الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا لا حجة فيه، لَما عَلمنا من أن الروايات عديدة في مذهب الإمام أحمد، حتى إننا لو اعتبرنا تلك الروايات مذهباً له على إطلاقها دون إعمال قواعد الترجيح والإعتماد والتمييز، إذاً لإستغرق مذهبه الخلافَ الموجودَ بين الصحابة والتابعين، ولم يبق من تفردات الإمام أحمد المطلقة عن بقية المذاهب إلا النادر الذي لا يلتفت إليه عادة.
ولا شك في أن شيخ الإسلام وليد المدرسة الحنبلية، وأنه من أتقن الناس معرفة بمذهب إمام السنة أصولاً وفروعاً، فهذا لا يجادل فيه أحد، ولا مجادلة في أن تفردات ابن تيمية عن المذهب الحنبلي قليلة. وكذلك عن المذاهب الأربعة هي أقل، ولكن ذلك لا يمنع من صحة ما ترجح، لأن الإنسان مهما اجتهد في الأزمنة المتأخرة، فإنه لابد أن ينتهي إلى ما يوافق أحد المذاهب الأربعة، ولو في قول مرجوح، أو في وجه من الوجوه، أو في إحدى الروايات التي لم يعتمدها المتأخرون. وذلك لا يعد مانعاً من أن يبلغ العالم من المتأخرين ما بلغه المتقدمون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
•
منهج ابن تيمية في الفتوى والإجتهاد:
ويسلك شيخ الإسلام في منهاجه العام في الإجتهاد والفتوى مسلك الإمام أحمد، وأصوله العامة، لأنها أصح الأصول في نظره، كما أنه يضيف إلى ذلك أصول أهل المدينة وعلى رأسهم إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، وهو يعتبر أصولهم راجحة على أصول غيرهم، وأنها تتشابه في الجملة مع أصول الإمام أحمد.
هذا ما يلحظ من خلال تفحص فتاويه ومباحثه المتعلقة بالمذاهب، فقد قال بصدد ترجيح أصول الإمام أحمد ما نصه:
"ومن كان خبيراً بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل، وإن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع، وأحمد كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا كما يوجد لغيره، ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه قول يوافق القول الأقوى، وأكثر مفاريده التي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحاً، كقوله بجواز فسخ الإفراد والقِران إلى التمتع، وقبوله شهادة أهل الذمة على المسلمين عند الحاجة
…
وأما ما يسميه بعض الناس مفردة لكونه انفرد بها
عن أبي حنيفة والشافعي، مع أن قول مالك فيها موافق لقول أحمد أو قريب منه .... فهذه غالبها يكون قول مالك وأحمد أرجح من القول الآخر، وما يترجح فيها القول الآخر يكون مما اختلف فيه قول أحمد، وهذا: كإبطال الحيل المسقطة للزكاة والشفعة، ونحو ذلك الحيل المبيحة للربا والفواحش ونحو ذلك، وكاعتبار المقاصد والنيات في العقود، والرجوع في الأيمان إلى سبب اليمين، وما هيجها مع نية الحالف، وكإقامة الحدود على أهل الجنايات، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يقيمونها، كما كانوا يقيمون الحد على الشارب بالرائحة والقيء ونحو ذلك، وكاعتبار العرف في الشروط، وجعل الشرط العرفي كالشرط اللفظي، والإكتفاء في العقود المطلقة بما يعرفه الناس، وإن ما عده الناس بيعا فهو بيع، وما عدوه إجارة فهو إجارة، وما عدوه هبة فهو هبة، وما عدوه وقفاً فهو وقف، لا يعتبر في ذلك لفظ معين، ومثل هذا كثير" (1).
فأنت تلمس من خلال هذا، أن شيخ الإسلام يفضل المذهبين ويقارب بينهما، لأنهما يعتمدان جميعاً في الأصول الإجتهادية ما يلي:
- الإعتداد بسد الذرائع وإبطال الحيل التي تؤدي إلى هدم مقاصد الشارع.
- الإعتبار للمعاني والمقاصد في العقود وعدم التركيز على الألفاظ المعبرة عنها.
- إعمال السياسة الشرعية في تنفيذ الحدود والزجر عن الجرائم.
- الإعتبار للعرف في الشروط وألفاظ العقود وغير ذلك مما لا يتناقض مع نصوص الشرع.
وقد حُفظ في فتاويه رحمه الله كلام مطول نحو مائة صفحة تحت عنوان: "صحة أصول أهل المدينة"(2).
وهذه بعض المقتطفات المهمة منه:
"مذهب أهل المدينة النيوية -دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة
…
- مذهبهم في زمن الصحابة والتابعين، وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقا وغرباً، في الأصول والفروع
…
وفي القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مذهب
(1) مجموع الفتاوى 20/ 228 - 230.
(2)
مجموع الفتاوى 20/ 294 - 396.
أهل المدينة أصح مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها
…
ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة
…
فأما الأعصار الثلاثة المفضلة، فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة ألبتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين، كما خرج من سائر الأمصار
…
وهذا باب يطول تتبعه، ولو استقصينا فضل علماء أهل المدينة وصحة أصولهم لطال الكلام. إذا تبين ذلك، فلا ريب عند أحد من أن مالكا رضي الله عنه أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه
…
وأما الحديث فأكثره نجد مالكا قد قال به في إحدى الروايتين، وإنما تركه طائفة من أصحابه، كمسألة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. وأهل المدينة رووا عن مالك الرفع، موافقاً للحديث الصحيح الذي رواه
…
إذ قلَّ من سنة إلا وله قول يوافقها، بخلاف كثير من مذهب أهل الكوفة، فإنهم كثيراً ما يخالفون السنة، وإن لم يتعمدوا ذلك.
ثم من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما". اهـ.
ثم ساق شيخ الإسلام في آخر البحث أمثلة كثيرة مما ذهب إليه أهل المدينة في العبادات والمعاملات والجنايات، وانتصر إليه بالحجة والدليل والنظر إلى مقاصد الشريعة وحكمة التكليف، وهو في ذلك كله ينظر بالمنظور الحنبلي، ويزن بميزانه، مما يدل في النهاية أن ابن تيمية رحمه الله جمع بين أصول الحنابلة وأصول أهل المدينة، وجعلها منهاجاً يسير عليه في الفتوى والإجتهاد والترجيح بين أقوال العلماء في الكليات والجزئيات.