الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتيمُّم اختصت به هذه الأمة دون سائر الأمم السابقة، يدل عليه الحديث الخامس الذي رواه جابر، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام في أول الحديث «أُعطيتُ خمساً لم يُعطَهُنَّ أحدٌ قبلي» ثم ذكر «وجُعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً» صريح الدلالة على ذلك.
أما سبب نزول آية التيمُّم ـ وهي الآية السادسة من سورة المائدة ـ فهو ما ذكرته عائشة رضي الله عنها قالت «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء ـ أو بذات الجيش ـ انقطع عِقْدٌ لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضعٌ رأسَه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكانُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمُّم فتيمَّموا، فقال أُسيد بن الحُضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العِقد تحته» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي.
كيفية التيمُّم
وردت كيفية التيمم في مجموعتين رئيسيتين هما: مجموعة الأحاديث المروية من طريق عمار بن ياسر، ومجموعة الأحاديث المروية من طريق عبد الله بن عمر. ووردت الكيفية من طريق أخرى غيرهما نذكرها كلها بإذن الله كما يلي:
أ- مجموعة عمار بن ياسر:
1-
قال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه «أما تذكر أنَّا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصلِّ وأما أنا فتمعَّكْتُ فصليتُ، فذكرتُ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
إنَّما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفَّيه» رواه البخاري ومسلم.
2-
عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبتُ فلم أجد الماء، فتمرَّغتُ في الصعيد كما تَمَرَّغُ الدابة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفَّيه ضربة على الأرض ثم نفضها، ثم مسح بهما ظهر كفِّه بشماله أو ظهر شماله بكفِّه، ثم مسح بهما وجهه
…
» رواه البخاري.
3-
وفي روايةٍ للبخاري «عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أنه شهد عمر وقال له عمَّار: كنا في سرية فأجنبنا وقال: تفل فيهما» .
4-
وفي روايةٍ للبخاري «عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن عبد الرحمن قال: قال عمَّار لعمر: تمعَّكْتُ فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يكفيك الوجه والكفان» .
5-
وفي رواية للبخاري عن عمَّار قال «فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه» .
6-
عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبتُ، فلم أجد الماء فتمرَّغتُ في الصعيد كما تَمَرَّغُ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك له فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه
…
» رواه مسلم والنَّسائي وأحمد.
7-
وفي رواية للبخاري عن عمار «أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال: إنما كان يكفيك هكذا، ومسح وجهه وكفَّيه واحدة» .
8-
عن عمار قال «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن التيمُّم فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفَّين» رواه أبو داود وأحمد. ورواه الدارمي وقال (قال عبد الله صحَّ إسناده) .
9-
عن عمار «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمُّم للوجه والكفين» رواه الترمذي وقال
(حسن صحيح) .
ب- مجموعة عبد الله بن عمر:
1 -
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «التيمُّم ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي.
2-
عن نافع قال «انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس، فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذ أن قال: مرَّ رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سِكَّة من السِّكك
وقد خرج من غائط أو بول، فسلَّم عليه فلم يردَّ عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى
في السِّكَّة ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح
ذراعيه، ثم ردَّ على الرجل السلام وقال: إنه لم يمنعني أن أردَّ عليك السلام إلا أني لم
أكن على طُهر» رواه أبوداود.
3-
عن ابن عمر قال «تيمَّمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ضربنا بأيدينا على الصعيد الطيب، ثم نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا، ثم ضربنا ضربة أخرى الصعيد الطيب ثم نفضنا أيدينا، فمسحنا بأيدينا من المرافق إلى الأكفِّ على منابت الشعر من ظاهر وباطن» رواه الدارقطني.
ج - طريق ثالثة:
عن أبي جُهَيم بن الحارث بن الصِّمَّة الأنصاري قال «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جَمَل، فلقيه رجل فسلَّم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم ردَّ عليه السلام» رواه البخاري وأحمد وأبو داود ومسلم.
الأحاديث التسعة لعمَّار صالحة للاحتجاج وكذلك حديث أبي جُهَيم بند (ج) . أما الحديث الأول في مجموعة ابن عمر ففي إسناده علي بن ظبيان قال الحافظ ابن حجر (هو ضعيف ضعَّفه القطان وابن معين وغير واحد) وقال عنه أبو داود (ليس بشيء) وقال النَّسائي وأبو حاتم: متروك. وقال ابن حِبَّان (يسقط الاحتجاج بأخباره) . ورواه الدارقطني أيضاً من طريق شَبَّابة، قال أبو حاتم: صدوق يُكتب حديثه ولا يحتجُّ به. وكان أحمد لا يرضاه ويرميه بالإرجاء. وأما الحديث الثاني ففيه محمد بن ثابت وهو ضعيف ضعَّفه ابن معين وأبو حاتم والبخاري وأحمد، وقال أبو داود بعد أن روى هذا الحديث (سمعت أحمد بن حنبل يقول: روى محمد بن ثابت حديثاً منكراً في التيمُّم) . أما الحديث الثالث ففيه سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث، قاله أبو داود. وقال أحمد بن حنبل وابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري (تركوه) .
من ذلك يظهر أن جميع أحاديث ابن عمر ضعيفة لا تنتهض للاحتجاج، فتُطرح ولا يُعمل بها. قال ابن حجر (إن الأحاديث الواردة في صفة التيمُّم لم يصح منها سوى حديث أبي جُهَيم وعمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه والراجح عدم رفعه) . فلم يبق عندنا سوى عشرة أحاديث هي أحاديث عمار التسعة الأولى، وحديث أبي جُهَيم. فلْنستعرض هذه الأحاديث:
الحديث الأول فيه «ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه» والحديث الثاني فيه «ضرب بكفَّيه ضربة على الأرض ثم نفضهما ثم مسح بهما ظهر كفِّه بشماله أو ظهر شماله بكفِّه ثم مسح بهما وجهه» والحديث الثالث فيه «وقال تفل فيهما» والحديث الرابع فيه «يكفيك الوجه والكفان» والحديث الخامس فيه «ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه» والحديث السادس فيه «ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه» والحديث السابع فيه «ومسح وجهه وكفيه واحدة» والحديث الثامن فيه «ضربة واحدة للوجه والكفين» والحديث التاسع فيه «أمره بالتيمم للوجه والكفين» .
أما حديث أبي جُهَيم «فمسح بوجهه ويديه» فقد وردت فيه لفظة (اليدين)، بينما وردت في سائر الأحاديث لفظة (الكفين) . فأقول: أما لفظة (اليدين) فهي مجملة، وجاءت لفظة (الكفَّين) فبيَّنت المقصود من اليدين وأنهما ما بين أطراف الأصابع إلى الرُّسغين، والمبين يُعمل به ويُحْمَل المجمل عليه، وبذلك يظهر أنه لا تعارض بين هذه النصوص، ونحن نعلم أن النصوص يفسِّر بعضها بعضاً، فالنصوص التي ذكرت الكفَّين تفسِّر النصوص التي ذكرت اليدين، فيكون المقصود من اليدين الكفَّين فحسب. ويشبه هذا أن آية السرقة {والسَّارقُ والسَّارِقَةُ فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فسرتها الأحاديث النبوية بأن اليدين اللتين تقطعان في السرقة هما الكفان، أي اليدان إلى الرسغين فحسب، في حين أنه حينما أُريد غسل ما هو أكثر من الكفين في الوضوء لم يأت ذكر اليدين إلا مقيَّدتين بـ {إلى المَرَافِقِ} وإذن فإن الواجب في التيمُّم هو مسح الكفين فقط، أي مسح اليدين إلى الرسغين، وأنه لا يجب مسح ما هو أكثر من ذلك مطلقاً. فهذا هو ما ترشد إله الأحاديث الصحيحة الصالحة للاحتجاج. وممن ذهب إلى هذا الرأي، أي الاقتصار على مسح الكفين، عطاء ومكحول والأوزاعي والطبري ومالك وإسحق وأحمد وابن المنذر والشافعي في القديم.
وذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي والحسن والشافعي في الجديد، وعلي وابن عمر وابنه سالم فيما رُوي عنهم إلى وجوب مسح اليدين إلى المرفقين، واستدلوا بالأحاديث التالية:
1-
عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين» رواه الدراقطني والحاكم.
2-
عن الأسلع قال «أراني رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أمسح فمسحت، قال فضرب بكفَّيه الأرض ثم رفعهما لوجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه باطنهما وظاهرهما حتى مسَّ بيديه المرفقين» رواه الدارقطني والبيهقي والطبراني.
3-
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «في التيمُّم ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» رواه البزَّار وابن عديٍّ.
4-
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي، وقد مر قبل قليل.
5-
عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «
…
ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه
…
» رواه أبو داود. وقد مرَّ أيضاً قبل قليل.
فنرد عليهم بأن هذه الأحاديث جميعها ضعيفة لا ترقى إلى الصلاح في الاحتجاج، أما الحديثان الرابع والخامس فقد بيَّنَّا ضعفهما عند ذكرهما قبل قليل، وأما الحديث الأول فقال عنه ابن دقيق العيد: رواية عثمان بن محمد هذه شاذة. وقال الدارقطني (والصواب موقوف) أي هو قول صحابي فلا يصلح دليلاً. وأما الحديث الثاني ففيه الربيع بن بدر ضعَّفه الحافظ ابن حجر. وأما الحديث الثالث فقال عنه أبو حاتم: حديث منكر والحريش شيخ لا يُحتج بحديثه. وضعفه أيضاً أبو زُرعة والبخاري. وبذلك يسقط رأيهم بوجوب مسح اليدين إلى المرفقين.
وانفرد الزهري بالقول بوجوب المسح إلى الإبطين مستدلاً بأحاديث تأمر بذلك، وقد عقب ابن حجر على هذا الرأي بقوله (وأما رواية الآباط فقال الشافعي وغيره إنْ كان ذلك وقع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فكلُّ تيمُّم صح للنبي صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به. ومما يقوِّي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار يفتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد من غيره ولا سيما الصحابي المجتهد) .
ومقتضى كلام الشافعي أن المسح يقتصر على الكفَّين لأن أحاديث الكفَّين قد صحَّت وتأخر القول بها، حتى إن الشوكاني قد ذكر صراحة أن الشافعي قد قال بأن حديث إلى الآباط منسوخ. وعقَّب النووي من الشافعية على هذه المسألة أيضاً فقال (إنه ـ أي مسح الكفَّين ـ أقوى في الدليل وأقرب إلى ظاهر السنة الصحيحة) . وأضعف من هذا الاستدلال القول إن المسح إلى المرفقين إنما يكون بالقياس على الوضوء لأنه بدل منه، فهذا القياس باطل، لأن القياس في العبادات لا يصح أولاً، ولأننا لو أردنا القياس كما يقولون لوجب القول بمسح الرجلين في التيمُّم ما دامت البدلية هي العلة، وكم يريحنا الفقهاء الذي لا يقيسون في العبادات ويقفون عند دلالات النصوص.
والصحيح الذي لا مندوحة عنه أن الأحاديث الصحيحة ذكرت الكفَّين ولم تذكر اليدين إلى المرفقين ولا اليدين إلى الإبطين فيوقف عندها، لا سيما وقد جاء حديث منها يقول «يكفيك الوجه والكفان» فالكفاية ضد إيجاب مسح الذراعين قطعاً، إلا أن يدَّعوا أن هذه الأحاديث منسوخة، أو أن أحاديثهم أصح منها، وهم لم يقولوا بهذا ولا بذاك.
2-
المجزيء في التيمم ضربة واحدة: ذهب عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحق وابن المنذر وجمهور العلماء إلى أن المُجْزِيء في التيمُّم ضربة واحدة للوجه والكفين. وذهب سعيد بن المسيِّب وابن سيرين إلى وجوب الإتيان بثلاث ضربات، ضربة للوجه، وضربة للكفين، وضربة للذراعين. وذهب الأحناف والشافعيون إلى وجوب ضربتين اثنتين، واحدة للوجه، وأخرى للكفين أو لليدين إلى المرفقين.
والصحيح هو ما ذهب إليه مَن يقولون بالاقتصار على ضربة واحدة، لأن الأحاديث الصحيحة والصالحة للاستدلال لا تذكر سوى ضربة واحدة، ولم يصحَّ أيُّ حديث في الضربتين أو في الثلاث، ولذا فإنه لا يجب سوى ضربة واحدة، لأنها هي المذكورة والمطلوبة في الأحاديث.
3-
النفخ في الكفين قبل البدء بالمسح: الحديث الأول فيه «نفخ فيهما ثم مسح» والحديث الثاني فيه «ثم نفضهما ثم مسح» والحديث الثالث فيه «تفل فيهما» . في هذه الروايات جاء النفخ والنفض والتفل، وهي ذوات معان متقاربة، والغاية منها هي التخفيف من كمية التراب والغبار العالق باليدين قبل المسح. والنفخ وما في معناه وإن لم يَرِد في عدد من النصوص الصحيحة إلا أن هذه النصوص سكتت فلم تنْفِ، والفرق واضح بين المعنيين. فسكوت بعض النصوص عن النفخ لا يعني النهي عنه أو حتى عدم فعله. والحاصل أنَّ نصوصاً سكتت عن النفخ، وأنَّ نصوصاً أُخرى ذكرت النفخ، وفي هذه الحالة نقول إن النصوص الذاكرة فيها زيادةٌ يُصار إليها ويُعمَل بها، وهذه النصوص لا تتعارض مع النصوص الساكتة، وبالتالي فإنَّا نقول إن النصوص جاءت بالنفخ دون وجود معارضة، وبذلك فإنَّه من السُّنَّة للمسلم أن ينفخ أو ينفض أو يتفل أو ما شابه ذلك، ثم يمسح.
4-
هل يجب الترتيب في التيمُّم؟ لِننظر في النصوص: الآيتان من سورتي المائدة والنساء جاءتا بتقديم الوجه على اليدين {فامْسَحُوا بوُجُوْهِكُمْ وأَيْدِيْكُمْ مِنْهُ} {فامْسَحُوا بوُجُوْهِكُمْ وأَيْدِيْكُمْ} والروايات العديدة المروية عن عمار جاءت كالتالي «مسح بهما وجهه وكفيه» ، «مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه» ، «يكفيك الوجه والكفان» ، «مسح وجهه وكفيه» ، «مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه» ، «مسح وجهه وكفيه واحدة» ، «ضربة واحدة للوجه والكفين» ، «التيمم للوجه والكفين» . ورواية أبي جُهَيم هي «مسح بوجهه ويديه» .
فعمار بن ياسر رويت عنه ست روايات فيها تقديم الوجه على الكفين، وروايتان اثنتان فقط فيهما تقديم الكفين على الوجه، ورواية أبي جُهَيم عند البخاري ورد فيها تقديم الوجه على اليدين. والملفت للنظر أن الروايتين الوحيدتين اللتين ذكرتا تقديم الكفين على الوجه هما اللتان جاءتا بكيفية مسح الكفين، ونحن لا نتصور أن يكون عمَّار نفسه راوي هذه الروايات العديدة يخالف نفسه ويناقض نفسه، أي لا يُتصوَّر أن يروي عمار هذه الروايات المتعارضة لاسيما وأنه يروي حادثة واحدة، فلا يخرج التفسير عن احتمالين لا غير: إما أنَّ الخطأ والتعارض قد حصل من قِبَلِ الرواة ولم يحصل من عمار، وإمَّا أنَّ عمَّاراً أراد بالروايتين الاثنتين المغايرتين لسائر الروايات أن يركِّز على شرح كيفية مسح الكفين، فقدَّمهما للأهمية ولعدم الخشية من اللبس، وذلك لأن الوجه جاء بنصوص القرآن والأحاديث مقَدَّماً على الكفَّين، أي أنَّه حين كان يريد ذِكْر الكيفية لمسح الكفين يبدأ بهما للأهمية، وحين كان لا يريد ذِكر الكيفية يأتي على ذِكر الوجه أولاً، ثم على ذِكر الكفَّين كالمعتاد في التيمُّم، ولا أتصور احتمالاً ثالثاً.
ولا يقال إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مسح الكفين أولاً مرة أو مرتين، ومسح الوجه أولاً مرات أخرى، وأنَّ ذلك منه يدلُّ على التخيير، لا يقال ذلك، لأن الحادثة واحدة والراوي واحد، فلا بد من الترجيح أو التأويل، فبالترجيح نرجِّح روايات تقديم الوجه على الكفين لأنها الأكثر، وبالتأويل نقول ما قلناه من قبل من أن عمَّاراً قدم الكفَّين حين أراد ذِكر كيفية مسحهما للأهمية، ونحن نرجح الاحتمال الثاني.
ومما يزيدنا اطمئناناً أن الآيتين الكريمتين بدأتا بالوجه، فنقرر مطمئنين أن التيمُّم ينبغي أن يكون بمسح الوجه أولاً ثم مسح الكفين. فالروايات السَّبع والآيتان الكريمتان تبدأ كلها بذكر الوجه، ولا يعارضها سوى روايتين اثنتين فقط جاء فيهما ذِكرُ كيفية مسح الكفَّين، فيُعملُ بالنصوص التسعة ويُترك العمل بنصين. وهذا القول هو مع افتراض وجود التعارض، أما مع تأويل الروايتين بما سبق فلا تعارض، ويُعمل بمجمل النصوص من تقديم الوجه على الكفين.
وعليه فإن الواجب في التيمُّم البدءُ بالوجه ثم بالكفين «ابدأوا بما بدأ الله به» وبهذا الرأي تمسك الشافعي وأحمد. أما أبو حنيفة ومالك فقد اعتبرا البدء بالوجه سُنَّة، ولا وجه لهذا الرأي، لأنهما إما أن يقولا بالوجوب مستدلين بما استدللنا به، وإما أن يقولا بالإباحة استدلالاً بالروايات الصحيحة المتعارضة.
5-
كيفية مسح الكفين: وردت الكيفية كما يلي: «ضرب بكفيه ضربة على الأرض ثم نفضهما، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه» ، «مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه» . الرواية الأولى جاءت بمسح ظهر الكف بالشمال، أو مسح ظهر الشمال بالكف. والحقيقة أن هذه العبارة غامضة، اللهمَّ إلا أن تُفسَّر (أو) بـ (و) . لأن المسح لا بد من أن يكون للكفَّين وليس لكفٍّ واحدة، فيكون الحديث قد أفاد مسح ظاهر الكفَّين بدءاً بالكف اليمنى ثم اليسرى فقوله «ظهر كفه بشماله» يفيد ظهر الكف اليمنى، وقوله «ظهر شماله بكفه» يفيد مسح ظهر الكف اليسرى. أما الرواية الثانية فاقتصرت على القول «ظاهر كفيه» أما ما سبق ذلك من القول «مسح الشمال على اليمين» فيُحمل على أنه لتخفيف الغُبار العالق بباطن اليدين قبل البدء بالمسح، مثله مثل النفخ والتَّفْل.
وقد أفادت هاتان الروايتان أن كيفية مسح الكفين هي أن يمرِّر باطن كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى، ويمرِّر باطن كفه اليمنى على ظهر كفه اليسرى، أي يبدأ باليمين ويثنِّي بالشمال، وقد روى أبو داود عن شقيق عن عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا: فضرب بيده على الأرض فنفضهما، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه» والروايتان بل وجميع الروايات التي تذكر مسح الكفين لم تأت على ذكرٍ آخرَ في الكيفية، بمعنى أنه لم يأت ذكر البدء حين المسح بالأصابع أو بالرسغ، ولذا فالمسلم بالخيار بين أن يبدأ بأطراف الأصابع ثم ينتهي بالرسغ، أو يبدأ بالرسغ وينتهي بأطراف الأصابع.
6-
المشروع في المسح أن يكون مرة واحدة لكلا الكفَّين وللوجه، ولا يصح التكرار والعدد، فجميع الأحاديث لم تذكر عدداً للمسح، ولو كان العدد مطلوباً لذكر، والحديث السابع صريح في ذلك «ومسح وجهه وكفيه واحدة» فيُقتَصرُ على واحدة ولا يزاد عليها. ثم إن الأصل في المسح أن يكون مرة واحدة، فهذا حال المسح على الخفين ومسح الرأس والمسح على الجبيرة، فالمسح تخفيف فلا يتكرر بحال، ومن قال بتكرار المسح فعليه الإتيان بدليل ولا دليل.
7-
مسح الوجه: لم يرد في النصوص ذكرٌ لكيفيةٍ مخصوصةٍ لمسح الوجه، ولم يرد سوى مسح الوجه على إطلاقه، ولذا فإن الواجب مسحُ جميع الوجه ولا يُجْزِيء مسحُ بعضه وتركُ بعضه الآخر، وهذا القول مماثل لما قلناه في الوضوء عن غسل الوجه ومسح الرأس، ويُعفى عن مسح داخل الأنف وداخل الفم وداخل العينين وما تحت شعر اللحية والعارضَيْن، ويُكتفى بمسح ما يظهر من الوجه من جلد وشعر دون ما يخفى.
8-
المادة المستعملة في التيمُّم: بعد أن استنبطنا الأحكام السابقة من النصوص السابقة بقي أن نبحث مسألة أساسية في التيمُّم لها علاقة بالكيفية، هي المادة التي يُمسح بها، هل هي التراب بمعناه المتعارف عليه عند جمهرة الفقهاء، أم هي مطلق وجه الأرض بما فيه من صخور وتراب وحجارة ورمال؟ هذه المسألة اختلفت فيها المذاهب وجمهور العلماء على الشكل التالي:
ذهب الأحناف إلى أن الصعيد الطَّهور الذي طُلب التيمُّم به هو كل ما كان من جنس الأرض من تراب ورمل وحصى وحجر ولو أملس، ولم يجيزوا التيمُّم بالثلج والأشجار والزجاج والمعادن المنقولة واللؤلؤ وإن كان مسحوقاً، والدقيق والرماد والكُحل والكبريت، والتراب إذا خالطه شيء من جنس الأرض وغلب عليه، فإن لم يغلب عليه أو تساويا صح التيمُّم به.
وذهب المالكيون إلى أن الصعيد ما صعد أي ظهر من أجزاء الأرض فيشمل التراب وهو الأفضل، والرمل والحجر والثلج والطين والجص وهو عندهم الحجر إذا احترق وصار جيراً، والمعادن إلا الذهب والفضة، والجواهر والمنقول من المعادن كالشَّبِّ والملح والطوب غير المحترق فإن احترق لم يجُز التيمُّم به، ولم يجيزوا التيمُّم بما ليس من أجزاء الأرض كالخشب والحشيش. وإذن فالأحناف والمالكيون اشتركوا في أصل المسألة دون التفاصيل، فقد اشتركوا في أن التيمُّم يجوز بما يعلو سطح الأرض من تراب ورمل وحجارة وغيرها، وبهذا الرأي قال عطاء والأوزاعي والثوري.
وذهب الشافعيون إلى أن الصعيد الطَّهور هو التراب الذي له غبار إلا ناساً منهم أجازوا استعمال الرمل، فإن لم يكن له غبار فلا يصح التيمُّم به، والتراب المحترق إلا إذا صار رماداً، وإن اختلط التراب أو الرمل بشيء آخر كدقيق وإن قلَّ لم يجز التيمُّم به، واشترطوا أن لا يكون التراب مستعمَلاً، وعنوا بذلك ما يبقى على العضو الممسوح أو يتناثر منه عند المسح.
وذهب الحنابلة إلى أن الصعيد هو التراب الذي له غبار أيضاً، وأن يكون التراب مباحاً فلا يصح بمغصوب، وأن لا يكون محترقاً، فلا يصح بما دق من خزف ونحوه لأن الطبخ أخرجه عن أن يقع عليه اسم التراب، واشترطوا أن يَعْلَقَ غبارُه لأن ما لا غبار له لا يُمسح بشيء منه، وإن خالطه ذو غبار كالجِصِّ والنُّورة كان حكمه حكم الماء الطَّهور الذي خالطه طاهر، فإن كانت الغلبة للتراب جاز التيمُّم به، وإن كان للمخالط الغَلَبَةُ نُظِر، فإن كان المخالط لا غبار له يمنع التيمُّم بالتراب وذلك كبُرٍّ وشعيرٍ وإن كثُر جاز التيمُّم به، ولا يصح التيمُّم بطينٍ لم يمكن تجفيفه، والتيمُّم به جائز إن كان قبل خروج الوقت لا بعده. وإذن فالشافعية والحنابلة اشتركوا في أن التيمُّم لا يكون إلا بالتراب الذي له غبار ولا يصح بغيره، وبهذا الحكم أخذ داود. والآن لنستعرض النصوص ودلالات الألفاظ لغةً وشرعاً لاستنباط الرأي الراجح بإذن الله سبحانه:
1-
عن أبي أُمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «جُعلت الأرض كلها لي ولأُمتي مسجداً وطَهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاةُ فعنده مسجده وعنده طَهوره
…
» رواه أحمد بسند جيد. ورواه البيهقي، وقد مرَّ في بحث [تعريف التيمُّم ومشروعيته] .
2-
قوله تعالى {فلم تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طيباً} من الآية 34 من سورة النساء.
3-
عن عمران بن حصين قال «كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم
…
فصلَّى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجلٍ معتزلٍ لم يُصلِّ مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك
…
» رواه البخاري وأحمد. ورواه النَّسائي وابن أبي شيبة مختصراً، وقد مرَّ.
4-
عن عمرو بن العاص قال «احتلمتُ في ليلة باردة في غزوة ذات السَّلاسل، فأشفقتُ إنْ اغتسلت أن أهلك فتيمَّمتُ، ثم صليتُ بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو صليتَ بأصحابك وأنت جُنُب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت إني سمعت الله يقول: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقُلْ شيئاً» رواه أبو داود والدارقطني وابن حِبَّان والحاكم.
5-
عن عليٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أُعطيتُ ما لم يُعطَ أحدٌ من الأنبياء فقلنا يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرتُ بالرعب، وأُعطيتُ مفاتيحَ الأرض، وسُمِّيتُ أحمد، وجُعل التراب لي طَهوراً، وجُعلت أمتي خير الأمم» رواه أحمد والبيهقي بسند حسَّنه الهيثمي.
6-
عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فُضِّلنا على الناس بثلاث: جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجُعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجُعلت تربتها لنا طَهوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خَصْلة أخرى» رواه مسلم وأحمد والبيهقي.
7-
حديث أبي جُهَيم وقد سبق وجاء فيه «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم
…
حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردَّ عليه السلام» رواه البخاري ومسلم. وفي لفظٍ للدارقطني من طريق ابن إسحق عن الأعرج «حتى وضع يده على الجدار» وفي لفظٍ للشافعي من طريق ابن الصِّمَّة «
…
قام إلى جدار فحتَّه بعصا كانت معه ثم وضع يده على الجدار
…
» .
الحديث الأول فيه «جُعلت الأرض كلها لي ولأُمتي مسجداً وطَهوراً» والآية الكريمة فيها {فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً} والحديث رقم 3 فيه «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» ، والحديث رقم 4 فيه «فتيمَّمتُ ثم صليتُ» ، والحديث رقم 5 فيه «جُعِل التراب لي طَهوراً» ، والحديث رقم 6 فيه «جُعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجُعلت تربتها لنا طَهوراً» ، والحديث رقم 7 فيه «أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه» . لقد تردَّدت في هذه النصوص الألفاظ التالية:(الأرض كلها، والصعيد، والتراب، والجدار) كموادَّ يُتيمَّمُّ بها، وأغفلت المواد كلها في الحديث رقم 4.
وقد اختلف المسلمون في الاستدلال بهذه النصوص واختلفوا في تفسير الصعيد، كما اختلفوا في التراب هل هو مخصِّص أم مقيِّد للصعيد، أم هو قد خرج مخرج الأغلب وأنه مجرد فردٍ من أفراد العام وهو الصعيد؟ وهل التراب يشمل الرمل أم لا يشمله؟ ونتج عن هذه الخلافات الآراء الأربعة للأئمة الأربعة التي ذكرناها من قبل، وشاركهم فيها غيرهم. وحتى نتوصل إلى الرأي الراجح لا بد من معرفة مدلول كلمة الصعيد وآراء أهل اللغة ثم ننظر في النصوص على ضوء ذلك.
قال الزَّجَّاج والخليل وابن الأعرابي وصاحب المصباح: الصعيد: هو وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن. وزاد الزَّجَّاج: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة. وبهذا المعنى فسَّر الصعيد كلٌّ من أبي حنيفة ومالك والثوري. وقال قتادة والطبري: هو وجهُ الأرضِ الخاليةِ من النبات والغروس والبناء. وقال ابن زيد: الصعيد المستوي. والراجح هو رأي الزَّجَّاج وجماعته، وبمقتضى فقه اللغة فالصعيد هو ما تصاعد من الأرض، وقد سُمِّي بهذا الاسم لأنه نهاية ما يُصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد صُعُدات، وتطلق الصُّعُدات على الطرق والسبُل، ومنه الحديث «إياكم والجلوس على الصُّعُدات
…
» رواه أحمد من طريق أبي سعيد. وإذن فإن الصعيد هو وجه الأرض أو هو سطحها أو ما يظهر منها، سواء كان صخراً أو حجارة أو تراباً أو جصاً أو أية مادة من مواد الأرض المعروفة.
قلنا من قبل إن الآية والأحاديث أتت بالألفاظ (الأرض كلها، والصعيد، والتراب، والجدار) وهذا يعني أن النصوص طلبت التيمُّم بالأرض ظاهرها وباطنها، وطلبت التيمُّم بالصعيد وهو ظاهرها فقط، وطلبت التيمٌّم بالتراب، وهو ما نعُم من أديم الأرض ـ قاله القاموس الوسيط ـ. وجعلت الجدار مما يُتيمَّم به. فالذين أجازوا التيمُّم بالصخور والمعادن والحجارة والأتربة والرمال إنما أَعملوا لفظة الأرض ولفظة الصعيد، وأما الذين قصروا التيمُّم على التراب فقد قالوا بالتخصيص، أي بتخصيص العام وهو الأرض أو الصعيد بالخاص وهو التراب. والسؤال هو: أي الرأيين هو الصحيح؟.
إن النصوص حين ذكرت التراب لم تخصِّص به العام وهو الصعيد، وإن النصوص حين ذكرت الصعيد لم تكن تريد تخصيص العام وهو الأرض، كما أن النصوص حين ذكرت الجدار لم تكن تريد تخصيص الأرض أو الصعيد أو التراب به، وكل ما حصل هو أن النصوص ذكرت ألفاظاً عامة، وذكرت أفراداً من هذا العام لا غير، وإنَّ ذكرَ فردٍ من أفراد العام لا يعني تخصيص هذا العام بهذا الفرد، وإنَّ ذكر التراب لا يخرج عن كونه إنما خرج على الأغلب لأنه الجزء الغالب المستعمل من الأرض، وما ذُكِرَ الجدارُ ليكون مخصِّصاً، وإنما هو فرد من أفراد العام، أو قُل هو حالة حصل فيها التيمُّم لا غير. فالقول إن التراب مخصِّص أو مقيِّد هو قولٌ غير صحيح، بل الصحيح هو أن التراب فرد من أفراد العام لا غير، فلا تخصيص ولا تقييد، ويظل العام على عمومه، وتظل الآية التي طلبت الصعيد على عمومها، وتظل الأحاديث التي طلبت الصعيد أو الأرض على عمومها هي الأخرى لم يقع فيها تخصيص ولا تقييد.
فالنصوص قد أجازت التيمُّم بالأرض، وبسطحها، وبترابها، وبالجدران، فيُعمل بها كلها. نعم لو جاءت نصوص تقْصُرُ التيمُّمَ على التراب لقلنا بالتخصيص، ولو جاءت نصوص تنهى عما سوى التراب لقلنا بالتخصيص، أمَّا وأن شيئاً من ذلك لم يحصل فلا يصح القول بالتخصيص، فالشافعي وأحمد ومن ذهب مذهبهما أخطأوا حين لم يفرِّقوا هنا بين التخصيص وبين التنصيص على فرد من أفراد العام، رغم أن الفرق بينهما واضح. فقولهم إنه لا يجوز التيمُّم إلا بالتراب اعتماداً على القول بالتخصيص خطأ.
والزمخشري في كتاب التفسير المسمَّى الكشاف اجتهد في هذه المسألة ونحا منحى آخر غير منحى الشافعي وأحمد، ومع ذلك وصل إلى ما وصل إليه الإمامان، فقد ذكر في تفسير آية التيمم {فَتَيَمَّمُوا صَعِيْدَاً طَيِّباً فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأِيْدِيْكُمْ مِنْهُ} أن كلمة (من) للتبعيض وأنه لا يفهم أحد من العرب قول القائل مسحت برأسه من الدهن ومن التراب إلا معنى التبعيض. فقد فهم من الآية أنها تفيد التيمُّم بالتراب فحسب، وأنه هو البعض المقصود، وهو رأي الإمامين نفسه وإن خالفهما في كيفية الاستنباط.
والصحيح هو أن الزمخشري جانبه التوفيق في الاستنباط كما جانب الإمامين وإن اختلفوا في وجه الاستدلال. أجل إنَّ (مِن) هنا للتبعيض ولكن أيَّ بعضٍ هو الواجب في التيمُّم؟ هل هو بعضٌ مما ضربت اليد عليه أم هو بعضٌ من أصناف الصعيد؟ بمعنى هل المقصود ذلك الشيء العالق باليد وهو بعضٌ مما ضربت اليد عليه أم هو صنفٌ من أصناف الصعيد كالرمل والتراب والصخور؟ فإن قال هو بالاحتمال الثاني قلنا نحن بالاحتمال الأول، فكما أن الاحتمال الثاني ممكن فكذلك الاحتمال الأول ممكن هو الآخر، أرأيت لو قالت الآية: تيمَّموا تراباً طيباً، أما كان يجوز لغة أن يقال بعد ذلك فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه؟ بالقطع يجوز، بل هو المعنى الراجح من التبعيض هنا، فالاحتمال الأول أرجح وهو أدنى من الثاني إلى قواعد العربية.
ولكنَّ كلَّ ذلك وأنَّ وجوه الاستدلال غير صحيحة وغير منطبقة شيءٌ، والقول بأن التراب هو المُجْزيء في التيمُّم شيء آخر. فلئن لم أُوافق الشافعي وأحمد والزمخشري في وجه الاستدلال إلا أن ذلك لا يمنع من الذهاب إلى الرأي نفسه الذي يذهبون إليه، وهو أن التراب وبشكل أدق ما نعُم من أديم الأرض هو المُجْزيء في التيمُّم. أما كيف؟ فهاكم الجواب:
إن الله سبحانه بين لنا في آية التيمُّم أنْ نضرب أيدينا على الأرض أو على الصعيد لتحمل أيدينا منه شيئاً نمسح به وجوهنا وأيدينا، ونوَّه بهذا الشيء بتعبيرين اثنين وإن كان واحد يكفي، وذلك اهتماماً منه سبحانه ولفت نظر. فقال {فامْسَحُوا بوُجُوْهِكُمْ} ولم يقل فامسحوا وجوهَكم، فأدخل حرف الباء على وجوهِكم ليدلِّل ـ وهو أعلم ـ على شيء يُمسح به، ولم يكتف بذلك بل أضاف {مِنْهُ} لينوِّه بالشيء الذي يعلق بالأيدي، فالمسح للوجه والكفَّين إنما هو بما يعلق باليد من مادة الصعيد. هذا هو مدلول الآية، وهذا هو مفتاح الرأي، فالصعيد أيُّ صعيد، والأرضُ أيةُ أرض، وظاهرها وباطنها، إذا ضربنا اليد عليه فحملت شيئاً منه جاز التيمُّم، وإن لم تحمل فلا مسحَ ولا تيمُّم. هذا هو المقياس الدقيق لتحديد الجزء الصالح من الصعيد ومن الأرض في التيمُّم.
وبالتطبيق نقول إن اليد إذا ضربت على التراب الطيني حملت منه، وإذا ضربت على الرمل حملت منه، وإذا ضربت على الجِصِّ حملت منه، فجاز التيمُّم بالرمل كما جاز بالتراب وبالجِص، في حين أننا إن ضربنا اليد على الصخر لم تحمل منه، وإن ضربنا اليد على الحجارة أو على الحصى لم تحمل منه فامتنع التيمُّم به، وهذا ينسحب على حديث أبي جُهَيم الذي ذكر الجدار، فلا بد من أن يكون الجدار من تراب الأرض حتى إذا ضربت اليد عليه حملت منه شيئاً، ومما يقوي هذا الفهم ويؤكده أن الإمام الشافعي روى الحديث بزيادة «فحتَّه بعصا كانت معه» فهذه الزيادة تزيل الإشكال تماماً، وتجعل الحديث يتَّسق مع هذه القاعدة. فالجدار حتى يجوز التيمُّم به لا بد من أن تحمل اليد منه شيئاً، ولا يتأتى ذلك إلا بحتِّه أو أن يكون قديماً ليصلح للتيمُّم. وعلى ذلك تفهم أحاديث الأرض كلها، وأحاديث الصعيد، وأحاديث التراب، وبذلك نفهم أن التراب الوارد في الأحاديث إنما هو بيانٌ للصعيد الصالح في التيمُّم، ولكنْ ليس حصراً وقصراً، وإنما هو من باب الأعمِّ الأغلب ومن باب المثال لا غير.
هذا هو الرأي، وهذا هو وجه الاستدلال، وهذا هو ما ينسحب على الحديث الرابع «فتيمَّمتُ وصلَّيتُ» دون ذكر الصعيد أو التراب، إذ لو كان التراب هو المطلوب دون الرمل لسأله الرسول عليه الصلاة والسلام عن المادة التي تيمَّم بها، فلما لم يفعل دل ذلك على أنه لا فرق بين التراب والرمل وشبههما. وكذلك يُفهم حديث عمار بن ياسر في صحيح مسلم: قال «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبتُ فلم أجد الماء، فتمرَّغتُ في الصعيد كما تَمَرَّغُ الدابة، ثم أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهِرَ كفَّيه ووجهَه
…
» فلم يسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن نوع الصعيد الذي تمرَّغَ عليه، مما يدل على عدم الفرق بين صعيد وصعيد ما دامت اليد تحمل منه شيئاً. فهذا هو معنى التَّمرُّغ، لأن الصخر لا يصلح للتَّمرُّغ.
ونلفت النظر إلى أن الجزيرة العربية وهي مهد الإسلام وموطن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم هي في مجملها أرض رملية، ونزل القرآن الكريم وجاءت السنة النبوية في هذه الجزيرة العربية الرملية، فلم يُنْقَل أنَّ صحابياً واحداً سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن حكم التيمُّم بالرمل، ولم يُنقل في ذلك إلا حديثٌ واحد رواه أحمد وسعيد بن منصور وعبد الرزاق عن أبي هريرة قال «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أكون في الرمل أربعة أشهر أو خمسة أشهر فيكون فينا النفساء والحائض والجُنُب فما ترى؟ قال: عليك بالتراب» . ولكنَّ هذا الحديث ضعيف لضعف المثنَّى بن الصباح، قاله ابن معين، وقال الهيثمي (الأكثر على تضعيفه) وقال ابن قيِّم الجوزية (كان ـ أي الرسول صلى الله عليه وسلم ـ يتيمَّم بالأرض التي يصلي عليها، تراباً كانت أو سبخة أو رملاً، وصح عنه أنه قال: حيثما أدركتْ رجلاً من أمتي الصلاةُ فعنده مسجدُه وطَهورُه، وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طَهور، ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم وماؤهم في غاية القلة، ولم يُرو عنه أنه حمل معه التراب ولا أمر به ولا فعله أحد من أصحابه، مع القطع بأن في المفاوز الرِّمالَ أكثر من التراب، وكذلك أرض الحجاز وغيره، ومن تدبَّر هذا قطع بأنه كان يتيمَّم بالرمل، والله أعلم، وهذا قول الجمهور) .
نخلص من كل ما سبق إلى أن وجه الأرض، أو الصعيد في أي مكان من الأرض يصح التيمُّم به إن كانت اليد تحمل منه شيئاً إذا ضربت عليه، وبتعبير آخر فالأرض الرملية والأرض الطينية السوداء والحمراء والأرض البيضاء والأرض الكبريتية والأرض الملحية كلها تصلح للتيمُّم، ولا يخرج من أديم الأرض سوى المناطق الصخرية وذوات الحجارة. ولو أننا أخذنا بتفسير القاموس الوسيط للتراب من أنه ما نَعُمَ من أديم الأرض، لأمكننا القول بأن التيمُّم يكون بالتراب وحده لشموله كلَّ أنواع الأرض سوى الصخرية والحجرية فحسب.
وبفراغنا من تحديد المادة الصالحة للتيمُّم نكون قد استجمعنا جميع عناصر كيفية التيمُّم، فنقول إن كيفية التيمُّم أو صفته هي كما يلي:
1-
النيَّةُ.
2-
التسميةُ.
3-
ضربُ باطن الكفين على ما نعُم من أديم الأرض ضربة واحدة.
4-
تخفيفُ ما يَعْلق بالكفَّين من غبارٍ بالنفخ أو بالنفض أو بالتفل، أو بمسح باطن الكفِّ اليمنى بباطن الكفِّ اليسرى.
5-
مسحُ جميع الوجه بباطن كفٍّ واحدة أو بباطن كفَّيه الاثنتين ما ظهر منه، مرة واحدة.
6-
إمرارُ باطن الكفِّ اليسرى على ظاهر الكفِّ اليمنى من أطراف الأصابع إلى الرُّسغين، أو من الرُّسغين إلى أطراف الأصابع، ويكون ذلك مرة واحدة.
7-
إمرارُ باطن الكفِّ اليمنى على ظاهر الكفِّ اليسرى من أطراف الأصابع إلى الرُّسغين، أو من الرُّسغين إلى أطراف الأصابع مرة واحدة.
8-
الترتيبُ، بحيث يمسح الوجه قبل ظاهر الكفَّين.
9-
الموالاةُ.
أما النية والتسمية والموالاة فما قلناه عنها في الوضوء يصلح للقول هنا دون إضافة، فلا نعيد. والباقي سبق بحثه في النقاط الثماني السَّابقة.
والفروض منها ستة هي: النية، وضرب الكفَّين على الأرض، ومسح جميع الوجه، ومسح ظاهر الكفَّين، والترتيب، والموالاة.
والمندوبات ثلاثة هي: التسمية، وتخفيف الغبار عن الكفَّين، ومسح ظاهر الكفِّ اليمنى قبل ظاهر الكفِّ اليسرى.