الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد أطلقت الأحاديث لفظة الوضوء على التيمُّم، فهو وضوء لا يختلف عنه إلا بأن وجدان الماء ناقض له، فقد جاء الحديث بلفظ «فإذا وجدت الماء فأمِسَّه جلدك» ومعنى ذلك أنه يظل متيمِّماً أي طاهراً ما دام الماء مفقوداً، ولو كان خروج وقت الصلاة ناقضاً لذُكر هنا، فلما لم يُذكر دل ذلك على عدم وجوده، ثم إن الأصل في التيمُّم أنه قائم مقام الوضوء في جميع أحكامه، فلا يخرج عن ذلك إلا بدليل. والوضوء لا ينتقض بخروج وقت الصلاة، ويجوز قبل دخول الوقت، فكذلك التيمُّم، إلا أن يُؤتَى بدليل صالح. وليس من الأدلة الصالحة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «من السُّنَّة أن لا يصلِّي الرجل بالتيمُّم إلا صلاة واحدة ثم يتيمَّم للصلاة الأخرى» رواه الدارقطني وعبد الرزاق والبيهقي. أو ما روي عن علي رضي الله عنه قوله «يتيمَّم لكل صلاة» رواه الدارقطني والبيهقي، لأن الحديث الأول مرويٌّ من طريق الحسن بن عمارة وهو ضعيف وقال بعضهم: متروك. وأما قول علي فهو مروي من طريق الحارث الأعور والحارث ضعيف بل كذبه بعضهم، قال البيهقي (إسناده ضعيف) ومثلهما ما رُوي عن ابن عمر أنه كان يتيمَّم لكل صلاة كما رواه عنه الدارقطني والبيهقي، فإن فيه عامر الأحول عن نافع، وعامر ضعَّفه ابن عُيينة وأحمد، وفي سماعه من نافع نظر، وقال ابن حزم (الرواية فيه عن ابن عمر لا تصح) .
وجدانُ الماء بعد فقده
أبنَّا من قبل أن التيمُّم كالوضوء باستثناءٍ واحد هو أن وجدان الماء من بعد فقده ينقض التيمُّم، إلا أن الأئمة والفقهاء قد اختلفوا في هذا الناقض من حيث التوقيت: هل وجدان الماء عقب أداء الصلاة وقبل خروج الوقت يبطل التيمُّم والصلاة ويوجب الإعادة؟ وهل وجدان الماء في أثناء الصلاة مبطلٌ للتيمُّم وللصلاة وموجبٌ للانصراف عنها وإعادتها؟ وهل وجدان الماء قبل الصلاة مبطلٌ للتيمُّم وموجبٌ للوضوء للصلاة؟ أم أن التيمُّم باق وتصح الصلاة به؟.
فذهب أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد إلى أن من صلى بالتيمُّم ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة لا تجب عليه الإعادة، وخالفهم طاووس وعطاء والقاسم بن محمد ابن أبي بكر ومكحول وابن سيرين والزُّهري وربيعة فقالوا إنها تجب مع بقاء الوقت. وذهب جمهور الفقهاء والأئمة إلى أن المتيمِّم إذا وجد الماء قبل الصلاة وجب عليه الوضوء ولا تصح صلاته بالتيمُّم. وخالفهم داود وسلمة بن عبد الرحمن فذهبا إلى عدم الوجوب. وذهب أبو حنيفة والأوزاعي والثوري إلى أن المتيمِّم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة قبل الفراغ منها وجب عليه الخروج منها وإعادتها، وخالفهم مالك وداود فقالا لا يجب عليه الخروج بل يحرم، والصلاة صحيحة.
والصحيح هو أن وجدان الماء ناقضٌ للتيمُّم. والمعلوم أن الناقض متى وجد نَقَض، لا فرق في ذلك بين كونه وُجِد قبل دخول الوقت أو بعده، ولا فرق بين كونه وُجد قبل الصلاة أو في أثنائها أو بعدها، فكل هذه الحالات حكمها واحد، والتفريق تكلُّفٌ لا دليل عليه. وعليه فإن من صلى بالتيمُّم ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة فصلاته صحيحه ولا إعادة عليه، وأن المتيمِّم إن وجد الماء قبل الصلاة بطل تيمُّمه ووجب عليه الوضوء للصلاة، وصلاته دون وضوء باطلة، وأن المتيمِّم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة قبل الفراغ منها وجب عليه الخروج منها وإعادتها. وهذا كله مبني على أن التيمُّم كالوضوء ناقضه كناقضه سواء بسواء، والتفريق بينهما في النواقض تفريق لا دليل عليه، وغاية ما يتمسك به الذاهبون إليه شُبُهات وتأويلات ودلالات بعيدة لا تصمد أمام النقاش.
فمثلاً قال عطاء والقاسم ومكحول وابن سيرين والزُّهري وربيعة وطاووس: تجب الإعادة مع بقاء الوقت، لتوجُّه الخطاب مع بقائه، لقوله تعالى {أَقِم الصَّلاةَ} مع قوله تعالى {إذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ} فشرط في صحتها الوضوء، وقد أمكن في وقتها، ولقوله صلى الله عليه وسلم «فإذا وجد الماء فلْيتق الله ولْيُمِسَّه بَشَره» . وقال داود ومالك: لا يجب الانصراف من الصلاة بل يحرم. مستدلين بقوله تعالى {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وقالا: ما دامت الصلاة قد افتتحت افتتاحاً صحيحاً فلا يجوز نقضها والانصراف منها. وقال داود: إن المتيمِّم إذا وجد الماء قبل الصلاة لم يجب عليه الوضوء لقوله تعالى {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . وتردد الشوكاني في هذه المسألة، وعلَّق على الحديث الذي جاء بلفظ «فإذا وجد الماء فلْيُمِسَّه بشرته فإن ذلك خير» علَّق عليه بقوله (يُشكِل عليَّ الاستدلال بهذا الحديث قوله ـ فإن ذلك خير ـ فإنه يدلُّ على عدم الوجوب المدَّعى) . هذه أقوالهم وهذه شبهاتهم.
وقد ورد في هذا الموضوع من النصوص ما يلي:
1-
عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال «خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمَّما صعيداً طيباً فصلَّيا، ثم وجدا الماء في الوقت ـ فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يُعِد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يُعِد: أصبت السُّنَّة وأجزأتك صلاتُك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجْرُ مرتين» رواه أبو داود والدارمي والحاكم والدارقطني. ورواه النَّسائي بلفظ «.. فقال للذي لم يُعِد: أصبت السُّنَّة وأجزأتك صلاتُك، وقال للآخر: أما أنت فلك مثل سَهْمِ جَمْع» قوله سَهم جمع: يعني جَمَعَ أجرَ الصلاتين.
2-
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الصعيد وَضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فلْيتق الله ولْيُمِسَّه بَشَرَه فإن ذلك خير» رواه البزَّار ورجاله رجال الصحيح. وصححه ابن القطان.
الحديث الأول رَدٌّ صريح على من أوجب الإعادة مع بقاء الوقت، والمعلوم أنه لا اجتهاد في موضع النص، وهذا نص فلا يحلُّ القول بخلافه، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام للذي لم يُعِدْ «أصبت السُّنة وأجزأئك صلاتك» منطوق في عدم وجوب الإعادة، فيسقط رأيهم أو اجتهادهم. والحديث الثاني ردٌّ على من قال إن المتيمِّم إذا وجد الماء قبل الصلاة لم يجب عليه الوضوء، وعلى من قال إنه لا يجب الانصراف من الصلاة إن وجد الماء في أثنائها. فقوله عليه الصلاة والسلام «فإذا وجد الماء فليتق الله ولْيُمِسَّه بَشَره» عام في كل حالة من حالات وجدان الماء لا فرق بين حالة الصلاة، وحالة ما قبلها وحالة ما بعدها. فوجدان الماء ناقض للتيمُّم كالبول الناقض للوضوء، فكما أن من بال انتقض وضؤوه سواء كان قبل صلاة أو في الصلاة أو بعدها، وسواء كان في وقت الصلاة أو قبل دخول الوقت أو قبل خروجه، فكذلك المتيمِّم إن وجد الماء انتقض تيمُّمُه، سواء كان قبل الصلاة أو في الصلاة أو بعدها، وسواء كان في وقت الصلاة أو قبل دخول الوقت أو قبل خروجه، ومن ادعى التخصيص بحالة من الحالات فليأت بدليل، لا بشبهة ولا بتأويل.
أما من كان قبل الصلاة فهو ظاهرٌ جداً، فالتيمُّم ينتقضُ بوجدان الماء، فكيف يصح له أن يصلي دون وضوء؟ وأما من كان في الصلاة فكيف يُتِمُّ صلاته وقد بطل تيمُّمه بوجدان الماء؟ وهل من أخرج ريحاً وهو يصلي يُتِم صلاته مستدلاً بالآية الكريمة {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ؟ فما شأننا وقد بطلت طهارتنا في إبطال الأعمال؟ ثم أي إبطال للأعمال هذا ونحن نوجب إعادة الصلاة؟.