمد وابن حِبَّان بلفظ «
…
التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلامٌ علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» بتنكير [سلام] الثانية. ورواه الترمذي وابن خُزَيمة وأحمد في رواية أخرى له بلفظ «
…
التحياتُ المبارَكاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلامٌ علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» بتنكير [سلام] في الموضعين. ورواه ابن ماجة بلفظ «
…
التحياتُ المبارَكاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» . فذكر [عبده ورسوله] بدل [رسول الله] . فهذه الصيغة قد اضطربت فيها الروايات كثيراً، فأسقطها الاضطراب عن مستوى سابقتيها فكانت الثالثة في الترتيب. أما الأولى والثانية فلم تضطرب فيها الروايات، ولكون الأولى اتفق عليها الشيخان فقد جعلتها الأُوْلى، وجعلتها الأَوْلى. قال الترمذي (حديث ابن مسعود قد رُوي عنه من غير وجه، وهو أصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التَّشهُّد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم من التابعين) . ثم إن روايات ابن مسعود نُقل عنه أنه تلقَّاها عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - تلقيناً، فقد روى البخاري عنه قوله «علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكفي بين كفيه - التشهد
…
» . وروى الطحاوي عنه قوله «أخذتُ التشهُّدَ مِن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقَّنِيها كلمةً كلمةً
…
» . فهذه زيادةٌ في قوة الصيغة الأولى.
وقد وردت صيغ أخرى للتَّشهُّد غير هذه الصيغ الثلاث لا بأس بإطلاعكم عليها:
أ-[بسم الله وبالله، التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] وقد وردت هذه الصيغة في رواية للنَّسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، كما وردت في رواية لابن ماجة ولكن بزيادة [لله] عقب [والطيبات] ولا يَبْعُد عندي أن جابراً كان يفتتح التَّشهُّد بقوله [بسم الله وبالله] تبرُّكاً، ولم يكن يعتبر ذلك القول من صيغة التَّشهُّد نفسها. وقد ورد في الحديث ذِكْر «أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار» عقب التَّشهُّد مباشرة، فلم أعتبرها جزءاً من صيغة التَّشهُّد، وإنما هي دعاء كان جابر يقوله عقب الفراغ من التشهُّد، يشهد لهذا الفهم ما جاء في حديث رواه ابن ماجة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وسيأتي بتمامه في بحث [الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة] وجاء فيه «
…
قال أتَشَهَّد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار
…
» . فجعل هذا القول دعاءً غير داخل في التشهد، فإذا كان ذلك كذلك فإن هذه الصيغة الواردة عن جابر رضي الله عنه هي صيغة ابن مسعود الأولى نفسُها.
ب-[التحياتُ لله الصلواتُ الطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله] وقد جاءت هذه الصيغة في رواية لأبي داود من طريق ابن عمر رضي الله عنه كما رواها الطحاوي ولكن بدون [وحده لا شريك له] في رواية، وبها في رواية ثانية.
ج-[التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ الزاكياتُ لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام عليكم] وهذه الصيغة رواها مالك عن عائشة موقوفةً عليها، وقد جاء فيها التشهد مقدَّماً على السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.
د-[التحياتُ لله الزاكياتُ لله الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] وهذه الصيغة رواها مالك والطحاوي موقوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليست في رواية الطحاوي لفظةُ [الطيبات] وهناك صيغ غير هذه للتشهد لم أر ضرورة لإيرادها، فمن أحب الاطلاع عليها فلْيطلبها في مظانِّها.
وباستعراض جميع الروايات الواردة هنا نجد أنها جاءت بلفظ «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» أو «سلامٌ عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» أي أنها كلَّها جاءت بصيغة الخطاب، غير أن عدداًً من الفقهاء يقولون بأن صيغة الخطاب كان معمولاً بها والرسول صلى الله عليه وسلم حيٌّ، وأن هذه الصيغة تحولت إلى صيغة الغَيْبة - السلام على النبي ورحمة الله وبركاته - بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، مستدلين على هذا الرأي بالأحاديث التالية:
1-
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التَّشهُّد، كفِّي بين كفَّيه، كما يعلِّمني السورة من القرآن: التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله، وهو بين ظهرانينا، فلما قُبض قلنا: السلام على النبي» رواه ابن أبي شيبة والبخاري والبيهقي.
2-
عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يتشهد فيقول «بسم الله، التحياتُ لله، الصلواتُ لله، الزاكياتُ لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته
…
» رواه مالك.
3-
عن القاسم بن محمد قال «كانت عائشة تعلمنا التشهد وتشير بيدها تقول: التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ الزاكياتُ لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته
…
» رواه البيهقي.
4-
عن عطاء قال «سمعت ابن عباس وابن الزبير يقولان في التشهد في الصلاة: التحياتُ المباركاتُ لله، الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته
…
» رواه عبد الرزاق.
5-
عن عطاء «أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسلِّمون والنبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» رواه عبد الرزاق.
فنجيب هؤلاء بأن تعدُّدَ صيغ التشهد يدل على أنه لا صيغة بذاتها واجبة دون غيرها، وأن هذا التعدد يدل على جواز الأخذ بأية صيغةٍ مأثورةٍ واردةٍ، فالأخذ بأية صيغة من هذه الصيغ جائز شرعاً، ومُسقطٌ للفرض والوجوب، فالأمرُ في ألفاظ التشهد موسَّع. فكما أنه يتسع لهذه الصيغة ولتلك، فهو يتسع كذلك لصيغة الخطاب ولصيغة الغيبة، وهذا الاتساع لا ينفي القول بأولوية صيغة على غيرها، وبأولوية صيغة الخطاب على صيغة الغَيْبة مع جواز الكل طبعاً.
فرواية ابن مسعود نُقلت من طرقٍ عديدةٍ زاد رُواتها على العشرين ومع ذلك جاءت كلها بالألفاظ نفسها دون أي اختلاف، فهذا مرجحٌ معتبرٌ لها على ما سواها من الروايات والألفاظ. فالقول بالتخيير لا ينفي القول بتفضيل إحداها على ما سواها. ومما يدعم القول أيضاً بتفضيل صيغة الخطاب على صيغة الغَيْبة ما يلي:
1-
أن جميع رواة الأحاديث عبر العصور قد استمروا في رواية صيغة الخطاب دون أن يقيدوها بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانت حياته عليه الصلاة والسلام قيداًً لها لذكروه.
2-
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ذكر صيغة الخطاب على المنبر أمام الصحابة، وأن ذلك حصل منه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه أحدٌ منهم، فقد جاء في الموطأ «عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلِّم الناس التشهد، يقول قولوا: التحياتُ لله، الزاكياتُ لله، الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» .
3 -
لم يُرو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علَّم المسلمين صيغتين: صيغةً يقولونها وهو حيٌّ، وصيغةً يقولونها بعد موته، وإنما علمهم صيغة واحدة هي صيغة الخطاب، ولم يأمرهم بتركها والأخذ بصيغة الغيبة إذا مات.
لهذه الأسباب فإنَّا نذهب إلى تفضيل صيغة الخطاب على صيغة الغَيْبة، ونرى أن صيغة الغَيْبة ليست إلا اجتهاداًً من عدد من الصحابة يصح أخذه وتقليده كما يصح تركه، وأنا أقول بأولوية تركه.
ويجلس للتشهد في آخر الركعة الثانية، وفي آخر الركعة الرابعة في الصلاة الرباعية، أو في آخر الركعة الثالثة في الصلاة الثلاثية، وقد جاء ذكر هاتين الجلستين فيما رواه أحمد من طريق ابن مسعود رضي الله عنه «
…
كان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وَرِكِه اليسرى التحياتُ لله
…
» .
والتشهد في وسط الصلاة هو التشهد الأول، والذي في آخرها هو التشهد الأخير، وهذان التشهدان واجبان مفروضان، لا يجوز تركهما أو ترك أحدهما، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال «كنا نقول في الصلاة قبل أن يُفرض التشهدُ: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا، فإن الله عز وجل هو السلام، ولكن قولوا: التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ
…
» رواه النَّسائي وصححه الدارقطني والبيهقي. فقد جاء فيه «قبل أن يُفرَض التشهد» وهذا واضح الدلالة، وهو يشمل التَّشهُّد الأول والتَّشهُّد الأخير، يشهد له ما جاء في روايةٍ عند النَّسائي «فقولوا في كل جلسة» . وروى عبد الله بنُ بُحَيْنةَ الأسدي حليفُ بني عبد المطلب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتمَّ صلاته سجد سجدتين يكبِّر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلِّم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس» رواه مسلم والبخاري. فقوله «قام في صلاة الظهر وعليه جلوس» يعني الجلوس للتشهد الأول، ويشير إلى أن هذا الجلوس واجب عليه. وأيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الله، فعلَّمه التَّشهُّد في الصلاة فقال قل: التحياتُ لله
…
وأن محمداً عبده ورسوله، قال فإذا قضيت هذا أو قال فإذا فعلت هذا فقد قضيتَ صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد» رواه أحمد. ورواه أبو داود والدارمي قريباً منه. غير أن الحُفْاظَ قد اتفقوا على أن الجملة الأخيرة
مُدْرَجةٌ من قول عبد الله بن مسعود نفسه، أعني قولَهُ «فإذا قضيتَ هذا، أو قالَ: فإذا فعلتَ هذا فقدْ قضيتَ صلاتكَ
…
» وليست من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا القول إذن قول صحابي، وأقوال الصحابة أحكام شرعية يصح أخذها وتقليدها. وأيضاً رُوي عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمُنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول تعلَّموها، فإنه لا صلاة إلا بتشهد» رواه البزَّار. ووثَّق الهيثمي رجال سنده. وروى البيهقي عن عبد الله رضي الله عنه قال «التَّشهُّد تمام الصلاة» . وروى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال «لا تجوز صلاةٌ إلا بتشهُّدٍ» ورواه البيهقي. فانضم قول عمر إلى قول ابن مسعود بوجوب التشهد في الصلاة. فهذه المرويات الأربعة يُؤخذ منها حكم وجوب التشهد في الصلاة.
والتَّشهُّد الأول يجلس له المصلي ناصباً رِجله اليمنى مُوَجِّهاً صدرها نحو القِبلة مفترشاً رجله اليسرى جالساً عليها، ويجلس للتشهد الأخير على وَرِكِه اليسرى بأن يُقَدِّم رِجله اليسرى فيضعها بين فخذه وساقه، ويجلس على مقعدته، وفي الجلوسين يضع راحته اليمنى على فخذه اليمنى، وراحته اليسرى على فخذه اليسرى قابضاً على ركبتيه بأصابعه، ويضمُّ أصابع يده اليمنى الخنصر والبنصر والوسطى، ويضع إبهامه على الوسطى، ويمدُّ سبَّابته مداً خفيفاً ضعيفاً - أي يجعلها منحنيةً قليلاً - ويبقيها هكذا في أثناء الدعاء، فهذه هي الهيئة المثلى لجلوس التشهد، فعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال «قدمتُ المدينة، قلت: لأنظرنَّ إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جلس - يعني - للتشهد، افترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى - يعني على فخذه اليسرى - ونصب رجله اليمنى» رواه التِّرمذي. ورواه النَّسائي ولفظه «
…
وإذا جلس في الركعتين أَجنحَ اليسرى ونصب اليمنى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ونصب أُصبعه للدعاء، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى
…
» . ورواه أحمد ولفظه «
…
ثم قعد فافترش رجله اليسرى، فوضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض بين أصابعه، فحلَّق حلقةً ثم رفع أُصبعه، فرأيته يحرِّكُها يدعو بها» . وجاء في رواية أُخرى لأحمد «
…
حلَّق بالوسطى والإبهام، وأشار بالسَّبَّابة» . قوله فرأيته يحركها يدعو بها: أي يحرِّكُها مِن موضعها بين أصابعه لتصبح منصوبة. فهو إذا نصبها ثبَّتها في هيئتها طيلة الدعاء دون أن يُرجِعَها إلى موضعها، أو يُديم تحريكها كما يفعل كثير من الناس. فهذه الحركة المتواصلة للسَّبابة ليست مطلوبة، وليست هي التطبيق الصحيح لما جاء في حديث أحمد، بدلالة ما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه «أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه إذا دعا ولا
يُحرِّكها، قال ابن جُريْج: وزاد عمرو بن دينار قال: أخبرني عامر عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كذلك» رواه أبو داود والنَّسائي. وروى عبد الرزاق الشطر الأول. وعن أبي حُمَيد السَّاعدي رضي الله عنه قال «أنا كنت أحفظكُم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته إذا كبَّر جعل يديه حِذاء منكبيه
…
فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدَّم رِجله اليسرى ونصب الأُخرى، وقعد على مقعدته» رواه البخاري. وجاء في رواية لابن خُزَيمة «
…
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها الصلاة أخَّر رجله اليسرى، وقعد على شِقِّهِ متورِّكاً، ثم سلم» . وعن عبد الله بن الزبير قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفَرَشَ قدمه اليمنى، ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأُصبعه» رواه مسلم وأبو داود. وجاء في روايةٍ أخرى لمسلم «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو، وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بأُصبعه السَّبَّابة، ووضع إبهامه على أُصبعه الوسطى، ويُلْقِمُ كفَّه اليسرى ركبتَه» . وعن نمير الخُزاعي رضي الله عنه «أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة واضعاً اليمنى على فخذه اليمنى، رافعاً أُصبعه السَّبابة، قد حناها شيئاً وهو يدعو» رواه ابن حِبَّان وابن خُزَيمة والنَّسائي وأبو داود.
فالمسلم يتورَّك في جلسة التشهد الأخير، والتَّورُّكُ هو أن يُلصق إلييه بالأرض، ويمد رجليه في اتجاه واحد جهة اليمين. وهذه الجلسة تشق على كثير من الناس، فمن وجد مشقَّةً فيها فلا بأس بأن يَعْدِل عنها إلى هيئة الجلوس للتَّشهُّد الأول، وتكون بنصب اليمنى وبسط اليسرى والجلوس على بطن اليسرى. فإن وجد مشقة في هذه الجلسة أيضاً فلا بأس من الجلوس متربِّعاً، فإن الدين يُسر، فعن عبد الله بن عبد الله بن عمر أنه أخبره «أنه كان يرى عبد الله بن عمر يتربَّعُ في الصلاة إذا جلس، قال ففعلته وأنا يومئذٍ حديث السن، فنهاني عبد الله وقال: إنما سُنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى، فقلت له: فإنك تفعل ذلك، فقال: إن رجليَّ لا تحملاني» رواه مالك والبخاري. وجاء في رواية أخرى لمالك من طريق المغيرة بن حكيم «إنما أفعل هذا من أجل أني أشتكي» .
ويُكره في جلوس التشهد أن يعتمد الرجل على يده أو على يديه، بأن يضعهما على الأرض مستعيناً بهما، كما يكره الجلوس على مقعدته وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض، يُقعي كما يُقعي الكلب والقرد وسائر لسباع، وهو الإقعاء المنهي عنه، وهو المسمى عُقْبَة الشيطان، أو عَقِب الشيطان، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة» رواه ابن خُزَيمة. ورواه أحمد ولفظه «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو يعتمد على يديه» . ووقع في رواية عند أبي داود «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمدٌ على يده» . وروى أحمد من طريق ابن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً ساقطاً يده في الصلاة فقال: لا تجلس هكذا، إنما هذه جلسة الذين يعذَّبون» . قوله ساقطاً يده: أي واضعاً يده بجانبه معتمداً عليها. وروى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنه «أنه رأى رجلاً يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة - وقال هرون بن زيد ساقطاً على شِقِّه الأيسر - فقال له: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذَّبون» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ الحمدُ لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يُشْخص رأسه ولم يصوِّبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً، وكان يقول في كلِّ ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عُقْبَةِ الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم» رواه مسلم. ورواه أحمد وأبو داود. ووقع في رواية أُخرى لمسلم «وكان ينهى عن عَقِب الشيطان» . وكذلك جاء في رواية أبي داود وفي رواية أحمد.