الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعود لأصل البحث فنقول: لو دخل المريض في صلاته وهو مستطيع قادر فوقف، ثم عجز في أثناء صلاته عن الوقوف ثانية في الركعة التالية، فإن له أن يبني على ما مضى ويجلس في الركعات التالية، وبالعكس لو هو دخل الصلاة وهو غير مستطيعٍ فجلس في أولها، ثم وجد في نفسه هِمَّةً وقوةً وقف في الركعات التالية، وهكذا يفعل ما يستطيع أن يفعله من حركات وأوضاع، وما لا يستطيعه فلا عليه أن لا يأتيه.
وينبغي أن يُعلم أن العذر المبيح لما سبق هو المرض، أو وجود المشقة، أو الخوف من حصول ضرر، أو الخوف من حصول زيادة مرض. وأُلفت النظر إلى أنَّ المرض إن كان خفيفاً كالرشح، أو كان سُعالُ، أو كان صُداعٌ خفيفٌ، أو كان رمدٌ في العين وأمثال ذلك فإن المسلم مأمور بالإتيان بالصلاة على هيئاتها الكاملة لقدرته واستطاعته ذلك. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال «
…
وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد. وإنَّ المريض بأمثال هذه الأمراض يستطيع الصلاة بهيئاتها الكاملة بلا شك، فلا تصلح هذه الأمراض لأن تكون أعذاراً.
الجمعُ بين الصلاتين
لا يكون الجمع إلا بين الظهر والعصر، وإلا بين المغرب والعشاء فحسب، فلا يصح الجمع بين الصبح والظهر، ولا بين العصر والمغرب، ولا بين العشاء والصبح، وهذا معلوم من الدين بالضرورة. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سيرٍ، ويجمع بين المغرب والعشاء» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في السفر» رواه أحمد. والأحاديث في ذلك كثيرة لا حاجة لإيرادها كلها.
والجمع بين الصلاتين حالة استثنائية، لأن الأصل في الصلوات أن لكل واحدة منها وقتاً معلوماً لا يصح تجاوزه، وهذه الحالة الاستثنائية شُرعت عند وجود عذر من الأعذار، فإن لم يكن هناك عذر فإن الجمع لا يجوز قطعاً، وقد ذكرنا في فصل [الصلاة حكمها ومواقيتها] مواقيت هذه الصلوات وأنها واجبة الالتزام.
ولقد أخطأ من أباحوا الجمع دون وجود عذر، متذرعين بحديث ابن عباس رضي الله عنه «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً» رواه البخاري ومسلم. ورواه أبو داود بلفظ «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثمانياً وسبعاً الظهر والعصر، والمغرب والعشاء» . وفي رواية أخرى بلفظ «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيداً: لِمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يُحرج أحداً من أمته» رواه مسلم وأبو داود. وفي رواية أخرى عند مسلم بلفظ «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يُحرج أمته» . وفي رواية أخرى من طريق ابن عباس أيضاً بلفظ «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر» رواه مسلم. فاستدل ناسٌ بهذا الحديث بطرقه المتعددة على جواز الجمع مطلقاً، ولم يقيدوه بأي عذر من الأعذار.
والصحيح أن هذا الحديث بطرقه المتعددة لا يدل على ما ذهبوا إليه، وإلا وجب القول بعدم وجوب الالتزام بمواقيت الصلاة، أو وجب القول بأن الالتزام بمواقيت الصلاة مندوب فحسب، وهذا مخالف للحق ومجانب للصواب، والله سبحانه يقول {
…
إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِيْنَ كِتَابَاً مَوْقُوْتَاً} الآية 103 من سورة النساء.
والصحيح هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جمع في المدينة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جمعاً صُورِيَّاً، بمعنى أنه أخَّر صلاة الظهر إلى آخِر وقتها فصلاها، وعجَّل صلاة العصر إلى أول وقتها فصلاها، فظهرت الصلاتان وكأنهما جُمِعتا معاً، ومثل ذلك فعل بصلاتي المغرب والعشاء، والجمع الصُّورِي جائز إطلاقاً دون أعذار طبعاً. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي الصلوات في أوائل أوقاتها، ثم رأَوه يصلي على خلاف عادته سبعاً وثمانياً، وصَفُوا فعله بأنه جمع، وهو جمع فعلاً، ولكنهم ظنوا أنه أخرج صلاة الظهر من وقتها وأدخلها في وقت صلاة العصر، وفعل مثل ذلك بخصوص صلاة المغرب، لأن الجمع هو إخراج إحدى الصلاتين من وقتها وإدخالها في وقت الأخرى، ولم يلتفتوا إلى الجمع الصُورِي، وهو إبقاء كل صلاة في وقتها ولكن بتقريب إحداهما من الأخرى، بأن تُؤدَّى أُولاهما في آخِر وقتها والأخرى في أول وقتها، فيحصل الجمع وهو هنا الجمع الصُّوري، أي أنه يأخذ صورة الجمع. هذا ما ينبغي الذهاب إليه وإلا بطلت المواقيت، أو صارت مندوبة فحسب، وهذا كما قلنا مخالف للحق ومجانب للصواب.
وزيادةً في الاطمئنان فإنَّا نورد حديثين اثنين يدلان على هذا، أحدهما ما رُوي عن ابن عباس أنه قال «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، أخَّر الظهر وعجَّل العصر وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء» رواه النَّسائي. والثاني ما رواه جابر بن زيد عن ابن عباس أيضاً قال «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، قلت: يا أبا الشعثاء أظن أخَّر الظهر وعجَّل العصر وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء، قال وأنا أظن ذاك» رواه مسلم وأحمد. فهذا ابن عباس راوي الحديث السابق بطرقه المتعددة يقول «أخَّر الظهر وعجَّل العصر وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء» وابن عباس لا يناقض نفسه، وإعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، فبإعمال الدليلين نخرج بالفهم الذي قلنا به، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جمع الصلاتين هنا جمعاً صُورياً، أي أنه صلى الصلاتين على صورة الجمع، فوجب الذهاب إلى هذا الفهم وترك ما سواه.
قلنا في أول هذا البحث إن الجمع بين الصلاتين هو حالة استثنائية وقلنا إن هذه الحالة شُرعت عند وجود عذر من الأعذار، والأعذار المبيحة للجمع هي السفر والمطر والخوف والمرض والهرم وأمثالها مما يشكل عدم الجمع مع وجودها حرجاً ومشقة، والشرع قد رفع الحرج عن المسلمين، فإذا وُجد عذر من هذه الأعذار جاز الجمع بين الصلاتين، أي جاز أن تُجمع صلاة الظهر مع العصر وصلاة المغرب مع العشاء جمع تقديم أو جمع تأخير، فتُصَلَّى الصلاتان في وقت إحداهما، سواء كان الوقت وقت أُولاهما أو كان وقت أُخراهما، فكلا الأمرين جائز، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك» رواه مالك. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير يجمع بين المغرب والعشاء» رواه مالك ومسلم والبخاري. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في السفر» رواه البزَّار وأبو يعلى والطبراني. وروى البزَّار مثله من طريق أبي سعيد رضي الله عنه، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، قال فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال فقال: أراد أن لا يُحرج أمته» رواه مسلم وأحمد. وقد مرَّ حديث ابن عباس رضي الله عنه بطرقه المتعددة وفيه «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر» . «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر» . يريد ابن عباس من ذلك أن يبين أن الخوف والمطر والسفر أعذار للجمع، وقد نفى وجودها آنذاك عند جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فلولا أن هذه أعذار لما ذكرها في هذا الحديث، ثم إن هذه الأعذار تدخل تحت
الحرج والمشقة، والحديث يقول «أراد أن لا يُحرج أحداً من أمته» . ويدخل الهرم في هذا الباب أيضاً، كما يدخل فيه كل ما يسبِّب حرجاً للمصلي إنْ هو صلى بدون جمع: كالريح الباردة الشديدة والوحل والزَّلَق في طريق المسجد وأمثالها، وكذلك رُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأولى والعصر، وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك فقال: صنعتُ هذا لكي لا تُحرَج أمتي» رواه الطبراني. فالقاعدة في الجمع هي أنه جائز إن وجد عند المصلي عذر يسبب حرجاً له إن هو لم يجمع بين الصلاتين، وهذه قاعدة واسعة بلا شك. وكما تنعقد الصلاة في المسجد فإنها تنعقد في البيت وفي المزرعة وفي المصنع وغيرها، وكما تنعقد الصلاة في جماعة فإنها تنعقد من المنفرد، وهنا نقول ما يلي:
إن الجمع بين الصلاتين يجوز حيث تنعقد الصلاة، فيُجمع في المسجد كما يُجمع في البيت وفي المزرعة وفي المصنع وغيرها، ويُجمع من قِبَل الجماعة كما يجمع من قِبَل المنفرد سواء بسواء دون ملاحظة أي فارق بينها ما دام العذر موجوداً، وهذا العذر إن وُجِدَ جاز الجمع بسببه دون اشتراط وجود المشقة لدى المصلّي، ففي وجود العذر يستوي وجود المشقة وعدم وجودها، كالسفر مثلاً فإنه يبيح الجمع سواء نالت المسافرَ مشقةٌ في سفره أو لم تنله، والمطر مثلاً فإنه يبيح الجمع للمصلّين جماعةً ومنفردين سواء نالتهم مشقةٌ منه أو لم تنلهم، لأن العذر العام أو الحاجة العامة إذا وُجِدَتْ أثبتت الحكم في حقِّ الجميع سواء من نالته مشقّةٌ منه ومن لم تنله، والدليل على عدم وجوب وجود المشقّة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع في المطر في مسجده ولم يكن بين بيته وبين المسجد شئ.
ثم إنه يُسن للحاجِّ أن يجمع بين الظهر والعصر جمعَ تقديم في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة، وبين المغرب والعشاء جمعَ تأخير في المزدلفة، يستوي في ذلك الحاجُّ من أهل مكة والحاجُّ المسافر إليها. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد جمع بين الظهر والعصر في عرفة، وبين المغرب والعشاء في المزدلفة وهو إمامٌ لجميع الحجاج من أهل مكة ومن غيرها، فلم يستثن أهل مكة من الجمع، ما يدل على جواز الجمع للجميع، للمسافرين ولغير المسافرين في موسم الحج في عرفة وفي المزدلفة، فعن جعفر بن محمد قال «دخلنا على جابر بن عبد الله
…
فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
…
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجٌّ
…
فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربت له بنَمِرَة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس
…
ثم أذَّن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصلِّ بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف
…
» من حديث طويل رواه مسلم. ورواه أحمد والنَّسائي. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واقامتين ولم يصلِّ بينهما شيئاً» رواه النَّسائي. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال «دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة، حتى إذا كان بالشِّعْب نزل فبال، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، فركب، فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أُقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أُقيمت الصلاة فصلاها ولم يصلِّ بينهما شيئاً» رواه أحمد والبخاري ومسلم. قوله في