الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
الحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
روى مسلم في "صحيحه" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وخرّج مسلم أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
هذه الأحاديث، وغيرها كثير، تعلن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقرر مسؤولية حراسة الرأي العام داخل المجتمع المسلم على العام والخاص.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة محكمة ماضية في الأمة إلى يوم القيامة، وهي من أهم ميزات هذه الأمة المحمدية التي قال الله عز وجل في شأنها:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
ولايخفى ما تتطلبه هذه الفريضة من صبر وشجاعة واحتساب، وعلم بالمأمور به والمنهي عنه، بالإضافة إلى الآداب المطلوبة في القيام بالأمر والنهي.
هذه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما مدى تقيد الحنابلة بها؟
إن التاريخ الإسلامي ليصدع بما حفظ من وقائع للحنابلة في شأن هذه الفريضة، وتطبيقها، فقد كانت أصداء الحنابلة في بغداد على وجه الخصوص، وفي الشام، وغير ذلك، قوية لائحة في الآفاق، وإنك لتجد في طبقات ابن أبي يعلى هذه العبارة متكررة في تراجم كثير من أعلام الحنابلة:"الأمّار بالمعروف النّهّاء عن المنكر".
ففي ترجمة الحسن بن علي البربهاري (329 هـ) نجده موصوفاً بأنه: "شيخ الطائفة في وقته، ومتقدمها في الإنكار على أهل البدع، والمباينة لهم باليد واللسان"(1).
وقد مر معنا (2) أن الخرقي (334 هـ) توفي بالشام متأثراً بآثار الضرب الذي ناله في سبيل إنكار منكر رآه هناك.
وفي ترجمة علي بن الحسين العُكبَري: "الأمَّار بالمعروف النَّهاء عن المنكر"(3).
وفي ترجمة طاهر بن الحسين: "كان زاهداً أمَّاراً بالمعروف نهَّاء عن المنكر"(4).
ومن صور تلك الوقائع التي سجلها التاريخ في مدينة السلام بشأن القيام الجماعي بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما حصل مع الشريف أبي جعفر (470 هـ) الذي انتهت إليه الرحلة في وقته لطلب مذهب الإمام أحمد. قال المؤرخون عن تلك الواقعة الشهيرة:
"وفي سنة 464 هـ اجتمع الشريف أبو جعفر ومعه الحنابلة في جامع القصر، وأدخلوا معهم أبا إسحاق الشيرازي وأصحابه. وطلبوا من الدولة قلع المواخير (5) وتتبع المفسدين والمفسدات، ومن يبيع النبيذ، وضرب دراهم تقع بها المعاملة عوض القراضة. فتقدم الخليفة بذلك، فهرب المفسدات، وكُبست الدور، وأريقت الأنبذة، ووعدوا بقلع المواخير، ومكاتبة عضد الدولة برفعها، والتقدم بضرب الدراهم التي يتعامل بها، فلم يقنع الشريف ولا أبو إسحاق بهذا الوعد، وبقي الشريف مدة طويلة متعتباً مهاجراً لهم"(6).
ويقيت سنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صفوف الحنابلة محفوظة إلى يومنا هذا، ولأجل ذلك كان من أوائل الهيئات الحكومية تكويناً في المملكة العربية السعودية "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ليحتسب على الناس في شؤون العبادات والمعاملات الظاهرة العامة.
وإذا كان الحنابلة -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- قد أبلوا في إعطاء الأمر بالمعروف أهميته التنفيذية، وإقامة جانبه العملي، فقد قاموا برسم معالمه الفقهية وأحكامه الشرعية، حتى لا يكون
(1) الطبقات، لإبن أبي يعلى، 2/ 18.
(2)
في الصفحة 211.
(3)
ذيل طبقات الحنابلة 1/ 11.
(4)
المصدر السابق: 1/ 39.
(5)
جمع ماخور، وهو المكان الذي تباع فيه الخمر، أو هو مجتمع الفُسَّاق.
(6)
ذيل طبقات الحنابلة 1/ 18، البداية والنهاية 12/ 105.
الآمر والناهي ماشياً في عماية، ولا متعاطياً لمضلات الفتن في غير هداية.
فقد ألف الحنابلة في ذلك التآليف المفردة، منها:
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأبي بكر الخلال (311 هـ).
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأبي بكر بن أبي الدنيا (281 هـ)
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للقاضي أبي يعلى (458 هـ).
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للحافظ عبد الغني القدسي (600 هـ).
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للحافظ ابن تيمية (728 هـ (.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أودعوا في ضمن المجاميع بحوثاً مطولة في تناول هذا الموضوع، كما نجد أبا عبد الله ابن مفلح (763 هـ) صاحب "الفروع" قد خصص لبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجزء الأول من كتابه "الآداب الشرعية" زهاء مئة وعشرين صفحة، وهو مليء بالفوائد، مشحون بالعلم، ينبغي الإطلاع عليه.
كما ألفوا تآليف موجهة إلى الحكام والأمراء في بيان ما عليهم من الفرائض الشرعية في هذا الجانب، وذلك مثل:"الأحكام السلطانية" للقاضي أبي يعلى، و"السياسية الشرعية" لإبن تيمية، و"الطرق الحكمية" لإبن القيم.
ومن شدة الإهتمام بهذه الفريضة أدخل بعض الحنابلة تقريرات عنها في مصنفات العقيدة ورسائل التوحيد والسنة، ففي كتاب "شرح السنة" للبربهاري (329 هـ) نجد العبارة التالية:"والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إلا من خِفْتَ سَيْفَه وعصاه .. " ثم قال: "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باليد واللسان والقلب بلا سيف"(1).
وهكذا "بلا سيف" حتى يتمايز أهل السنة عن أهل البدعة في أنهم لا يتجاوزون حدود الطاعة لسلطان المسلمين، ولا يخرجون عليه بالسيف، بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أهل البدع يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم، أو ما ظنوه هم ظلماً، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2).
* * *
(1) طبقات الحنابلة 2/ 35.
(2)
الآداب الشرعية، لإبن مفلح، 1/ 181، ط. مؤسسة الرسالة، 1996، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لإبن تيمية، ص 40، دار المدني بجدة، 1987.