الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يراه هذا الفريق من أن الكلام الذي يحصل جهلاً لا يبطل الصلاة، وأن الكلام المتعمَّد هو المُبطل فحسب، فالرد عليهم بأن الذي يبطل الصلاة يبطلها في حالتي العمد والجهل بدلالة حديث المسئ صلاته، فإنه صلى ثلاث مرات جهلاً بمبطلات الصلاة فلم ينفعه جهله وبطلت صلاته، مما يدل دلالة مؤكدة على أن مبطلات الصلاة تبقى مبطلات في حالتي العلم والجهل على السواء. ولهذا فلو كان الكلام من المبطلات لكان أبطل صلاة معاوية بن الحكم، لأن الجهل لا يغني شيئاً بخصوص المبطلات كما أثبتنا، فلما عَلِمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبطل صلاة المسئ صلاته رغم أنه صلى جاهلاً، وعلمنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يبطل صلاة معاوية بن الحكم الذي تكلم جاهلاً، أدركنا أن ما فعله المسئ صلاته مغايرٌ ومختلفٌ عما فعله معاوية بن الحكم بلا شك، وهذا الاختلاف لا يدلُّ إلا على أنَّ المُسئ صلاتَه قد فعل ما يبطل الصلاة، وأنَّ معاوية ابن الحكم لم يفعل إلا حراماً دون أن يصل ذلك إلى درجة المبطلات، وهذا يعني أن الكلام ليس من مبطلات الصلاة، وأن فعل الحرام في الصلاة لا يبطلها.
وبذلك يتضح أن الاستدلالات التي استدل بها هذا الفريق غير صحيحة، وأن الرأي الذي يقولون به من أن الكلام يبطل الصلاة، هو رأي غير صحيح. فلم يبق لنا إلا أن نقول إن الكلام هو من المُحرَّمات فحسب في الصلاة، وأن فعل الحرام في الصلاة ينقصها فحسب ولا يبطلها.
2ــ الخشوعُ في الصلاة
الخشوع معناه السكون في ذلَّةٍ وخضوع، قال عز وجل {وتَرَاهُمْ يُعْرَضُوْنَ عَلَيْهَا خَاشِعِيْنَ مِن الذُّلِّ يَنْظُرُوْنَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ
…
} الآية 45 من سورة الشورى. وقال سبحانه {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وقَدْ كَانُوْا يُدْعَوْنَ إلى السُّجُوْدِ وهُمْ سَالِمُوْنَ} الآية 43 من سورة القلم. وروى النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «.. إن الله عز وجل إذا بدا لشئ من خلقه خشع له..» رواه النَّسائي.
إن الصلاة أقوال وأفعال وإنها كلها لله رب العالمين، فينبغي أن لا يُقال فيها إلا ما هو مشروع وموجَّهٌ إليه سبحانه. كما أنه ينبغي أن لا يُفعل فيها إلا ما هو مشروع من أفعال الصلاة إلا ما جاءت النصوص باستثنائه فيباح، وما سوى ذلك فهو حرام، ويدخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أحمد والترمذي. وقد مرَّ في بحث [حكم تكبيرة الإحرام] وبحث [القنوت في الصلاة] فالتكبير للصلاة يجعل كل قولٍ وكلَّ فعلٍ غير مشروع في الصلاة حراماً.
وقد حث الشرع على الخشوع في الصلاة ورغَّب فيه وبيَّن فضله في العديد من النصوص نذكر منها قوله عز وجل {قَدْ أَفْلَحَ المؤْمِنُوْنَ. الذِيْنَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُوْنَ} الآيتان 1، 2 من سورة المؤمنون. وقوله تعالى {واسْتَعِيْنُوْا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإنَّهَا لَكَبِيْرَةٌ إلا عَلَى الخَاشِعِيْنَ. الذِيْنَ يَظُنُّوْنَ أَنَّهُمْ مُلاقُوْ رَبِّهِمْ وأَنَّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُوْن} الآيتان 45، 46 من سورة البقرة. وعن عثمان رضي الله عنه «
…
فدعا بوَضُوءٍ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من امرئ مسلمٍ تحضُره صلاةٌ مكتوبةٌ فيُحسن وضوءَها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارةً لِما قبلها من الذنوب ما لم يُؤت كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه» رواه مسلم. وعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أشهدُ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «خمس صلوات افترضهن اللهُ على عباده، مَنْ أحسن وضوءَهن وصلَاّهن لوقتهن، فأتمَّ ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذَّبه» رواه أحمد وأبو داود.
وقد اختلف الفقهاء في حكم الخشوع في الصلاة، فاختار أكثرهم الندب والاستحباب، واختار الآخرون الوجوب وهو الصحيح. وحتى نتبين وجه الصواب في هذه المسألة لننظر في النصوص المتعلقة بذلك:
أ - عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت: الذين هم في صلاتهم خاشعون، فطأطأ رأسه» رواه الحاكم. وقد مرَّ في بحث [النظر في الصلاة] .
ج - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علامَ تُومِئُون بأيديكم كأنها أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ؟
…
» رواه مسلم. وقد مرَّ بتمامه في بحث [القنوت في الصلاة] ولمسلم حديثٌ ثانٍ عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ؟ اسكُنوا في الصلاة
…
» . وقد مرَّ في بحث [القنوت في الصلاة] .
الدليل الأول يدل على وجوب الخشوع، فقد مرَّ معنا في بحث [النظر في الصلاة] حُرمةُ النظر إلى السماء بما يغني عن إعادته هنا، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في صلاته فنزل قوله تعالى {الذِيْنَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُوْنَ} الآية 2 من سورة المؤمنون. ففهم عليه الصلاة والسلام من هذه الآية أن الخشوع يقتضي عدم رفع النظر فطأطأ رأسه، وهذا كله يدل على أن الخشوع يتعارض مع رفع البصر، وأن رفع البصر يتعارض مع الخشوع، وما دام أن رفع البصر حرام، فالخشوع بخفض البصر إذن واجب.
والدليل الثاني يدل هو الآخر على وجوب الخشوع، فالله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين إن هم فعلوا كذا وكذا وكذا، وفعلوا الخشوع وصفهم بالفلاح، وبشَّرهم بوراثة الفردوس، وهذا يعني أن من أراد الفوز بالفلاح ودخول أعلى درجات الجنة فلْيخشع في صلاته، ولْيُعْرِض عن اللغو ولْيُزَكِّ، ولْيَحْفظ فرجه، ولْيُراعِ الأمانة والعهد، ولْيُحافظ على الصلاة، فإن ترك فعلاً من هذه الأفعال لم يستحق الفلاح ودخول الفردوس، بمعنى أن من لا يخشع لا يضمن الفلاح ودخول الفردوس، فهل يستطيع بعد ذلك أن يدَّعيَ مُدَّعٍ أن الخشوع غير واجب؟ إن الفلاح ودخول الفردوس هما الفوز الأكبر، وإن الفوز الأكبر بحاجة إلى الثمن الأكبر والثمن الأكبر لا يكون من صنف المندوبات، وإنما هو من الواجبات، ولهذا نجد أن جميع المذكورات في هؤلاء الآيات المباركات هي من الواجبات، فالخشوع واجب.