الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطور الثانى
طلبه للعلم والرحلة فيه
لما أناف الإمام أحمد على الربيع الخامس عشر من عمره توجه بنفسه إلى طلب علم الحديث، وقصد أهله المبرزين فيه، فبدأ بشيوخ بغداد فاستنفد ما عندهم، ثم تنقل في الأمصار المعروفة آنذاك بالحفاظ والفقهاء والأئمة، كالبصرة والكوفة والحجاز واليمن.
فبدأ بالطلب سنة 179 هـ وهي السنة التي توفي فيها عالم المدينة؛ مالك بن أنس، وإمام البصرة حماد بن زيد.
فسمع من علي بن هاشم بن البريد، لكنه سرعان ما بادره الموت به. قال عبد الله: قال أبي: سمعت من علي بن هاشم بن البريد سنة 179 هـ في أول سنة طبت الحديث، ثم عدت إليه في المجلس الآخر، وقد مات، وهي السنة التي مات فيها مالك بن أنس (1). وكتب عن أبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة. وفي نفس السنة أي: سنة 179 هـ جلس إلى هشيم ابن بشير الواسطي، وأكثر من الأخذ عنه، ولازمه حتى توفي سنة 183 هـ ولأحمد من العمر عشرون سنة.
وكان هشيم ولد سنة 104 هـ بواسط، ثم قدم بغداد قديمًا واستقر فيها. قال عنه الذهبي: شيخ الإسلام محدث بغداد وحافظها (2).
وروى عنه من أقرانه وأهل طبقته جماعة كبيرة منهم: شعبة والثوري، وهما من شيوخه، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، وابن المبارك، وغيرهم. فكان الإمام أحمد من طبقة هؤلاء باعتبار هذه المشاركة العالية التي حظي بها. قال أحمد في وصفه: لزمت هشيمًا أربع سنين أو خمسًا ما سألته عن شيء هيبة له إلا مرتين، وكان كثير التسبيح بين الحديث، يقول بين ذلك: لا إله إلا الله، يمد بها صوته (3).
وكانت حافظة الإمام أحمد تنال إعجاب الألباء، فقد حفظ كل ما سمعه من هشيم ابن بشير، حتى قال عن نفسه: حفظت كل شيء سمعته من هشيم، وهشيم حي قبل
(1) تاريخ بغداد 4/ 416.
(2)
سير أعلام النبلاء 8/ 288.
(3)
تاريخ بغداد 14/ 89، سير أعلام النبلاء 8/ 290.
موته. وقال: مات هشيم وأنا ابن عشرين سنة وأنا أحفظ ما سمعت منه، ولقد جاء إنسان إلى باب ابن عُلية ومعه كتب هشيم فجعل يلقيها علي، وأنا أقول: إسناد هذا كذا، فجاء المعيطي، وكان يحفظ، فقال له: أجبه، فبقي، أي: لم يستطع الجواب، ولقد عرفت من حديثه ما لم أسمعه (1).
ولا جرم فقد كان هشيم محدثًا ولم يكن فقيها، لكن كان يجمع في مروياته الأحاديث والآثار وفتاوي الصحابة، يجمعها في الباب الواحد. فقد قال عنه الإمام أحمد: كتبنا عنه كتاب الحج نحوًا من ألف حديث، ويعض التفسير، وكتاب القضاء، وكتبًا صغارًا. قلت (أي ولده صالح): يكون ثلاثة آلاف؟ قال: أكثر، وجاءنا موت حماد بن زيد ونحن على باب هشيم، وهشيم يملي علينا الجنائز (2).
وإلى جانب اهتمام الإمام أحمد بالحديث واشتغاله فيه منذ نعمومة أظفاره، فقد اطلع على بعض ما دونته مدرسة الرأي وانتهى إلى الناس هناك، فقد كان من شيوخ أحمد الأولين أبو يوسف رحمه الله. قال أبو بكر الخلال:"كان أحمد قد كتب كتب الرأي، وحفظها، ثم لم يلتفت إليها"(3).
* * *
• رحلات الإمام أحمد:
قال ابن الجوزي: ابتدأ أحمد رضي الله عنه في طلب العلم من شيوخ بغداد ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، وكتب عن علماء كل بلد (4).
(1) مناقب الإمام أحمد، ص 85 - 86، تقدمة الجرح والتعديل، ص 295.
(2)
المناقب، ص 48.
(3)
السير 11/ 188.
(4)
المناقب، ص 46.
ويظهر أثر هذه الرحلات واضحًا في ترتيب كتابه "المسند" وكيفية تفننه في توزيع الصحابة على الأمصار والبلدان.
وقد استوعب الذهبي عددًا كبيرًا من شيوخه على عادته، ثم قال: فعدة شيوخه الذين روى عنهم في "المسند" مائتان وثمانون ونيف (1).
وقد رحل الإمام أحمد غِبَّ وفاة شيخه هُشيم سنة 183 هـ، وكان قد وفد عليهم عبد الرحمن بن مهدي قبل ذلك، فكتب عنه واستفاد منه. فخرج من بغداد في صحبة أعرابي إلى الكوفة، وكان بها من أساطين المحدثين أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، من أبرز من خلف الأعمش رحمه الله، ووكيع بن الجراح الرؤاسي جامع علم سفيان الثوري وراويته.
وكان فيها من فقهاء الرأي جماعة كبيرة، فاطلع على ما عند الجميع وأفاد منهم، فحفظ حديث الثوري بواسطة وكيع، حتى شهد له عبد الرحمن بن مهدي بأنه أعلم الناس بذلك (2).
وقال عن نفسه رحمه الله: كنت أذاكر وكيعًا بحديث الثوري، وذكر مرة شيئًا، فقال: هذا عند هشيم؟ فقلت: لا. وكان ربما ذكر العشر أحاديث فأحفظها، فإذا قام قالوا لي، فأمليها عليهم (3).
وكان أحمد في رحلته هذه في حال شظف من العيش حتى كان يتوسد اللَّبِن من قلة ذات اليد، فحُمَّ من جراء ذلك فرجع إلى أمه في بغداد (4).
ومن الكوفة إلى البصرة دار آبائه وأجداده من بني شيبان، وقد دخل البصرة في المرة الأولى سنة 186 هـ، وتردد عليها خمس مرات آخرها سنة 200 هـ، ولم يحظ بملاقاة محدثها حماد بن زيد (المتوفى سنة 179 هـ). لكن أخلفه الله بها إسماعيل ابن عُلَيَّة، وابن مهدي، ويحيى القطان، والمعتمر بن سليمان وغُنْدَر. قال رحمه الله: فاتني مالك فأخلف الله علي سفيان بن عيينة، وفاتني حماد بن زيد فأخلف الله علي إسماعيل ابن علية (5).
(1) السير 11/ 181.
(2)
تقدمة الجرح والعديل ص 292.
(3)
السير 11/ 186.
(4)
المناقب، ص 49. ووقع في "سير أعلام النبلاء" (11/ 185): "
…
فحجَجتُ فرجعت إلى أمي ولم أكن استأذنتها". والصواب: فحممتُ. والله أعلم.
(5)
المناقب، ص 54.
ثم رحل إلى واسط سنة 187 هـ وأخذ فيها عن يزيد بن هارون. وفاته جرير بن عبد الحميد بالري (1)؛ لأنه لم يجد ما ينفق على نفسه في الرحلة إليه فتأسف على ذلك، كما تأسف على يحيى بن يحيى النيسابوري أحد الرواة المكثرين عن مالك بن أنس.
ثم رحل إلى الحجاز سنة 187 هـ، فقدم مكة حاجًا لأول مرة، وقد مات الفضيل بن عياض، فكتب عن إبراهيم بن سعد الزهري، وصلى خلفه عدة مرات، ولزم سفيان بن عِيينة وأخذ عنه، واعتبره خلف خير مما فاته من الرواية عن عالم المدينة مالك بن أنس، ولقي الشافعي هناك فروى عنه وأفاد منه قبل أن يجتمع به في المرة الثانية ببغداد.
وقد حج أحمد بيت الله الحرام خمس مرات: الأولى هذه، والثانية سنة 191 هـ وفيها حج الوليد بن مسلم محدث الشام، والثالثة في سنة 196 هـ وجاور هناك إلى سنة 197 هـ، والرابعة في سنة 198 هـ وجاور إلى سنة 199 هـ (2).
وكان سفيان قد توفي سنة 198 هـ، فلعل أحمد كان يكثر التردد على مكة في هذه السنوات من أجل سفيان، فلما مات خرج أحمد إلى صنعاء. وقد قال الذهبي: ولقد كان خلق من طلبة الحديث يتكلفون الحج، وما المحرك لهم سوى لُقي سفيان بن عيينة لإمامته وعلو إسناده. وجاور عنده غير واحد من الحفاظ (3). وذكره الشافعي، فقال: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، وقال: وجدت أحاديث الأحكام كلها عند ابن عيينة سوى ستة أحاديث، ووجدتها كلها عند مالك سوى ثلاثين حديثًا. فهذا يدل على أن سفيان جمع أحاديث العراقيين، لأن أصله من الكوفة، إلى أحاديث الحجازيين (4).
ورحل اْحمد من مكة سنة 199 هـ متوجهًا نحو اليمن في صحبة يحيى بن معين وإسحاق بن راهويه، وكان يقصد بالذات حافظ صنعاء وعالمها عبد الرزاق بن همام. قال أحمد: أتينا عبد الرزاق قبل المائتين (250 هـ) وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعدما ذهب بصره فهو ضعيف السماع (5).
(1) قال ابن الجوزي في "المناقب"(ص 51): قد سمع أحمد بن حنبل من جرير إلا أنه لم يتفق له الإكثار عنه. اهـ. وذكره الذهبي فى جملة شيوخه، ولم يذكره الخطيب البغدادي.
(2)
البداية والنهاية 14/ 382.
(3)
السير 8/ 457.
(4)
المصدر السابق.
(5)
السير 9/ 565.
وكان الإمام أحمد حريصًا على عبد الرزاق؛ لأنه كان عنده حديث الزهري عن سالم عن أبيه، وحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. وكان الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه يذهبان إلى أن "الزهري عن سالم عن أبيه" أصح الأسانيد مطلقًا. فاستطاب الرحلة لذلك واهتز طربًا إلى نيل الأمنية:
وإذا كانت النفوس كبارًا
…
تعبت في مرادها الأجسام
وجاء عنه أنه قال: ما أهون المشقة فيما استفدنا من عبد الرزاق، كتبنا عنه حديث الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه، وحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة (1).
ورحل أحمد إلى الشام والجزيرة وأخذ عمن هناك من المحدثين والعلماء.
وبهذه الرحلات خاض لجة العلم، والتقط جواهر الحديث ولآلئه من قاموس بحره المحيط، وكان يدون كل ذلك ويحفظه في كتبه، ويحدث به بعد ذلك، وما حدث قط إلا من كتاب (2) إلا في حالات نادرة شاذة، وكانت هذه سنته وسنة رفيقيه يحيى بن معين وعلي بن المديني في ذلك، على الرغم من حافظته النادرة المجيبة.
مجمل شيوخ الإمام أحمد:
الشيخ في اصطلاح المحدثين خاصة هو: كل من رويتَ عنه ولو حديثًا واحدًا، فالمشيخة تثبت بالحديث الواحد، لذلك لا نعجب من كثرة شيوخ الأئمة والحفاظ، فإن بعضهم، كالبيهقي ينيف معجم شيوخه على الألف. لكن من الشيوخ من يعد ذا فضل كبير وتأثير خاص على تلميذه، لطول الصحبة والملازمة والإستكثار من الرواية.
وكذلك كان الشأن مع الإمام أحمد، فإن له عددًا من الشيوخ أحصي منهم في "المسند" أكثر من (280) شيخًا (3)، وقد جرد ابن الجوزي في "المناقب" أسماء شيوخه تفصيلًا، وسردهم المزي في "تهذيب الكمال" مرتبين على حروف المعجم.
(1) المناقب، ص 57.
(2)
المناقب ص 148، السير 11/ 200.
(3)
أفردهم الشيخ عامر صبري العراقي في كتاب اسمه "معجم شيوخ الإمام أحمد في المسند".
قال البيهقي بعد أن ذكر جماعه من شيوخ الإمام أحمد: وقد أكثر أحمد بن حنبل في "المسند" وغيره الروإية عن الشافعي ، وأخذ عنه جملة من كلامه في أنساب قريش وأخذ عنه من الفقه ما هو مشهور، وحين توفي أحمد وجدوا في تركته رسالتي الشافعي القديمة والجديدة (1).
وفي جملة هذا العدد الضخم هناك من أكثر عنهم، وعرفت الصحبة بينه وبينهم، وأثنوا عليه وأعجبوا به وربَما رووا عنه. وذلك كهشيم بن بشير الواسطي شيخه الأول ببغداد، ويزيد بن هارون وابن علية وعبد الرزاق ووكيع وحفص بن غياث وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان، وغيرهم. وهؤلاء كانوا أئمة حديث في الغالب.
وأما شيوخه في الفقه والأصول ويعض العلوم الأخرى، فأبرزهم الإمام الشافعي، كما سبق في كلام البيهقي ، وإذ كان الشافعي بهذه المثابة فإننا نقف وقفة بين الإمامين، ونسىجل ما كان بينهما من الفضل والعلم والإحترام المتبادل.
* * *
العلاقة بين الإمامين: الشافعي وأحمد:
مرَّ أن الإمام أحمد رأى الشافعي في مكة في حجته الأولى سنة 187 هـ، رآه وهو في سن الكهولة (37 سنة) وكان له هناك مجلس يفقه فيه ويعلم ويفتي، ويبدو أن الإمام أحمد لم يكن متفرغًا في ذلك الوقت لمجلس الشافعي لحرصه الشديد على جمع الحديث وتلقيه عن كبار أئمته، ولكنه بعدما قدم بغداد في القدمة الثانية جلس إليه ولازمه وأخذ عنه الكثير من الفقه والأصول والتفسير والأنساب وأشعار العرب وأيامهم التي رضعها الشافعي من المنهل الصافي بمكة واليمن.
وكان الشافعي قد دخل بغداد ثلاث مرات:
كانت الأولى سنة 184 هـ بسبب وشاية من بعض أهل اليمن اتهموه فيها بمعارضة
(1) البداية والنهاية 14/ 383.
الحكم العباسي، فأخذ من هناك مكبَّلًا وحوكم في بلاط الرشيد، فكانت محاكمته ومحاورته مع الرشيد سبب إعجابه به (1).
وكان الشافعي بعد أن خرج منتصرًا من تلك التهمة الملفقة، قد اتصل بفقهاء العراق، وروى مذهبهم عن محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله (ت 189 هـ) ثم عاد إلى مكة يفقه ويعلم.
وأما القدمة الثانية فكانت سنة 195 هـ واستمر سنتين هناك، وكانت هذه هي الفرصة الذهبية للإمام أحمد مع الشافعي، لأنه كان قد ألف كتبه، وأخذ يقرؤها على الناس. قال الحسن الزعفراني راوية مذهبه القديم:
"قدم علينا الشافعي بغداد سنة 195 هـ فأقام عندنا سنتين، أي إلى سنة 197 هـ ثم خرج إلى مكة، ثم قدم علينا سنة 198 هـ، فأقام عندنا أشهرًا، ثم خرج وكان يخضب بالحناء وكان خفيف العارضين ((2).
وقال ابن كثير:
"ثم عاد الشافعي إلى بغداد سنة 195 هـ فاجتمع به جماعة من العلماء هذه المرة منهم: أحمد بن حنبلْ، وأبو ثور، والحسين بن علي الكراييسي، والحارث بن سريج النقال، وأبو عبد الرحمن الشافعي، والزعفراني وغيرهم"(3).
وكانت القدمة الأخيرة عبارة عن بضعة أشهر في أواخر سنة 198 هـ ومنها تحول إلى مصر سنة 199 هـ حتى مات بها سنة 204 هـ رحمه الله.
وكان الشافعي قبل قدومه إلى العراق في المرة الثانية قد ذاع صيته، وأصبح الناس يثنون عليه ويتمنون لقاءه والإفادة من علمه وسارت بأخباره الركبان.
وكانت بغداد تعج بحلقات العلم، وقد غلب على تلك الحلقات أهل الرأي من الفقهاء، وأهل الإعتزال من المتكلمين، فجاء الشافعي ليرد الحق إلى نصابه، ويدافع عن
(1) البداية والنهاية 14/ 133 ومقدمة تحقيق "بيان خطأ من أخطأ على الشافعي" ص 18 للدكتور الشريف نايف الدعيس. ط. مؤسسة الرسالة.
(2)
مناقب الأئمة الأريعة، لإبن عبد الهادي المقدسي، ص 123 - 124، دار المؤيد، 1416 هـ.
(3)
البداية والنهاية 14/ 134.
السنة في الفقه، والسنة في العقيدة، وكان قد صنف في ذلك كتاب "الرسالة" و"جماع العلم" و "إبطال الإستحسان" وغير ذلك من الكتب.
قال الخطيب البغدادي:
قدم الشافعي بغداد، وكان في المسجد إما نيف وأريعون أو خمسون حلقة، فلما دخل بغداد ما زال يقعد في حلقة حلقة، ويقول لهم: قال الله، قال الرسول، وهم يقولون: قال أصحابنا، حتى ما بقي في المسجد أحد غيره (1).
وقال الزعفراني:
حج بشر المريسي سنةً إلى مكة، ثم قدم، فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلًا ما رأيت مثله سائلًا ولا مجيبًا، يعني الشافعي، قال: فقدم الشافعي علينا بعد ذلك بغداد، فاجتمع إليه الناس، وخَفُّوا عن بشر، فجئت إلى بشر يومًا فقلت: هذا الشافعي الذي كنت تزعم، قد قدم، فقال: إنه تغير عما كان عليه. قال الزعفراني: فما كان مثله إلا مثل اليهود في أمر عبد الله بن سلام حيث قالوا: سيدنا وابن سيدنا، فقال لهم: فإن أسلم؟ قالوا: شرنا وابن شرنا (2).
وبشر المريسي هذا هو الداعية إلى بدعة خلق القرآن في بغداد آنذاك. وكان الشافعي يشدد على المتكلمين لما رأى من بدعهم وقولهم في الله وصفاته بغير علم، ومما يوثر عنه في ذلك قوله: حكمي في أهل الكلام أن يضرلوا بالجريد ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر، ينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام (3).
أقبل أحمد على الشافعي يأخذ منه ما ليس عنده، فسمع منه "الموطأ" بعد أن كان سمعه من جماعة، وقال: إني رأيته فيه ثبتًا (4). وكان يدل إسحاق بن راهويه عليه ويحضه على مجلسه، فيقول له: تعال أذهب بك إلى رجل لم تر عيناك مثله، فذهب به إلى الشافعي.
(1) نقله ابن عبد الهادي في "مناقب الأئمة الأربعة" ص 124، والمزي في "تهذيب الكمال"(24/ 375).
(2)
المصدرين السابقين في مواضع مقارية.
(3)
السير 10/ 29.
(4)
بيان خطأ من أخطأ على الشافعي، للبيهقي، ص 99، والسير 10/ 59، ومناقب الأئمة الأربعة، ص 118.
وقال الزعفراني: ما دخلت على الشافعي قط إلا وأحمد كان قد سبقني إليه (1).
وهكذا تضلع أحمد من كتب الشافعي، وتلقى عنه مذهبه القديم الذي يعتبر في أغلبه مذهب مالك وأهل المدينة، لكن الشافعي رجع عن كثير من ذلك المذهب القديم إلى مذهبه الجديد الذي دونه في كتاب "الأم"، ورواه عنه الربيع بن سليمان المرادي وأصحابه المصريون.
فهذه الصحبة المباركة بين الشافعي وأحمد كانت ذات أثر عميق في الإنسجام والتقارب بين المذهبين في الأصول والفروع على السواء، وقد ألف في ذلك الشيخ يوسف ابن عبد الهادي المتوفى سنة 959 هـ كتابًا خاصًا سماه "قرة العين فيما حصل من الإتفاق والإختلاف بين المذهبين".
وقد ذكر سبب تأليفه لهذا الكتاب في "مناقب الإمام أحمد"، فقال:
ومن الناس من يقول: ليس بين مذهب أحمد ومذهب الشافعي خلاف إلا في مسائل قليلة نحو ست عشرة مسألة. وهذا قول بعض الأغبياء، إشارة منه إلى أنه لا حاجة إلى مذهب أحمد. فإذا حقق الإنسان النظر وجد مذهب أحمد مخالفًا لمذهب الشافعي في أكثر من عشرة آلاف مسألة، بل وأكثر من ذلك. هذا القاضي عز الدين صنف في المفردات المخالفة للمذاهب الثلاثة كتابه المشهور الذي فيه أكثر من ثلاثة آلاف مسألة. ولِمَ، وهي بالضرورة مخالفة لمذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة؟ ومفردات مخالفة الشافعي فقط لم يدركها. ومن قال ذلك، ينظر إلى الخلاف الضعيف، فإنه قلَّ مسألة إلا وفيها قول ضعيف في مذهب أحمد، ومذهب الشافعي؛ فيقول: هي موافقة. وهذا قول لا عبرة به. وقد وضعت كتاب "قرة العين فيما حصل من الإتفاق والإختلاف بين المذهبين"، وذكرت من ذلك مسائل كثيرة (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وموافقته أي أحمد للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما، وكان يثني عليهما، ويعظمهما، ويرجح أصول مذهبهما على من ليست أصول مذهبه كأصول مذهبهما.
ومذهبه: أن أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، والشافعي وإسحاق، هما عنده من أجل فقهاء الحديث في عصرهما، وجمع بينهما في مسجد الخيف فتناظرا في مسألة إجارة بيوت مكة (3).
(1) بيان خطأ من أخطأ على الشافعي، ص 101.
(2)
الفواكه العديدة في المسائل المفيدة، للشيخ أحمد المنقور، 1/ 52. ط. المكتب الإسلامي.
(3)
مجموع الفتاوى 34/ 113، نصب الراية 4/ 267.
واذ كان الشافعي ممتنًا على أحمد بالفقه والأصول وصناعة الحجج والأدلة على الأحكام، فإن أحمد هو الآخر ممتن على الشافعي بالكشف عن علل الأحاديث وأسانيدها وطرقها وما صح منها مما لم يصح. قال ابن كثير:
وقد قال الشافعي لما اجتمع به في الرحلة الثانية إلى بغداد بعد سنة 190 هـ، وعمر أحمد إذ ذاك نيف وثلاثون سنة، قال له: يا أبا عبد الله، إذا صح عندكم الحديث فاعلمني به، أذهب إليه حجازيًا كان أو شاميًا أو عراقيًا أو يمنيًا. وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيم لأحمد واجلال له، وإنه عنده بهذه المثابة إذا صحَّح أو ضعَّف يرجع إليه في ذلك (1).
وقال ابن أبي حاتم:
سمعت أبي يقول: كان أحمد بن حنبل بارع الفهم لمعرفة الحديث بصحيحه وسقيمه، وتعلم الشافعي أشياء من معرفة الحديث منه، وكان الشافعي يقول لأحمد: حديث كذا وكذا قوي الإسناد محفوظ؟ فإذا قال أحمد: نعم، جعله أصلًا وبنى عليه (2).
ومن أجل هذا كان الإمام الشافعي يزوره، فلما قيل له في ذلك أنشد:
قالوا يزورك أحمدٌ وتزوره
…
قلت المكارم لا تفارق منزلَهْ
إن زارني فبفضله أو زرتُهُ
…
فلفضله فالفضل في الحالين لَهْ (3)
وفي مرويات الشافعي عن أحمد لا يصرح باسمه، بل يقول: حدثني الثقة (4).
* * *
(1) البداية والنهاية 14/ 384، وذكر القصة ابن أبي يعلى في "الطبقات" (1/ 6) والذهبي في "السير" (11/ 213) بوجه آخر لم يذكر الحجاز ولا اليمن. وقال الذهبي: لم يحتج إلى أن يقول: حجازيًا، فإنه كان بصيرًا بحديث الحجاز، ولا قال: مصريًا فإن غيرهما كان أقعد بحديث مصر منهما.
(2)
تقدمة الجرح والتعديل ص 302.
(3)
النعت الأكمل ص 186.
(4)
ذكر ابن الجوزي في "المناقب"(ص 116) مثالين من ذلك رواهما بإسناده من طريق الخطيب البغدادي، وذكر الذهبي في "السير"(11/ 183) أحد المثالين نقلًا عن الخطيب في كتابه "السابق واللاحق".