المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيالحياة الثقافية في عصر الإمام أحمد - المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته - جـ ١

[عبد الله بن عبد المحسن التركي]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَة

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌أولًا - كلمة "مذهب

- ‌1 - المذهب لغة:

- ‌2 - المذهب عرفًا:

- ‌3 - المذهب اصطلاحًا:

- ‌ثانيًا - نشأة المذاهب الفقهية وسببها:

- ‌ثالثًا - أهمية المذاهب الفقهية في خدمة الشريعة الإسلامية:

- ‌الفصل الأولفي سيرة الإمام أحمد وعلمه

- ‌المبحث الأولالحياة السياسية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الثانيالحياة الثقافية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الثالثالحياة الإجتماعية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الرابعسيرة الإمام أحمد

- ‌الطور الأولالنشأة والطفولة

- ‌الطور الثانىطلبه للعلم والرحلة فيه

- ‌الطور الثالثحياة الإمام أحمد في بغداد إلى بداية المحنة

- ‌الطور الرابعالمحنة أسبابها. مراحلها. نتائجها

- ‌أسباب المحنة

- ‌مراحل المحنة

- ‌المرحلة الأولىالمحنة في زمن المأمون

- ‌المرحلة الثانيةالمحنة في زمن المعتصم

- ‌المرحلة الثالثةالمحنة في زمن الواثق

- ‌نتائج المحنة

- ‌المبحث الخامس‌‌وفاة الإمام أحمدومجمل مناقبه وعلمه

- ‌وفاة الإمام أحمد

- ‌مجمل مناقب الإمام أحمد وصفاته:

- ‌علم الإمام أحمد

- ‌أولاً: شهادة الناس له بالعلم:

- ‌ثانياً. في الرواية عنه:

- ‌ثالثاً: في مؤلفاته:

- ‌ما نسب إلى الإمام أحمد من كتب:

- ‌رسائل الإمام أحمد

- ‌المسندديوان السنة النبوية

- ‌ تاريخ تأليف المسند:

- ‌ وصف المسند:

- ‌ رواية المسند:

- ‌ منزلة المسند بين كتب الحديث:

- ‌ الأعمال التي تمت على المسند:

- ‌1 - غريب الحديث، لغلام ثعلب (261 هـ - 345 ه

- ‌2 - ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج لهم أحمد بن حنبل في "المسند" لإبن عساكر (499 هـ - 571 ه

- ‌3 - خصائص المسند، للحافظ أبي موسى المديني (501 هـ -581 ه

- ‌5 - التذكرة في رجال العشرة، لإبن حمزة الحسيني (715 هـ - 765 ه

- ‌6 - الإكمال في ذكر من له رواية في مسند الإمام أحمد من الرجال سوى من ذُكر في تهذيب الكمال:

- ‌8 - ترتيب المسند، لأبي بكر بن المحب (712 هـ - 789 ه

- ‌9 - ترتيب المسند، لإبن زريق (ت 803 ه

- ‌10 - إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لإبن الملقن (723 هـ -804 ه

- ‌11 - مختصر المسند

- ‌12 - غاية المقصد في زوائد المسند، للهيثمي (735 هـ - 807 ه

- ‌13 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:

- ‌14 - جزء للحافظ الهيثمي:

- ‌15 - ترتيب مسند أحمد على حروف المعجم، للمقدسي (ت 820 ه

- ‌16 - ذيل الكاشف، لإبن العراقي (762 هـ - 826 ه

- ‌17 - المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد، للحافظ ابن الجزري (751 هـ - 833 ه

- ‌18 - المقصد الأحمد في رجال أحمد

- ‌19 - المسند الأحمد فيما يتعلق بمسند أحمد

- ‌20 - ترتيب المسند المسمى "الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري"، لإبن زكنون (758 هـ - 837 ه

- ‌21 - زوائد المسانيد المسمى بـ: "إتحاف السادة المهرة بزوائد العشرة" للبوصيري (762 هـ - 840 ه

- ‌22 - القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد، للحافظ ابن حجر العسقلاني (773 هـ - 852 ه

- ‌23 - إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي:

- ‌24 - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة:

- ‌25 - التعريف الأجود بأوهام من جمع رجال السند:

- ‌26 - الذيل الممهد على القول المسدد، للسيوطي (ت 911 ه

- ‌27 - عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد:

- ‌29 - شرح المسند، للشيخ أبي الحسن السندي (ت 1139 ه

- ‌30 - نفثات الصدر المُكْمَد وقرّة عين السعد بشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، للسفاريني (1114 هـ - 1189 ه

- ‌31 - ذيل القول المسدد، لمحمد صبغة الله المدراسي:

- ‌32 - الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للساعاتي (ت 1378 ه

- ‌33 - بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني:

- ‌34 - تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر للمسند:

- ‌35 - الموسوعة الحديثية الكبرى:

- ‌دعوى كون الإمام أحمد محدثًا غير فقيهٍ والرَّد عليها:

- ‌الفصل الثانيفي أدوار المذهب ومواطن انتشاره

- ‌الدور الأولالنشأة والتأسيس

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولوصف عام لأصحاب الإمام أحمد

- ‌المبحث الثانيفي التعريف بأصحابه الذين سمعوا منه ورووا فقهه

- ‌تصنيف رواة المسائل عن الإمام أحمد:

- ‌التعريف بأشهر أصحاب الإمام أحمد

- ‌1 - إبراهيم الحَرْبي (198 هـ - 285 ه

- ‌2 - إسحاق بن إبراهيم بن هانئ (218 هـ - 285 ه

- ‌3 - أحمد بن حُميد (أبو طالب) (؟ - 244 ه

- ‌4 - أحمد المرّوذي (؟ - 275 ه

- ‌5 - أحمد الأثرم (؟ - 273 ه

- ‌6 - إسحاق الكَوْسَج (170 هـ - 251 ه

- ‌7 - حرب الكرماني (؟ - 280 ه

- ‌8 - حنبل بن إسحاق (؟ - 273 ه

- ‌9 - سليمان بن الاشعث أبو داود (202 هـ - 275 ه

- ‌10 - صالح بن الإمام أحمد (203 هـ - 266 ه

- ‌11 - عبد الله بن الإمام أحمد (213 هـ - 290 ه

- ‌12 - عبد لله بن محمد (فوران) (- 256 ه

- ‌13 - عبد الملك الميموني (- 274 ه

- ‌14 - مُهَنّا بن يحيى الشامي:

- ‌الدور الثانيالنقل والنمو

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولمميزات هذا الدور

- ‌المبحث الثاني‌‌أشهر علماء هذا الدوروأبرز أعمالهم

- ‌أشهر علماء هذا الدور

- ‌1 - الخلال (311 ه

- ‌2 - ابن المنادي (256 هـ - 336 ه

- ‌3 - أبو بكر النجاد (253 هـ - 348 ه

- ‌4 - الخِرَقي (334 ه

- ‌5 - الآجُرّي (360 ه

- ‌6 - غلام الخلَّال (285 هـ - 3763 ه

- ‌7 - ابن بَطة العُكْبَري (304 هـ - 387 ه

- ‌8 - ابن المُسْلِم (387 ه

- ‌9 - الحسن بن حامد (403 ه

- ‌أبرز أعمال علماء هذا الدور

- ‌أولاً - الجمع للمسائل

- ‌ثانياً - الإختصار الفقهي

- ‌ثالثا - شروح المختصرات

- ‌رابعاً - التآليف الجزئية المفردة

- ‌خامساً - الكتابة في أصول الفقه الحنبلي

- ‌الدور الثالثالإنتشار - الإزدهار - الإستقرار

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولالمذهب في العراق

- ‌1 - القاضي أبو يَعْلى (380 - 458 ه

- ‌2 - أبو الخَطّاب (432 - 510 ه

- ‌3 - ابن المَنِّي (501 - 583 ه

- ‌المبحث الثانيالمذهب في حَرَّان

- ‌آل تيمية وجهودهم في خدمة المذهب الحنبلي:

- ‌المبحث الثالثالمذهب في بلاد الشام

- ‌المقادسة وجهودهم

- ‌نتائج جهود المقادسة

- ‌أشهر الفقهاء الشاميين الذين خدموا المذهب:

- ‌ موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي (541 - 620 ه

- ‌ شمس الدين ابن مفلح (712 - 763 ه

- ‌ علاء الدين المرداوي (817 - 885 ه

- ‌حالة المذهب الحنبلي بعد المقادسة

- ‌الشيخ عبد القادر ابن بدران (1280 - 1346 ه

- ‌المبحث الرابعالمذهب في مصر

- ‌1 - ابن النجار الفُتُوحي (898 هـ - 972 ه

- ‌2 - منصور بن يونس البُهُوتي (1000 - 1051 ه

- ‌المبحث الخامسالمذهب في الجزيرة العربية

- ‌ الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة (948 ه

- ‌ الشيخ عبد الله بن محمد بن ذهلان (1099 ه

- ‌الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته

- ‌نتائج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌1 - الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1165 - 1244 ه

- ‌2 - الشيخ عبد لله بن عبد الرحمن الملقب بـ "أبا بُطين" (1194 - 1282 ه

- ‌3 - الشيخ عبد الرحمن بن حسن أل آلشيخ (1193 - 1285 ه

- ‌أثر الملكة العربية السعودية في ازدهار الفقه الحنبلي

- ‌خلاصة ما تمّ في المملكة العربية السعودية من جهود في خدمة المذهب الحنبلي

- ‌1 - الشيخ سعد بن حمد بن علي ابن عتيق (1267 - 1349 ه

- ‌2 - الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الرحمن العنقري (1290 - 1373 ه

- ‌3 - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (1307 - 1376 ه

- ‌4 - الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع (1300 - 1385 ه

- ‌5 - الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (1311 - 1386 ه

- ‌الفصل الثالثسمات الحنابلة

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولأثر سيرة الإمام أحمد على الحنابلة

- ‌المبحث الثانيالإعتناء بعلوم الحديث الشريف

- ‌المبحث الثالثالحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌المبحث الرابعالإتباع للسلف ومناهضة البدع

- ‌المبحث الخامسالحنابلة والسلطة السياسية

- ‌المبحث السادسأضواء على الإجتهاد عند فقهاء الحنابلة

- ‌ تعريف "الإختيارات

- ‌ التأليف في الإختيارات:

- ‌ اختيارات ابن تيمية ومميزاتها:

- ‌ الأسس التي ترتكز عليها اختيارات شيخ الإسلام:

- ‌ مرتبة ابن تيمية في طبقات المجتهدين:

- ‌ منهج ابن تيمية في الفتوى والإجتهاد:

- ‌الفصل الرابعأبرز مؤلفات المذهب الحنبلي

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولفي فنون الفقه التي توزعتها التصانيف

- ‌المبحث الثانيفي ترتيب المكتبة الفقهية الحنبلية

- ‌كيفية التعرف على كتاب من الكتب الفقهية

- ‌كيفية ترتيب المكتبة الفقهية الحنبلية

- ‌المبحث الثالثفي التعريف بأشهر الكتب المعتمدة في المذهب

- ‌ الجامع للخلال:

- ‌ مختصر الخرقي:

- ‌ الإرشاد إلى سبيل الرشاد:

- ‌ الخلاف الكبير للقاضي أبي يعلى:

- ‌ كتاب الروايتين والوجهين:

- ‌ شرح مختصر الخرقي للقاضي أبي يعلى:

- ‌ الانتصار في المسائل الكبار:

- ‌ المستوعب:

- ‌ المغني:

- ‌ العمدة

- ‌ المقنع

- ‌الكافي

- ‌ المحرر:

- ‌ الفروع:

- ‌الإنصاف

- ‌الإقناع

- ‌ منتهى الإرادات:

الفصل: ‌المبحث الثانيالحياة الثقافية في عصر الإمام أحمد

‌المبحث الثاني

الحياة الثقافية في عصر الإمام أحمد

ما إن نزل المنصور "بغداد" بعد أن ابتناها منتقلًا عن "الهاشمية" إليها حتى نقل إليها خزائنه ودواوينه، وفرغ لنشر العلوم، واستدعى إليها المترجمين، وبدأت حركة الترجمة، فترجم له عالم هندي كتابًا في علم حساب النجوم، وترجم ابن المقفع (106 - 142 هـ) كتب أرسطاطاليس في المنطق، وكتاب "كليلة ودمنة" في الأدب، وكان أول من أنشأ بها مدارس للطب والعلوم الإسلامية.

وكان أبو حنيفة (80 - 150 هـ) قد جلس في الكوفة يؤسس مدرسة الرأي.

ثم جاء المهدي بن المنصور، وكان نقادة للشعر، أديبًا، وفي أيامه وضع له وزيره أبو عبيد الله معاوية بن يسار كتاب "الخراج" ذكر فيه أحكامه الشرعية ودقائقه وقواعده، وكان أول من صنف في الخراج ، وتبعه الناس بعد ذلك، فصنفوا في هذا الفن. وألف. المفضل الضبي كتابه "المفضليات" المشهور في الأدب.

ثم جاء الرشيد، وكان راغبًا في العلم محبًا للعلماء يجلُّهم ويقرلهم، فاستقضى أبا يوسف صاحب أبي حنيفة، وألف له كلتاب "الخراج" الشهير. ويذل الرشيد الكثير من المال في سبيل خدمة العلم وتأسيس معاهده ومراكزه، وبلغت بغداد في أيامه مكانة لم تظفر بها مدينة في ذلك العهد، فأنشئت فيها المراصد والمكتبات والبيمارستانات (المشافي الجامعية) والمدارس، وإليه يعزى تأسيس "بيت الحكمة" الذي جمع له من الكتب شيئًا كثيرًا، وكان مجتمع المتصلين بالعلم والمشتغلين بالفن والراغبين في الأدب (1).

(1) مقدمة تحقيق "المعارف" لابن قتيبة للدكتور ثروت عكاشة ص 7 - 10.

ص: 29

وأما أيام الأمين، فقد كانت خافتة في تألقها، ضعيفة في عطائها، قليلة في عددها، بسبب الفتن المتلاحقة بينه وبين أخيه المأمون، حتى انتهت بقتله وأفضت بالخلافة إلى أخيه الذي اتجه إلى "بيت الحكمة" الذي أسسه أبوه، فأفرد لكل عالم ركنًا، فازدحمت جنبات هذا البيت بالعلماء والفلاسفة والمترجمين والمؤلفين وأساطين اللغة ورجال الأدب.

فترجم الحجاج بن يوسف بن مطر مصنفات إقليدس وكتاب بطليموس المعروف بالمجسطي (1).

وكان قبل ذلك قد توفي مالك بن أنس (179 هـ) بالمدينة، والليث بن سعد (175 هـ) بمصر، وسفيان الثوري (161 هـ) بالكوفة، والأوزاعي (157 هـ) بالشام. وهؤلاء كانوا أئمة الناس في الحديث والفقه معًا، يرحل إليهم وتضرب لهم أكباد المطي. وكان الشافعي قد مات بمصر (204 هـ) بعدما استقر بها وألقى عصا التسيار من الرحلات التي رحلها مترددًا بين مكة واليمن والمدينة والعراق.

ويزغ نجم أئمة الحديث ونقاده وحفاظه، كشعبة بن الحجاج وخالد الحذاء وجرير ابن حازم وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان ويزيد بن هارون، وغيرهم.

وترك هؤلاء الأئمة، آثارهم وصنفوا التصانيف في الفقه والحديث على حَدٍّ سواء، فوضع مالك بن أنس كتابه "الموطأ" على نحو بديع لم يسبق إلى مثله أحد، وألف سحنون كتاب "المدونة" في الفقه المالكي بعدما ذاكر بها ابن القاسم فيما رواه من فقه عن شيخه مالك بن أنس. ووضع سفيان الثوري كتابًا جامعًا في مسائل الفقه إلى جانب كتابه "الجامع" في الحديث. كما ألَّف الأوزاعي كتاب "السنن"، وألَّف الشافعي كتبه المشهورة المعروفة "الرسالة" في الأصول، و"الأم" و "المبسوط" في الفقه (2)، وغيرها. ودوَّن محمد ابن الحسن فقه أبي حنيفة وأبي يوسف، وفقهه هو ثالث الثلاثة.

(1) الفهرست، لابن النديم، ص 325، 327. تحقيق: رضا - تجدّد.

(2)

قال الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "ابن حنبل" ص 123: إن بعض المتقدمين سموا كتاب "الأم" باسم "المبسوط". فهو على هذا عنده كتاب واحد باسمين مختلفين، والواقع أنهما كتابان مختلفان، فقد قال ابن النديم في "الفهرست" (ص 264): وتوفي -أي الشافعي- سنة أربع ومائتين بمصر وله من الكتب، كتاب "المبسوط" في الفقه، رواه عنه الربيع بن سليمان والزعفراني، ويحتوي هذا الكتاب على: كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب الصيام، كتاب الحج، كتاب الإعتكاف ا. هـ. وذكر محقق كتاب "معرفة السنن والآثار" الدكتور عبد المعطي قلعه جي (1/ 27) أن كتاب "المبسوط" وصلت إلينا منه قطع في مختصر البويطي. والله أعلم.

ص: 30

وبرز من الكُتَّاب والأدباء والشعراء والإخباريين والنسابة أعلام تألقوا نجومًا في سماء التاريخ، كالخليل بن أحمد، وسيبويه، والأصمعي، وأبي عييد القاسم بن سلام، والجاحظ، وابن قتيية، وابن السِّكِّيت، وابن سعد، والواقدي، ومحمد بن إسحاق بن يسار.

لقد كان عصر الإمام أحمد رحمه الله عصر النضج الثقافي إلى جانب النضج السياسي، فالتقى العلماء وتدارسوا الفقه، وكانت الرحلات قد كثرت بين البلدان والأمصار، وكان الإمام أحمد أحد روادها، وأخذ حديث العراقيين يجتمع إلى حديث الحجازيين إلى حديث المصريين إلى حديث الشاميين إلى حديث اليمنيين، وأخذ الفقه يجمع من فلان وفلان وفلان، ويتلاقح، ليظهر في ثوب جديد، بعد أن كان متفرقًا في الأمصار من لدن عهد الصحابة إلى ذلك العهد.

ولا ريب أن الإمام أحمد كان متصلًا بذلك الرصيد الذي تجمع بين يديه ببغداد ورحل إلى مثله في بقية الأمصار. قال ابن الجوزي: "ابتدأ أحمد رضي الله عنه في طلب العلم من شيوخ بغداد ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، وكتب عن علماء كل بلد"(1).

وكان في تلك الرحلات يستوعب ما عند الناس في ذلك الزمن، ولو لم يكن يتفق مع مسلكه، فقد قال أبو بكر الخلال: كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها (2). ويلغ به الحفظ لما عند سفيان الثوري من المرويات والعلوم حدًا قال فيه عبد الرحمن بن مهدي: من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري فلينظر إلى هذا. وقال: ما نظرت إلى أحمد إلا ذكرت به سفيان (3).

وعاصر الإمام أحمد تأسيس علم أصول الفقه ومناهج الإستنباط، بل كان تَلْمَذَ لواضعه وأول المصنفين فيه، وهو الإمام الشافعي صاحب "الرسالة" الشهيرة، و"جماع العلم" في الإحتجاج بخبر الواحد، و"إبطال الإستحسان"، وغير ذلك.

(1) مناقب الإمام أحمد، ص 46.

(2)

سير أعلام النبلاء 11/ 188.

(3)

المصدر السابق 11/ 190.

ص: 31

كما بزغت شمس المناظرات والمساجلات بين الفقهاء، وكذلك بين علماء الكلام من المعتزلة والجهمية والمرجئة وغيرهم، وكانت مجالس المأمون مشهورة بذلك الجدل وتلك المناظرات، مما يدل على أن المذاهب في الفقه والكلام أصبحت يانعة ناضجة الثمار، لها رجالها الذابون عنها، وخصومها المحاججون لها الرادون عليها.

وقد صور ابن قتيبة الجانب السلبي مما كان في تلك المناظرات والإحتكاكات، فقال: وكان طالب العلم فيما مضى يسمع ليعلم، ويعلم ليعمل، ويتفقه في دين الله لينتفع وينفخر، فقد صار طالب العلم الآن يسمع ليجمع، ويجمع ليُذكر، ويحفظ ليغالب ويفخر. وكان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح، وفيما ينوب الناس، فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع، وفيما قد انقرض من حكم الكتابة وحكم اللعان ورجم المحصن، وصار الغرض فيه إخراج لطيفةٍ وغوصًا على غريبةٍ، وردًا على منقدم، فهذا يرد على أبي حنيفة، وهذا يرد على مالك، وآخر يرد على الشافعي بزخرف من القول، ولطيف من الحيل، كأنه لا يعلم أنه إذا رد على الأول صوابًا عند الله بتمويهه فقد تقلد المآثم عن العاملين به دهر الداهرين. وهذا يطعن بالرأي على ماض من السلف، وهو يرى، وبالإبتداع في دين الله على آخر، وهو يبتدع.

وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر، وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى، فقد صار المتناظرون يتناظرون في الإستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق وقادهم الهوى بزمام الردى.

وكان آخر ما وقع من الإختلاف أمرًا خص بأصحاب الحديث الذين لم يزالوا بالسنة ظاهرين، وبالإتباع قاهرين يداجون بكل بلد ولا يداجون، ويستتر منهم بالنحل ولا يستترون، ويصدعون بحقهم الناس ولا يستغشون، لا يرتفع بالعلم إلا من رفعوا، ولا يتضع فيه إلَّا من وضعوا (1).

(1) الإختلاف في اللفظ، لإبن قتيبة ص 10 - 12. تصوير دار الكتب العلمية.

ص: 32

تلك كانت صورة تقريبية عن الواقع الثقافي للمسلمين في ذلك العصر، ولا ريب أن الثقافة كانت إسلامية على الرغم من كل ما هنالك من الجوانب السلبية، وكانت إلى جانب الثقافة الإسلامية ثقافات ثانوية قد ورثتها الشعوب التي دخلت تحت دولة الإسلام، كالثقافة الفارسية والثقافة اليونانية والثقافة الرومانية والثقافة الهندية. وتعتبر الثقافة الفارسية آخذة بالحظ الأوفر في التعايش مع الثقافة الإسلامية والعربية؛ لاْن الدولة الفارسية سقطت بكاملها في أيدي المسلمين. ومن أجل ذلك ظهرت الحركة الشعوبية في تلك التخوم، وذَرَّ قرنُ الزندقة والنِّحلِ الداعية إلى إحياء ما كان قد اندرس من الزرادشتية والمانوية والمزدكية وغيرها.

ص: 33