الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما أبلى الحنابلة البلاء الحسن وصبروا في ذات الله بوأهم الله المراتب العالية والمناصب المرموقة، فتولوا القضاء، والتدريس في المدارس الرسمية وغير الرسمية، والقيام ببعض الأعمال في الدولة العباسية، كتولي الوزارة، والقيام بالسفارة.
ومن أبرز العلماء الذين خدموا المذهب في بغداد:
1 - القاضي أبو يَعْلى (380 - 458 ه
ـ):
وهو محمد بن الحسين، المعروف بالفراء، تلميذ الحسن بن حامد (403 هـ). تتلمذ على يديه منذ السنة العاشرة من عمره، والشيخ ابن حامد هذا كان إمام الحنابلة وفقيههم في زمانه.
أخذ القاضي عنه أخلاقه، ونهل من علمه وتفقه على يديه، وفاق أقرانه، ولاحظ ذلك الشيخُ الأستاذُ الذكاءَ والتفوق يبرق في عيني تلميذه أبي يعلى، فاعتنى به، وكانت له فراسة، فرأى في أبي يعلى مع صغر سنه بين أصحابه الذين يدرسون ويتفقهون عليه أنه أجدرهم بحمل الراية من بعده، وتولي رئاسة حلقة الحنابلة ليدرسهم ويفتيهم.
قال أبو بكر ابن الخياط: "سألت أبا عبد الله ابن حامد إمام الحنبلية في وقته عند خروجه إلى الحج في سنة 402 هـ. فقلت: على من ندرس؟ وإلى من نجلس؟ فقال: إلى هذا الفتى. وأشار إلى القاضي الإمام أبي يعلى"(1).
وهذا يدل على أنه تصدر للتدريس والتعليم في سن الثانية والعشرين.
ومعنى ذلك أنه بقي في هذا الشأن بالإضافة إلى القضاء والتأليف مدة ست وخمسين سنة!!
وقد بدأ بالتصنيف في هذه السنة أيضًا، أي: سنة 402 هـ، على ما ذكر عنه ولده، لذلك كثرت مصنفاته وتنوعت.
ويمكن القول بأن القاضي أبا يعلى خدم المذهب الحنبلي من خلال ثلاث قنوات رئيسة: التأليف، والتعليم، والقضاء.
(1) الطبقات 2/ 177.
فأما التأليف:
فقد حاز فيه قصب السبق، إذكانت كتبه كثيرة ومتنوعة ومفيدة في نفس الوقت. قال الذهبي في وصفها:"صاحب التعليقة الكبرى، والتصانيف المفيدة في المذهب"(1).
وقد تجاوزت مصنفاته الخمسين في عدتها، أحصاها ولده (2).
وكانت هذه التصانيف موزعة على علوم التفسير، وأصول الدين، وأصول الفقه، والفقه بكافة فروعه، والأدب، والطب، وغير ذلك.
وقد كانت عمدة الطالبين، وبغية الباحثين، عول عليها الشيوخ وبنوا في قالبها، ونسجوا على منوالها.
قال ولده أبو الحسين في وصفها:
"ومن نظر في تصانيفه حقيقة النظر، علم أن ما وراءه مرامًا ولا مقالًا، إلا ما يدخل على البشر من التقصير عن الكمال، ويخرج به العالم عن منازل الأنبياء، ويتميز به المتأخر عن مراتب أهل التقدم من العلماء. فلقد حمل الناس عنه علماً واسعًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الأصول والفروع"(3).
(1) السير 18/ 89.
(2)
الطقات 2/ 205، واستقرأ الدكتور عبد القادر أبو فارس أسماء الكتب التي لا تزال موجودة إلى اليوم من مؤلفات المترجم، وأشار إلى أماكن وجودها في مكتبات العالم، ثم سرد بعد ذلك بقية أسماء الكتب الفقودة مع التعليق المفيد عليها. القاضي أبو يعلى وكتابه الأحكام السلطانية، ط. مؤسسة الرسالة، ص 184 و 245.
وهذه عناوين الكتب التي لا تزال موجودة إلى اليوم:
1 -
كتاب الأحكام السلطانية.
2 -
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3 -
كتاب الإيمان.
4 -
كتاب التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة.
5 -
كتاب الروايتين والوجهين.
6 -
كتاب شرح مختصر الخرقي.
7 -
كتاب العُدة في أصول الفقه.
8 -
الكفاية في أصول الفقه.
9 -
مختصر المعتمد في أصول الدين.
(3)
الطبقات 2/ 206.
ولم تكن مصنفاته نقولًا لكلام من تقدم عليه فحسب، بل هي مليئة بالتحقيقات والإجتهادات والإختيارات والوجوه.
والإحتمالات التي لأبي يعلى تشكل نسبة عالية من الإحتمالات الواردة في الفقه الحنبلي كله.
قال البعلي: "وكثير من الإحتمالات في المذهب، بل أكثرها للقاضي أبي يعلى
محمد بن الفراء في كتابه "المجرد" وغيره" (1).
لا شك أن هذه الإحتمالات فعلت فعلها الإيجايي البَنّاء في إثراء المذهب وتنميته.
والدليل على ذلك أن فقهاء الحنابلة عدوا القاضي أبا يعلى في زمرة المجتهدين في المذهب في الدرجة العالية. فقد قال ابن القيم في النوع الثاني من أنواع المجتهدين ما نصه:
"النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب ائتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، وقياس مالم ينص من ائتم به [عليه] على منصوصه، من غير أن يكون مقلداً لإمامه، لا في الحكم، ولا في الدليل. لكن سلك طريقه في الإجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه ورتبه وقرره. فهو موافق له في مقصده وطريقته معاً.
وقد ادعى هذه المرتبة من الحنابلة: القاضي أبو يعلى، والقاضي أبو علي بن أبي موسى في شرح "الإرشاد" الذي له" (2).
وأما التعليم:
فقد كان القاضي أبو يعلى شيخ الحنابلة في وقته بلا منازع، يدرس ويعلم، لم يفتر عن ذلك حتى مع تقدم السن به، فبرز على يديه تلامذة نجباء، وعلماء أعلام. فمن الذين تفقهوا على يديه: الشريف أبو جعفر، وأبو علي ابن البناء، وأبو الوفاء ابن عقيل، ومحفوظ الكلوذاني (أبو الخطاب). وغيرهم عدد كثير (3).
(1) المطلع على أبواب المقنع، للبعلي، ص 461، المكتب الإسلامي، 1981، و"الإنصاف" المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 1/ 9.
(2)
إعلام الموقعين 4/ 173، ويلاحظ أن ابن حمدان جعل هنا النوع من المجتهلين مقلداً لإمامه في الحكم والدليل، على ما نقله عنه المنقور في"الفواكه العديدة"2/ 172. وهذا يخالف ما قال ابن القيم، إلا أن يكون هناك خطأ أو تصحيف في النقل. ويبدو أن الصواب مع ابن القيم لما يعلم لأبي يعلى من التفردات والتخريجات، والله أعلم.
(3)
الطبقات 2/ 2204، السير 18/ 89، القاضى أبو يعلى، لعبد القادر أبو فارس، ص 257.
وأما القضاء:
فقد عاش القاضي أبو يعلى في ظل خلافة القادر بالله، الذي تعتبر مدته في الخلافة أطول المدد، فقد أنافت على أربعين سنة، وكان من الفقهاء المشتغلين بالعلم حتى عده ابن الصلاح في طبقات فقهاء الشافعية.
وكان القادر بالله يميل إلى القاضي أبي يعلى ويقربه. فلما توفي سنة 422 هـ، وخلفه ولده القائم بأمر الله، ولاه على قضاء الحريم، وكان يُشترط لهذا المنصب الجمع بين العلم والزهد، وكان القاضي أبو يعلى على جانب عظيم من الزهد والورع والعبادة والعفة والنظافة. وأما العلم فهو المفسر الأصولي الفقيه المحدث المناظر.
فكان هو المرشح الوحيد لهذا المنصب في رأي القائم بأمر الله. فوافق أبو يعلى على ذلك بعد إلحاح شديد وتمنع متكرر، واشترط على الخليفة شرائط، منها:
أن لا يحضر أيام المواكب الشريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان، وفي كل شهر يقصد نهر المعلّى يوما وياب الأزج يوماً، ويستخلف من ينوب عنه في الحريم. فاستجاب الخليفة لشروطه، وولاه القضاء في الدماء والفروج والأموال، وأسند إليه قضاء حرّان وحلوان العراق (1).
فسار في القضاء سيرة الأبرار النزهاء، فأصلح الفساد، وأنصف المظلوم، وأوصل الحقوق، وفصل الخصومات، وكان في ذلك كله يعرض المذهب الحنبلي على ميدان الواقع، ولا يخفى ما في ذلك من إعطاء هذا المذهب قوته وحيويته في الجانب القضائي، وكان القاضي أبو يعلى من السابقين الأولين في الكتابة في موضوع الأحكام السلطانية (2) من وجهة نظر الإجتهاد الحنبلي، ولعل عمله في القضاء وعلاقته الطيبة مع الخليفة هي التي حفزت همته لذلك.
(1) الطبقات 2/ 199، السير 18/ 90.
(2)
قال الدكتور عبد القادر أبو فارس:"وأما كتابه"الأحكام السلطانية" فهو ثاني اثنين من الكتب التي صنفت في النظم الإسلامية، وحَوَيا بين دفتيهما النظام السياسي والنظام القضائي والنظام الإداري والنظام المالي. ولم يوجد فيما نعلم من صنف كتابا جمع هذه النظم غير القاضي أبي يعلى بن الفراء في كتابه هنا، ومعاصره أبي الحسن الماوردي". اهـ. القاض أبو يعلى وكتابه الأحكام السلطانية، ص 543.