الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
الحنابلة والسلطة السياسية
الموقف الذي نسجله للحنابلة -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- إزاء السلطة السياسية ينقسم بطبيعة الحال إلى موقف نظري مبني على فقه المسألة السياسية، وتقويمها من الوجهة الشرعية، وإلى موقف عملي يتمثل بممارسة الحنابلة الميدانية لما يفقهون في هذا الموضوع، وإعطائه الجانب العملي في خصوص الصلة بينهم وبين الخلفاء.
ثم إن كلا القسمين النظري والعملي يتوزعان في البحث على الإمام أحمد باعتباره إمام المذهب وراسم معالم طريقه، ثم على فقهاء المذهب على مختلف العصور. وسننتقي منهم جماعة كان لهم الأثر الواضح في بلورة الموقف العام من السلطة السياسية والتعامل معها.
• آراء الإمام أحمد في السياسة:
يذهب الإمام أحمد إلى ما اقتضته السنة المأثورة عنده في مناصحة الأئمة والإلتفاف حولهم، وعدم نزع يدٍ من طاعتهم، والصبر على ما كان منهم، وعدم جواز الخروج عليهم بالسيف
…
إلى غير ذلك من الأحكلام التي آثر علماء السنة أن يلحقوها بمباحث التوحيد ومصنفات العقيدة.
ويحسن بنا أن نترجم رأي الإمام المبجل من لسانه وقلمه في هذا الموضوع، فقد وصل إلينا مبثوثاً في كثير من أجويته وكلامه المسموع، بالإضافة إلى كلامه المكتوب، ومن جملة ذلك المكتوب، ما أودعه في بعض الرسائل التي كتب بها إلى أصحابه، فقد جاء في رسالته إلى عبدوس بن مالك العطار حظٌّ وافر من الآراء السياسية، وإليك نصها:
"
…
والسمع والطاعة للأئمة، وأمير المؤمنين: البر والفاجر، ممن ولي الخلافة، واجتمع الناس عليه، ورضوا به، ومن خرج عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمي
أمير المؤمنين. والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة، البر والفاجر، لا يترك. وقسمة الفيء، وإقامة الحدود إلى الأئمة ماضٍ، ليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة؛ ومن دفعها إليهم أجزأت عنه، براً كان أو فاجراً.
وصلاة الجمعة خلفه، وخلف من وَلَّى جائزة تامة ركعتان، ومن أعادها فهو مبتدع تارك للآثار، مخالف للسنة، ليس له من فضل جمعته شيء إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا، برهم وفاجرهم. فالسنة أن يصلي معهم ركعتين، ويدين بأنها تامة، لا يكنْ في صدرك من ذلك شك.
ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين -وقد كان الناس اجتمعوا عليه، وأقروا له بالخلافة، بأي وجه كان بالرضا والغلبة- فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية.
ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق" (1).
ونلاحظ كيف يبني أحمد الإمام رأيه في الموضوعات السياسية، على الآثار والاتباع للسنة والسلف، وذلك واضح في قوله: "
…
فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة
…
"
وقوله: "
…
فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
".
ويقول الشيخ أبو زهرة في هذا الصدد:
ولقد كان مسلك أحمد في دراسته لبعض النواحي المتصلة بالسياسة رجلاً يتبع الأثر، ولا يتجانف عن مسلكه، وكان بالنسبة لآرائه في الصحابة، يتبع المنقول، وما كان عليه الكثرة من الصحاية والتابعين، رضي الله عنهم أجمعين، فهو في هذا أثري، كشأنه في كل ما كان يتجه إليه من دراسات.
وفي شأن الخلافة والخليفة، وممن يختار، وكيف يختار، كان رجلاً واقعياً يتجنب الفتن، ويجتهد في أن يكون شمل المسلمين ملتئماً، ويؤثر الطاعة لإمام متغلب، ولو كان ظالماً، على الخروج على الجماعة (2).
(1) الطبقات 1/ 244.
(2)
ابن حنبل ص 166.
ومن هنا يتضح لنا أن الإمام أحمد لا يتوقف في كون علي عليه رضوان الله رابع الخلفاء الراشدين المهديين، عملاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء"(1).
فإنه يتناول فترة خلافة علي رضي الله عنه، فلا حجة لمن توقف في ذلك معللاً بافتراق الناس عليه (2).
وكذلك يعتبر الخلافة الأموية صحيحة شرعاً، وكذلك الخلافة العباسية.
فقد ثبتت بطريق الغلبة والقهر في بدايتها، ثم توالى الخلفاء عليها بطريق ولاية العهد من السابق للاحق. وانعقاد الإمامة بطريق الغلبة والقهر، مقرر بالإجماع.
فهذه آراء الإمام أحمد السياسية في الجملة، أو بالأحرى فقه السلطة السياسية، فما هو موقفه الواقعي من السلطة التي كان تحت إمرتها؟
• موقف الإمام أحمد من الخلفاء العباسيين:
عاش الإمام أحمد في خلافة سبعة خلفاء من البيت العباسي، وهم على الترتيب: الهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل. لكنه في فترة الثلاثة الأُول كان صغيراً، ثم شغل بطلب العلم والرحلة فيه، فلم يعش حياته السياسية وتجربته مع الخلفاء إلا مع الأربعة الأخر، فما موقفه منهم؟
كان الإمام أحمد متمسكاً بمبدئه العلمي تجاه العباسيين، في السمع والطاعة، والتزام الجماعة، يؤدي الذي عليه، ويسأل الله الذي له، كما هو اعتقاد سائر علماء أهل السنة والجماعة.
وعلى الرغم من أنه ابتلي بتلك المحنة العظيمة -محنة القول بخلق القرآن- على يدي المأمون، فالمعتصم، فالواثق، إلا أنه لم يخرج عليهم بالسيف، ولا أذن لأحد بذلك. فكان بلا ريب ملتزماً بتلك النصائح التي كتب بها إلى عبدوس بن مالك العطار، والتي تترجم فقه المسألة تماماً.
ومما يدل على صدق ما نقوله ما رواه المؤرخون في موقفه من الواثق لما أمعن في القول بخلق القرآن والدعوة إليه، واجتمع إلى أحمد فقهاء بغداد ليروا رأيه فيما يجب أن يفعل:
(1) أخرجه أبو داود وغيره عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
مجموع الفتاوى 35/ 18 - 19.
قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله، وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم، وفشا -يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك- ولا نرضى بإمرته، ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم، ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح برٌّ، أو يُستراح من فاجر. وقال: ليس هذا بصواب، هذا خلاف الآثار (1).
فأنت ترى كيف يرجح الإمام أحمد مصلحة الطاعة والجماعة، وحقن دماء المسلمين على مصلحة المواجهة والخروج والثورة على الخليفة. وأن هذا الموقف إنما هو الإلتزام بالوصية النبوية الغالية، والوقوف عند حدود ما دلت عليه الآثار، وما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمناصحة للخلفاء ولغيرهم، على الوجه المشروع، وما يدخل في ذلك من تبليغ رسالة الله إليهم، وأنه لا يترك ذلك جبناً، ولا بخلاً، ولا خشية لهم، ولا اشتراء للثمن القليل بآيات الله، ولا يفعل ذلك أيضاً للرئاسة عليهم، ولا على العامة، ولا للحسد، ولا للكبر، ولا للرياء لهم، ولا للعامة. ولا يُزال المنكر بما هو أنكر منه، بحيث يخرج عليهم بالسلاح، وتظهر الفتن، كما هو معروف من أصول أهل السنة والجماعة، وكما دلت عليه النصوص النبوية، لما في ذلك من الفساد الذي يربي على فساد ما يكون من ظلمهم، بل يطاع الله فيهم، وفي غيرهم، ويفعل ما أمر به، ويترك ما نهى عنه (2).
وإذا كان هذا موقف أحمد من الواثق الذي كان أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً (3)، فكيف يكون من المأمون والمعتصم اللذَّيْن كانا أهون، لولا أنهما فتحا باب الفتنة، وبدأا بالمحنة؟ قال القاضي أبو يعلى: وقد روي عنه -أي الإمام أحمد- في كتاب "المحنة" أنه كان يدعو المعتصم بأمير المؤمنين، في غير موضع، وقد دعاه إلى القول بخلق القرآن، وضربه عليه، وكذلك قد كان يدعو المتوكل بأمير المؤمين، ولم يكن من أهل العلم، ولا كان أفضل وقته وزمانه (4).
(1) الآداب الشرعية، لإبن مفلح، 1/ 196. والسير 11/ 263.
(2)
مجموع الفتاوي 35/ 21.
(3)
البداية والنهاية 14/ 311.
(4)
الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى، ص 20، ط. الكتب العلمية، 1983.
• مواقف فقهاء الحنابلة من السلطة السياسية:
سجل فقهاء الحنابلة مواقفهم من السلطة السياسية علمياً وعمليّاً من بعد الإمام أحمد، ولا ريب أنهم كانوا يقتبسون من مشكاته.
فأما الناحية العلمية، فهي التي نطالعها في مرآة الفقه الحنبلي تحت مباحث "الأحكام السلطانية" و"السياسة الشرعية" و"الخلافة والملك" و"أحكام الإمامة"، وغير ذلك من العناوين التي تدل على هذا الموضوع.
وأما الناحية العملية، فإننا نقرؤها في السير الذاتية لعلماء الحنابلة، وما سُجل لهم من الصلة بالخلفاء، وتولي بعض المناصب في الدولة، كالوزارة والسفارة، والقضاء، وغير ذلك.
• الموقف العلمي:
لا يكاد يفترق موقف الحنابلة عن موقف الإمام أحمد تجاه الإمامة، في كيفية انعقادها، ومن يتولاها، ووجوب الطاعة في غير معصية، والمناصحة في غير فتنة، وتحريم الخروج بالسيف، وهذا موقف أهل السنة والجماعة الذين يعتبر الحنابلة في مقدمتهم وعلى رأسهم.
وقد أدّى القاضي أبو يعلى رحمه الله، فرض الكفاية بجمع شتات أحكام الإمامة في كتابه "الأحكام السلطانية".
قال في مقدمته (1):
أما بعد، فإني كنت صنفت كتاب "الإمامة"، وذكرته في أثناء كتاب "المعتمد"، وشرحت فيه مذاهب المتكلمين وحجاجهم، وأدلتنا، والأجوبة عما ذكروه. وقد رأيت أن أفرد كتابا في الإمامة، أحذف فيه ما ذكرت هناك من الخلاف والدلائل، وأزيد فيه فصولاً أُخر، تتعلق بما يجوز للإمام فعله من الولايات وغيرها، وأسال الله الكريم العون على ذلك، والنفع به إن شاء الله. اهـ.
ومن خلال كتاب الفرّاء يمكننا أن نطلع على جملة صالحة من كتاب "الإمامة" للخلال، الذي يعتبر مصدراً رئيساً من مصادر "الأحكام السلطانية".
(1) ص 19.
كما أن شيخ الإسلام ابن تيمية جلى السياسة الشرعية، والأحكام السلطانية في مباحث رائعة بثها في مصنفاته ورسائله وفتاويه، وقد جمع الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، من فتاوي شيخ الإسلام قسماً كبيراً رسمه بعنوان "الخلافة والملك وقتال أهل البغي"(1).
ويقسم ابن تيمية الحكام إلى قسمين: خلفاء النبوة، وملوك. ويستدل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الخلافة بعدي ثلاثون، ثم تصير ملكاً عضوضاً". والأولون، وهم خلفاء النبوة هم الذين استوفوا شروط الخلافة، وأن ذلك لم يتحقق إلا في الخلفاء الراشدين، ثم تحولت الخلافة من بعدهم إلى ملك، على أن ذلك لا يقدح في شرعيتهم، وجواز تسميتهم "خلفاء" وإن كانوا ملوكاً، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء. واستدل على ذلك بحديث الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، كما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فُوا ببيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم". فقوله: "تكثر" دليل على من سوى الراشدين، فإنهم لم يكونوا كثيراً (2).
ويقرر رحمه الله أيضاً: أن الميزان المحكم في تقويم أعمال الناس -ومنهم الملوك- إنما هو الموازنة بين مجموع حسناتهم ومجموع سيئاتهم، فمن ترجحت حسناته على سيئاته كان مقبولاً مرضياً.
ولما كانت مصالح الملك وحسنات الإمامة والخلافة لا تتحقق في الغالب إلا ببعض المفاسد والسيئات، كان لابد من عدم الإلتفات إلى تلك المفاسد والسيئات المرجوحة في جانب المصالح والحسنات (3)، فهناك من الخلفاء من لا تطيعه نفسه إلى القيام بمصالح الإمارة من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وأمن السبل، وجهاد العدو، وقسمة المال، إلا بحظوظ منهي عنها، من الإستئثار ببعض المال، والرياسة على الناس، والمحاباة في القسم، وغير ذلك من الشهوات
…
فهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر
(1) وهو يتصدر محتوى المجلد 35 من مجموع الفتاوى، وقد طبع طبعة مستقلة.
(2)
مجموع الفتاوى 35/ 20، وابن تيمية، لأبي زهرة، ص 345، دار الفكر العربي.
(3)
مجموع الفتاوى 35/ 30 - 31.
سيئاً، وحكم الشريعة: أنهم لايؤذن لهم فيما فعلوه من السيئات، ولا يؤمرون به، ولا يجعل حظ أنفسهم عذراً لهم في فعلهم، إذا لم تكن الشريعة عذرتهم، لكن يؤمرون بما فعلوه من الحسنات، ويحضون على ذلك، ويرغبون فيه، وإن علم أنهم لا يفعلونه إلا بالسيئات المرجوحة، كما يؤمر الأمراء بالجهاد، وإن علم أنهم لا يجاهدون إلا بنوع من الظلم، الذي تقل مفسدته بالنسبة إلى مصلحة الجهاد (1).
• الموقف العملي:
والموقف العملي من السلطة السياسية القائمة يوضحه جماعة من كبار علماء الحنابلة الذين كانت لهم أصداء وأيام مشهورة في الحياة الإجتماعية والسياسية الواسعة، فضلاً عن جهودهم ومآثرهم الجليلة في إثراء الفقه، وبلورة أصوله وسائر العلوم الشرعية الأخرى.
ومن أولئك الكبار:
القاضي أبو يعلى:
فقد كان رحمه الله ورعاً نزيها عفيفاً زاهداً، لا ترنو عينه إلى ما عند الخلفاء والأمراء من أعراض الدنيا الزائلة، بل لا يشغل نفسه أصلاً بذلك، ولا يفكر فيه.
وهذا يظهر جليا في شروطه على الخليفة القائم بأمر الله، عندما عرض عليه القضاء، فقد نفّذ ما اشترطه فعلاً، وكان يكره الأمراء الظَّلَمة ويقاطعهم، ويأمر تلامذته بمقاطعتهم (1).
وعلى الرغم من أنه كان قد استُقضي لدى الخليفة القائم بأمر الله في الدماء والفروج والأموال بحريم دار الخلافة، إلا أن ذلك لم يؤثر عليه في علمه ورأيه ومواقفه، فلم يكن بالذي يقف في صف العباسيين في النقمة على الأمويين الذين كانت لا تزال لهم بقية في الأندلس في ذلك الوقت، خصوصاً وأن الدولة العباسية في ذلك الوقت كانت في يد الأمراء البويهيين الذين كانوا يميلون إلى الشيعة والرافضة.
ومما يؤيد هذا في القاضي أبي يعلى، أنه قد صنف كتابا سماه "تبرئة معاوية" دافع فيه عن معاوية رضي الله عنه، ورد الشبهات والإفتراءات التي وجهها خصومه إليه، ويعضهم
(1) القاضي أبو يعلى وكتابه الأحكام السلطانية، للدكتور عبد القادر أبو فارس، ص 319.
كان من بني العباس. فدل ذلك على أنه كان جريئاً إذ صنف هذا الكتاب في قلب العاصمة العباسية، وإن تصنيفه هذا لدليل على أنه عاش مستقلاً في تفكيره، عزيزاً في نفسه، رافعاً هامته، لا يخاف في الله لومة لائم.
ومنهم:
أبو الوفاء ابن عقيل:
فقد سجل مواقف سياسية رائعة، وهو تلميذ القاضي أبي يعلى.
فقد كان ابن عقيل عظيم المكانة عند الخلفاء والملوك، وكان جريئاً في الإنكار بلسانه وقلمه لما يراه من المنكرات التي يقع فيها الأمراء فضلا عن العامة. فقد كتب رسالة بعث بها إلى الوزير عميد الدولة ابن جهير، وكانت شديدة اللهجة، لما ظهرت المنكرات في بناء سور بغداد على يديه (1).
وكتب رسالة أخرى إلى السلطان جلال الدولة "ملكشاه" ينقذه من براثن الباطنية، الذين أفسدوا عقيدته، ودعوه إلى إنكار الصانع، وجاء في مقدمة تلك الرسالة:
أيها الملك، اعلم أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس، فإذا فقدوه جحدوه، وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة، وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس، ولم يجحدها العقل، ولا يمكننا جحدها، لقيام دلالة العقل على إثباتها (2).
ومع هذا لم ينزع يداً من طاعة، ولا خرج عن الجماعة، وكانت له قيمة كبيرة عند الخلفاء، فقد تولى غسل الخليفة المستظهر بالله، ولما تولى المسترشد بالله بايعه ابن عقيل على شرطه الخاص، وقد قال في ذلك:
ولما تولى المسترشد تلقاني ثلاثة من المستخدمين، يقول كل واحد منهم: قد طلبك مولانا أمير المؤمنين ثلاث مرات، فلما صرتُ بالحضرة، وقال لي قاضي القضاة -وهو قائم بين يديه- طلبك مولانا أمير المؤمنين ثلاث مرات، فقلت: ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ثم مددت يدي، فبسط لي يده الشريفة،
(1)"ذيل طبقات الحنابلة" 1/ 147.
(2)
المصدر السابق 1/ 148.
فصافحته بعد السلام، وبايعت، فقلت: أبايع سيدنا ومولانا أمير المؤمنين المسترشد بالله على كتاب الله وسنة رسوله، وسنة الخلفاء الراشدين، ما أطاق واستطاع، وعلى الطاعة مني (1).
ومنهم:
شيخ الإسلام ابن تيمية:
فقد عاش حالة سياسية جد حرجة، عاشتها أمتنا الإسلامية في تلك الأيام، فقد انقسم المسلمون إلى دويلات وحوزات ملوك ينظر بعضهم إلى بعض نظر العدو المفترس، ثم جاءت هجمة التتار الساحقة فكسرت الشوكة واستباحت البيضة وعاثت فساداً في بغداد، ثم الشام، وإن خير وصف لتلك الحال القاتمة ما ذكره ابن الأثير في أول غارات التتار، إذ قال:
لقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم، منها هؤلاء التتر، فمنهم من أقبلوا من المشرق، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، ومنها خروج الفرنج -لعنهم الله- من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وامتلاكهم ثغرها، أي دمياط، وأشرفت ديار مصر وغيرها على أن يملكوا لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم، ومنها أن السيف بينهم مسلول والفتنة قائمة (2).
هذا كلام ابن الأثير، الذي كان يؤرخ لتلك الأيام العصيبة عن مشاهدة ومعاينة ومعاصرة، فالإسلام قد هوجم من ثلاث جهات: من شرقه بالتتار، ومن غربه بالصليبين، ومن داخله بالعداوة المستحكمة بين الأمراء والفرق، وموالاة أهل الذمة للأعداء أياً كان لونهم (3).
وقد ذكرنا فيما مضى أن أسرة الشيخ رحمه الله قد انتقلت من حرَّان مهاجرة إلى دمشق بسبب غارة التتار على بلادهم.
وإننا لنجد لشيخ الإسلام مواقف جليلة مع أمراء عصره وبلده، ومع التتار المحتلين
(1) المصدر السابق 1/ 151.
(2)
الكامل في التاريخ: حوادث سنة 617 هـ. وانظر ابن كثير 13/ 89.
(3)
البداية والنهاية 13/ 200 - 202، 219.
الغاشمين على السواء. وكانت تلك المواقف قد أثمرتها شجاعته النادرة، وجرأته في الحق التي امتحن بسببها عدة مرات في الشام ومصر، وفَوقَّت إليه سهام النقد من أعدائه وخصومه، كما قال الشاعر (1):
حَسَدوا الفتى إذ لم ينالوا سَعْيَه
…
فالقومُ أعداءٌ له وخصومُ
كضرائرِ الحسناءِ قُلْنَ لوجهِهَا
…
حسداً وبَغْياً إنه لدَميمُ
فمن مواقفه مع بعض حكام عصره:
أنه بلغه في سنة 693 هـ أن نصرانياً سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وآوى إلى أحد العلويين، فحماه من غضب العامة، فثارت حمية الشيخ وغيرته على سيد الخلق، فاصطحب معه شيخ دار الحديث، وذهب إلى نائب السلطنة بدمشق (2)، فكلماه في ذلك، فأرسل إلى النصراني، فحضر ومعه بدوي، فأغلظ القول للعامة المتجمعين، فحصبوهما بالحجارة، فأوذي الشيخ وصاحبه من قبل النائب بدعوى التحريض على ذلك.
وانتهت القصة بإسلام ذلك النصراني، واعتذر نائب السلطنة من الشيخين، وبهذه المناسبة ألف الشيخ كتابه المشهور "الصارم المسلول على ساب الرسول"(3).
فهذه القصة تدل على أن الشيخ لم يكن قابعاً في زوايا التدريس والتعليم، غافلاً عن شؤون المجتمع، بل كان حارساً للرأي العام الإسلامي، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ملتزماً في ذلك ضوابط الشرع وحدوده من تبليغ أولي الأمر ما يحدث في سلطتهم مما هو من مسؤولياتهم، ولا يخشى في ذلك لومة لائم.
ولما غزا التتار الشام سنة 699 وهزموا عساكر الناصر بن قلاوون، وشتتوهم شذَر مذَر، بعد أن أبلى الجميع بلاء حسناً، فولى جند مصر والشام الأدبار، واجتازوا دمشق إلى مصر لائذين بالفرار، ومعهم أعيان العلماء والقضاة والوجهاء، حتى صار البلد شاغراً من الحكام والكبار (4).
(1) هو أبو الأسود الدّؤلي، والبيتان من قصيدة له متوسطة، وهي في ديوانه: 129 - 132 والخزانة 3/ 617. والبيان 3/ 259.
(2)
وهو الأمير عز الدين أيبك الحموي.
(3)
البداية والنهاية 13/ 335.
(4)
البداية والنهاية 14/ 6 - 7.
لما استولت تلك الحالة المأساوية الذاعرة على الشام جمع ابن تيمية جماعة من الأعيان، واتفق معهم على ضبط الأمور، وأن يذهب على رأس وفد منهم يخاطبون قائد التتار (قازان) في الإمتناع عن دخول دمشق. قال ابن كثير: وكلمه الشيخ تقي الدين كلاماً قوياً شديداً، فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين، ولله الحمد (1).
ويروي لنا بعض أصحابه صورة من ذلك اللقاء، فيقول:
كنت حاضراً مع الشيخ، فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل، ويرفع صوته، ويقرب منه
…
والسلطان مع ذلك مقبل عليه، مصغ لا يقول، شاخص إليه، لا يعرض عنه، وإن السلطان من شدة ما أوقع الله في قلبه من الهيبة والمحبة سأل: من هذا الشيخ؟ إني لم أر مثله، ولا أَثبَتَ قلباً منه، ولا أَوْقَع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقياداً لأحد منه، فأُخبر بحاله، وما هو عليه من العلم والعمل (2).
وكان لذلك اللقاء أثره في دمشق إلى حين، وأمن الناس على أنفسهم وأموالهم، إلا أن الأمور تغيرت بعد ذلك بسبب همجية التتار وإيغالهم في الفساد والتخريب، ففعلوا في دمشق الأفاعيل المنكرة الشهيرة (3)، مما أثار غيرة ابن تيمية على الإسلام وأهله، فصار يحث على القتال قولاً وفعلاً، وأصدر بذلك عدة فتاوى مطولة في شأن التتار، والحكم فيهم، بعد أن علم من حالهم الداخلية أنهم ينتسبون إلى الإسلام بالإسم فقط (4).
وقد استمرت جهود ابن تيمية في تلك الأيام قوية، لأن العامة رأوا فيه ناصرهم، وولاة الأمور رأوا فيه قوة لهم، وقد استمر على درسه يلقيه، ولم يكن طالب منصب يبتغيه (5)، بل استمر مبتعداً عن المناصب، ولكن كان يؤخذ رأيه في تولية المناصب العلمية آنذاك، فإنه لما توفي ابن دقيق العيد سنة 702 هـ، وكان شيخاً لدار الحديث، أشار ابن تيمية بتعيين الشيخ كمال الدين الشريشي في محله، كما أشار بتعيين من اختارهم للخطابة ولرياسة المدارس المختلفة (6).
(1) البداية والنهاية 14/ 7.
(2)
ابن تيمبة لأبي زهرة، ص 37، نقلاً عن "القول الجلي".
(3)
البداية والنهاية 14/ 8 - 9. ط. دار هجر.
(4)
مجموع الفتاوي 28/ 501، 509، 589.
(5)
قال ابن رجب في الطبقات (2/ 390): عُرض عليه قضاء القضاة قبل التسعين ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل شيئاً من ذلك.
(6)
البداية والنهاية 14/ 28.
فكان في الجملة -كما وصفه ابن رجب - قد أعلى اللهُ منارَهُ، وجَبَل قلوب الملوك والأمراء على الإنقياد له غالباً، وعلى طاعته، وأحيا به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتار والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأبّ النفاق، وأبدى صفحته (1).
* * *
(1) ذيل الطبقات 2/ 390.