الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا أنَّ هناك التفاتاً من نوع آخر يحصل بتحريك الوجه، كما يحصل بتحريك العينين فحسب، ويكون في الحالتين حراماً، هو رفع البصر إلى السماء في الصلاة، فهذا الرفع للبصر قد ورد النهي الشديد عنه، وأنَّ على المصلي أن يُطأطئ رأسه وبصره، ويُحبَّذ أن يصوِّب بصره نحو موضع سجوده وهو واقف، وأن ينظر إلى سبَّابته أو ركبتيه وما بينهما وهو جالس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت: الذين هم في صلاتهم خاشعون، فطأطأ رأسه» رواه الحاكم. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَيَنتهيَنَّ أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم» رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لينتهيَنَّ أقوامٌ عن رفعهم أبصارَهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتُخطَفَنَّ أبصارُهم» رواه مسلم. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بال أقوامٍ يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ فاشتدَّ قوله في ذلك حتى قال: ليُنْتَهَيَنَّ عن ذلك أو لَتُخْطَفَنَّ أبصارهم» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي وابن حِبَّان. فقد جاء النهي بصيغة شديدة، فقوله [لينتهينَّ] تضمَّن لام الأمر ونون التوكيد، وقوله [أو لا ترجع إليهم] ، وقوله [أو لتُخْطَفَنَّ أبصارهم] قرينةٌ إضافية على التحريم والنهي الجازم.
فمن التفت إلى غير جهة القِبلة يميناً وشمالاً، أو التفت إلى السماء صُعُداً فقد صلى إلى غير جهة القِبلة وترك بذلك واجب الاستقبال، فوقع في الإثم، إلا أنه مع ذلك لا تجب عليه إعادة الصلاة وتظل صلاته مقبولة مع حصول النقص فيها، بدلالة قوله عليه الصلاة والسلام «اختلاسٌ يختلسه الشيطان من صلاة العبد» المار في صدر هذا البحث.
الجهرُ في الصلاة الجهرية
الجهر في الصلاة يكون في صلاة المغرب وصلاة العشاء وصلاة الصبح، كما يكون في صلاة التطوُّع في الليل، ويكون في صلاة الجمعة وصلاة العيدين وصلاة الاستسقاء وصلاة الكسوف، وما سوى هذه الصلوات فالإسرار فيها هو المشروع.
ويكون الجهر في قراءة الفاتحة وما تيسر من القرآن بعدها في الركعتين الأوليين فقط، ويكون أيضاً في تكبيرة الإحرام وسائر التكبيرات، كما يكون في قوله: سمع الله لمن حمده، عقب الرفع من الركوع، ويكون في التسليم عن اليمين وعن الشمال، وهذا كله معلوم ومعروف.
أما قدر الجهر في الصلاة الجهرية فقد ورد فيه الحديثان الآتيان:
أ- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال «كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدر ما يسمعه مَن في الحجرة وهو في البيت» رواه أبو داود. والبيت هنا: يعني مكان النوم أو غرفة النوم. والحجرة هنا: تعني صحن الدار أو ساحتها.
يبين هذان الحديثان أن الجهر المشروع هو ما كان متوسطاً بين الشدة في الرفع وبين الضعف في الصوت والخفوت فيه، فلا يوصف بالارتفاع ولا بالانخفاض والخفوت، فقوله في الحديث «يخفض من صوته» و «رافعاً صوته» ثم علاج الأمرين بقوله «ارفع من صوتك شيئاً» وبقوله «اخفض من صوتك شيئاً» واضح الدلالة على مشروعية الاعتدال ورفض الرفع والانخفاض، ويأتي الحديث الأول ليحدِّد قدر الجهر بشكل دقيق، وهو الصوت الذي إذا انبعث من داخل غرفة النوم سمعه من يقف في ساحة الدار. فهذا هو الجهر المشروع في الصلاة.
أما ما رواه أبو داود عن أبي هريرة قال «كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل: يرفع طوراً ويخفض طوراً» . وما رواه أحمد عن يحيى بن معمر عن عائشة رضي الله عنها قال «قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقراءة؟ قالت: ربما رفع وربما خفض» . فيخطئ مَن يستدل بهما على قدر الجهر في الصلاة، ذلك أن هذين الحديثين قد وردا في موضوع جواز الجهر في الصلاة، ولم يردا في موضوع قدر الجهر، فقوله في الحديث الأول «يرفع طوراً ويخفض طوراً» وقوله في الحديث الثاني «ربما رفع وربما خفض» جاء لبيان حكم الجهر في الصلاة، وأنه الجواز، بدلالة فعله عليه الصلاة والسلام في صلاته، إذ كان يجهر مرة ولا يجهر مرة أخرى بل يُسِرُّ، ولو كان الجهر واجباً لما تركه عليه الصلاة والسلام في صلاته الجهرية مراتٍ، وحكم الجهر في الصلاة موضوع مغاير لقدر الجهر في الصلاة.