الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعروف بابن البخاري، -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، قال: سمعتُ جميع هذا "المسند" على حنبل المذكور، وهو آخرُ من روي عنه في الدنيا.
وقال العلامة المحدث محمد بن جابر الوادي آشي الأصل، التونسي مولداً وإقامة، المتوفى سنة (749 هـ)، في "برنامجه" (1): ناوَلَني "مسند الإمام أحمد" الشيخ جمال الدين أبو يعقوب يوسف المِزّي بدمشق، وكان في أربعة وعشرين سفراً، وأجازنيه، وحدثني به بحق سماعه لجميعه على أبي الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم بن علّان القيسي، ويجميعه إلا مسند بني هاشم على أبي العباس أحمد بن شيبان بن تغلب، بسماعهما من حنبل بن عبد الله الرصافي، عن أبي القاسم هبة الله بن محمد بن الحُصين، عن أبي علي ابن المذهب، عن أبي بكر القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، مع ما فيه من زيادات عبد الله عن شيوخه.
وقد ذكر الوادي آشي (2) أن صفي الدين محمود بن أبي بكر بن محمود الأُرْمَوي القرافي المتوفى سنة (723 هـ) قرأ "المسند" على المسلَّم بن علان.
وذكر أيضاً أن الإمام المحدِّث البارع المتقن شهاب الدين أحمد بن فرْح بن محمد الإشبيلي الأندلسي الشافعي المتوفى سنة (699 هـ) سمع "المسند" على شرف الدين عبد العريز بن محمد الأنصاري، بسماعه من عبد الله بن أحمد بن أبي المجد الحربي، بسماعه من ابن الحُصين.
•
منزلة المسند بين كتب الحديث:
كان الإمام أحمد يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا "المسند" فإنه سيكون للناس إماماً (3).
وقال الحافظ أبو موسى المديني (581 هـ): وهذا الكتاب أصل كبير ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتقي من حديث كثير ومسموعات وافرة، فجعله إماماً ومعتمداً، وعند التنازع ملجأً ومستنداً (4).
(1) ص:200 - 201.
(2)
في "برنامجه": ص 88.
(3)
السير 11/ 327
(4)
خصائص المسند ص: 5.
إن "مسند الإمام أحمد" هو أجلّ كتاب في الحديث في عصر المؤلف وما بعده، وهو المورد الثجاج لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه من الأسانيد والمتون شيء كثير مما يوازي كثيراً من أحاديث مسلم، بل البخاري، وليست عندهما ولا عند أحدهما، بل لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الأربعة.
وقد شهد لهذا "المسند" المحدثون في القديم والحديث بأنه أجمع كتب السنة للحديث، وأوعاها لكل ما يحتاج إليه المسلم في زاده ومعاده، فهو كتاب لا تزال بركاته شاملة، يقدره من يعرف قدر السنة النبوية الفاضلة، ولا يزال هذا العمل مشكوراً للإمام أحمد، فجزاه الله خير الجزاء.
وهو الكتاب النفيس الذي يُرغب في سماعه وتحصيله، وكان يرحل إليه، إذ كان مصنفه الإمام -المقدم- في معرفة هذا الشأن، والمعترف بفضله عند الفرق في سائر الأزمان.
ومع جلالة قدر كتاب "المسند" وحسن موقعه عند ذوي الألباب، فالوقوف على المقصود منه متعسر، والظفر بالمطلوب منه بغير تعب متعذر، لأنه غير مرتب على أبواب السنن، ولا مهذب على حروف المعجم لتقريب السنن، وإنما هو مجموع على مسانيد الرواة من الرجال والنساء، لا يسلم من طلب منه حديثاً من نوع من الملال والعناء (1).
وفي هذا المضمار يقول الشيخ عبد القادر بن بدران: واعلم أيها الطالب للحق أن البحر الزاخر في هذا الموضوع، والمورد العذب، والوابل الصَّيِّب، إنما هو مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، وإنما منع من الإشتغال به اشتغالاً كالإشتغال بالسنن أمور:
أحدها: كونه مرتباً على أحاديث الصحابة، وهذا الترتيب أصبح غير مألوف عند المتوسطين والمتأخرين، فصار بحيث لو أراد محدث أن يجمع أحاديث باب منه احتاج إلى مطالعته من أوله إلى آخره، وهذا أمر عسير جداً. ثانيها: عزة وجوده لطوله؛ فإنه قد ضمّ ثلاثين ألف حديث، وزاد عليه ولده الإمام عبد الله عشرة آلاف حديث، فصار أربعين ألفاً. ثالثها: أن عزة وجوده كانت سبباً لعدم خدمته كما خُدمت السنن وغيرها من كتب الحديث (2).
(1) من مقدمة ابن عساكر في كتابه "ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج حديثهم أحمد بن حنبل في المسند" ص 29 وما بعدها.
(2)
المدخل ص: 471 - 472. باختصار.
فالمسند من جهة كونه يتجه إلى جمع أحاديث الصحابة واحداً واحداً، ومحاولة حصر مروياتهم، كان بعيداً عن اهتمام كثير من الناس الذين لم يكن يعنيهم هذا المقصود بقدر ما كان يعنيهم معرفة الأحاديث المحتج بها في المسائل الفقهية والموضوعات الشرعية، والتي كانت طريقها ممهدة وسبيلها ميسرة في كتب الصحاح والسنن. قال الحافظ ابن حجر: .... فإن النفوس تركن إلى من أخرج له بعض الأئمة الستة أكثر من غيرهم لجلالتهم في النفوس، وشهرتهم، ولأن أصل وضع التصنيف للحديث على الأبواب أن يقتصر فيه على ما يصلح للإحتجاج أو الإستشهاد، بخلاف من رتب على المسانيد فإن أصل وضعه مطلق الجمع (1). اهـ
وإذا نظرنا إلى "المسند" من جهة كونه مستوعباً للسنة إلا قليلاً (2)، فإن ذلك يعطي هذا الكتاب الجليل قيمة متفردة، ويبوئه مكانة متميزة، فإنه يكاد يستوعب جملة ما في الكتب الستة من أحاديث إلى جانب ما تفرد به من زيادات أخرى، حتى إن بعض العلماء كان يستغني بحفظ "المسند" عن حفظ الكتب الستة، فقد قال ابن الجزري: حدثني شيخنا اللإمام العالم شيخ الفقهاء شمس الدين محمد بن عبد الرحمن الخطيب الشافعي، -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، قال: سئل الشيخ الإمام الحافظ أبو الحسين علي بن الشيخ اللإمام الحافظ الفقيه محمد اليونيني -رَحِمَهُمَا اللهُ-: أنت تحفظ الكتب الستة؟ فقال: أحفظها وما أحفظها، فقيل له: كيف هذا؟ فقال: أنا أحفظ "مسند أحمد" وما يفوت "المسند" من الكتب الستة إلا قليل، أو قال: وما في الكتب هو في "المسند" يعني إلا قليل، وأصله في المسند، فأنا أحفظها بهذا الوجه. أو كما قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- (3).
(1) مقدمة تحقيق "أطراف المسند" ص 52: نقلاً عن "تعجيل المنفعة" ص: 2 - 3.
(2)
قال الحافظ الذهبي: فإنه محتوٍ على أكثر الحديث النبوي، وقلّ أن يثبت حديث إلا وهو فيه. اهـ. المصعد الأحمد ص 23.
(3)
المصعد الأحمد ص: 16.
• درجة أحاديث المسند:
قال الخطيب البغدادي: ومما يتلو الصحيحين سنن أبي داود السجستاني وأبي عبد الرحمن النسوي، وأبي عيسى الترمذي، وكتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الذي شرط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده بنقل العدل عن العدل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم كتب المسانيد الكبار مثل مسند أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأبي يعقوب إسحاق ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه، وأبي بكر وأبي الحسن عثمان ابني محمد بن أبي شيبة وأبي خيثمة زهير بن حرب النسائي، وعبد بن حميد، وأحمد بن سنان الواسطي (1).
فكتب المسانيد بعامة -ومنها مسند الإمام أحمد- تقع في المرتبة الثالثة بعد الصحيحين والسنن الأربعة، وذلك لأنها لم تلتزم الإنتقاء والإخراج للأحاديث التي يحتج بها في الأحكام، لأن المقصود من وضعها مطلق الجمع لمرويات كل صحابيٍّ صحابيٍّ.
قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح: "كتب المسانيد غير ملتحقة بالكتب الخمسة (2)، التي هي: الصحيحان وسنن أبي داود وسنن النسائي وجامع الترمذي، وما جرى مجراها في الإحتجاج بها والركون إلى ما يورَدُ فيها مطلقاً، كمسند أبي داود الطيالسي، ومسند عبيد الله بن موسى، ومسند أحمد، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند عبد بن حميد، ومسند الدارمي، ومسند أبي يعلى الموصلي، ومسند الحسن بن سفيان، ومسند البزار، وأشباهها.
فهذه عادتهم فيها أن يخرجوا في مسند كلّ صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن يكون حديثاً محتجاً به" (3).
وقال الحافظ ابن حجر معقباً على كلام ابن الصلاح: وأما من يصنف على المسانيد فإن ظاهر قصده جمع حديث كل صحابي على حدة، سواء أكان يصلح للإحتجاج به أم لا.
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 244.
(2)
لم يكن "سنن ابن ماجه" معدوداً في جملة الأصول الستة إلى أواخر القرن السادس وبعده بقليل، وأول من أدخله مع السنن الثلاثة أبو الفضل ابن طاهر المقدسي صاحب "شروط الأئمة الستة".
(3)
علوم الحديث، لإبن الصلاح، ص: 34 - 35.
وهذا هو الظاهر من أصل الوضع بلا شك، لكن جماعة من المصنفين في كل من الصنفين خالف أصل موضوعه فانحط أو ارتفع، فإن بعض من صنف على الأبواب قد أخرج فيها الأحاديث الضعيفة؛ بل والباطلة، إما لذهول عن ضعفها وإما لقلة معرفة بالنقد. وبعض من صنف على المسانيد انتقى أحاديث كل صحابي فأخرج أصح ما وجد من حديثه. كما رويناه عن إسحاق بن راهويه أنه انتقى في "مسنده" أصح ما وجده من حديث كل صحابي، إلا أن لا يجد ذلك المتن إلا من تلك الطريق، فإنه يخرجه. ونحا بقي بن مخلد في "مسنده" نحو ذلك. وكذا صنع أبو بكر البزار قربياً من ذلك، وقد صرح ببعض ذلك في عدة مواضع من "مسنده" فيخرج الإسناد الذي فيه مقال ويذكر علته، ويتعذر عن تخريجه بأنه لم يعرفه إلا من ذلك الوجه.
وأما الإمام أحمد فقد صنف أبو موسى المديني جزءاً كبيراً ذكر فيه أدلة كثيرة تقتضي أن أحمد انتقى "مسنده" وأنه كله صحيح عنده، وأن ما أخرجه فيه عن الضعفاء إنما هو في المتابعات، وان كان أبو موسى قد ينازع في بعض ذلك، لكنه لا يشك منصف أن مسنده أنقى أحاديث وأتقن رجالاً من غيره. وهذا يدل على أنه انتخبه. ويؤيد هذا ما يحكيه ابنه عنه أنه كان يضرب على بعض الأحاديث التي يستنكرها. وروى أبو موسى في هذا الكتاب من طريق حنبل بن إسحاق، قال: جمعنا أحمد أنا وابناه عبد الله وصالح، وقال:"انتقيته من أكثر من سبعمئة ألف وخمسين ألفاً فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة"(1).
فهذا صريح فيما قلناه؛ إنه انتقاه، ولو وقعت فيه الأحاديث الضعيفة والمنكرة، فلا يمنع ذلك صحة هذه الدعوى، لأن هذه أمور نسبية، بل هذا كاف فيما قلناه؛ إنه لم يكتف بمطلق جمع حديث كل صحابي (2).
فكلام الحافظ ابن حجر يقيد الإطلاق الوارد في كلام الخطيب وابن الصلاح من أن المسانيد تترتب من وراء الصحاح والسنن؛ لأنها لم تلتزم الصحة ولا الإنتقاء، فمسند الإمام
(1) هذا القول المروي عن الإمام أحمد رحمه الله، فيه نظر، ويتطلب أولاً تحقيق مدى صحة نسبته للإمام أحمد، وعلى فرض ثبوته، فإن الحجة فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن في "المسند"، والإمام أحمد رحمه الله كغيره من الأئمة ليس معصوماً، فقد يفوته شيء من الأحاديث، وقد يثبت عند غيره ما لم يثبت عنده، أو يطلع عليه.
(2)
النكت على كتاب ابن الصلاح 1/ 446 - 449.
أحمد قد التزم الإنتقاء على الرغم من كثرة الأحاديث التي اشتمل عليها، فهو بهذا يضاهي السنن ويقع في مصافها من حيث درجة الصحة الإجمالية، حتى قال الحافظ ابن حجر: وليست الأحاديث الزائدة في "مسند أحمد" على ما في "الصحيحين" بأكثر ضعفاً من الأحاديث الزائدة على "الصحيحين" من "سنن أبي داود" و"جامع الترمذي"(1).
وبعد، فهل يصح إطلاق القول بأن ما في "المسند" صحيح في الجملة، على معنى أن الرجال الذين أخرج لهم الإمام أحمد في كتابه هذا هم من رجال الصحيح، ولو على مثل شرط ابن خزيمة أو ابن حبان؟
والجواب: أن هناك من ادعى الصحة في "المسند" كما سبقت الإشارة في كلام ابن حجر إلى الحافظ أبي موسى المديني (581 هـ) أنه ذهب إلى القول بذلك، وهذا نصه في "خصائص المسند": ولم يخرّج إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته دون من طُعن في أمانته (2).
وقال في موضع لاحق: ومن الدليل على أن ما أودعه الإمام أحمد، رحمه الله "مسنده" قد احتاط فيه إسناداً ومتناً. ولم يورد فيه إلا ما صح عنده (3) .. ثم ساق مثالاً لقوله.
فعلى قول الحافظ أبي موسى يكون كل ما في "المسند" صحيحاً، وهذا القول لم يذهب إليه أحد مت العلماء الكبار -فيما نعلم- غيره، ويبدو أن هذا القول كان شائعاً بين الناس في أصبهان -وهي بلاد الحافظ أبي موسى- وخراسان، حتى عُرض سؤال على ابن الجوزي (597 هـ) في بغداد حول هذا الموضوع، ذكره في "صيد الخاطر" (4) فقال:
سألني بعمق أصحاب الحديث: هل في مسند أحمد ما ليس بصحيح؟ فقلت: نعم. فعظم ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب، فحملت أمرهم على أنهم عوام، وأهملت فكر ذلك. وإذا بهم قد كتبوا فتاوى، فكتب فيها جماعة من أهل خراسان، منهم أبو العلاء الهمداني، يعظمون هذا القول، ويردونه، ويقبحون قول من قاله! فبقيت دهشاً
(1) المصدر السابق.
(2)
خصائص المسند ص: 6.
(3)
المصدر السابق ص: 8.
(4)
ص 245 - 246.
متعجباً. وقلت في نفسي: واعجباً! صار المنتسبون إلى العلم عامة أيضاً، وما ذلك إلا أنهم سمعوا اهديث ولم يبحثوا عن صحيحه وسقيمه، وظنوا أن من قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد. وليس كذلك، فإن الإمام أحمد روى المشهور والجيد والرديء، ثم هو قد ردّ كثيراً مما روى ولم يقل به، ولم يجعله مذهباً له. أليس هو القائل في حديث الوضوء بالنبيذ: مجهول؟ ومن نظر في كتاب "العلل" الذي صنفه أبو بكر الخلال رأى أحاديث كثيرة كلها في "المسند" وقد طعن فيها أحمد. اهـ.
فادعاء أن ما اشتمل عليه "المسند" كله صحيح يخالف الواقع، إذ إن الطعن في الحديث وإيراده في كتب العلل يؤذن بعدم سلامته ونزوله عن درجة الصحيح إن لم يكن ضعيفاً أو موضوعاً، وقد أورد الخلال جملة من أحاديث "المسند"، في كتابه "العلل" ويوجد في كتاب "العلل" للإمام أحمد نفسه أحاديث من "المسند"، وقد أورد ابن الجوزي جملة من أحاديث "المسند" أيضاً في كتابيه "الموضوعات" و"العلل المتناهية"، مما يدل على أن "المسند" لا يخلو من الأحاديث الضعيفة، وإن كان المحققون لم يسلموا ببعض ما ادُّعي فيه الضعف الشديد والوضع.
إذن فليس هناك من العلماء من أيد الحافظ أبا موسى المديني في ذهابه إلى القول بصحة ما في "المسند" من حديث، اللهم إلا السيوطي (911 هـ) فإنه عد جملة ما في "المسند" صالحاً للإحتجاج، فقد قال في مقدمته للجامع الكبير: وكل ما كان في "مسند أحمد" فهو مقبول، فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن. اهـ
وتوسط الشيخ عبد القادر ابن بدران فاعتبر أحاديث الأحكام في "المسند" كلها صحيحة، فقد قال:
وقد حكى الحفاظ أن الإمام أحمد اشترط أن لا يخرج في "مسنده" إلا حديثاً صحيحاً عنده. قلت: وهذا صحيح بالنسبة إلى أحاديث الأحكام. فقد روي عنه أنه قال: إذا كان الحديث في الحلال والحرام شددنا، وإذا كان في غيره تساهلنا
…
إلى أن قال:
ومهما تعصب القوم فإن أحاديث "المسند" كلها يصح الإحتجاج بها، وهي صحيحة على طريقته التى استقام عليها، كما أشرنا إلى بعض ذلك عند الكلام على أصوله. ولعل الذين قالوا بضعف أحاديث من مسنده جاءتهم من طرق ضعيفة غير طريقه، فضعفوها
باعتبار ما جاءهم من طرقها، وكثيراً ما يذهب إلى مثل هذا أصحاب الحديث ممن لا يحيط علماً بالطرق، فتأمل هذا، واحفظه، واعتبر به كتب الحديث، فإنك تجد الأمر واضحاً (1).
وهذا الرأي محل نظر، فقد أورد ابن القيم في كتاب "الفروسية" عدة أمثلة من "المسند" ذاته، وفي أحاديث الأحكام، وأرفقها بعللها التي طعن بها الإمام أحمد نفسه في تلك الأحاديث فيما رواه أصحابه عنه (2).
وإذا تبين أن "المسند" ليس خالصاً للصحيح، فإن القسم الذي ينزل عن درجة الصحة منه اختلف فيه العلماء، وقد رأينا أن السيوطي رحمه الله جعله كله من الحسن وما يقاربه، والذي يهمنا من ذلك هو دعوى وجود بعض الأحاديث الموضوعة الباطلة. فهناك من ادعى وجود ذلك في "المسند"، وهناك من أنكر.
فمن جملة من ادعى الوضع في "المسند" الحافظ ابن كثير، فقد قال في رده على أبي موسى المديني: وأما قول الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر المديني عن "مسند الإمام أحمد!: إنه صحيح، فقول ضعيف، فإن فيه أحاديث ضعيفة بل موضوعة، كأحاديث فضائل مرو وعسقلان والبرث الأحمر عند حمص، وغير ذلك كما نبه عليه طائفة من الحفاظ (3). اهـ
وكذلك ادعى الوضع الحافظ أبو الفضل العراقي في نكته على "مقدمة ابن الصلاح"(4)، وفي جزء أفرده لبيان تلك الأحاديث والكلام عليها واحداً واحداً، وهي تسعة أحاديث. قال في مقدمته: وقع لنا في أثناء السماع كلام: هل في "المسند" أحاديث ضعيفة أو كله صحيح؟ فقلت: إن فيه أحاديث ضعيفة كثيرة، وإن فيه أحاديث يسيرة موضوعة (5).
(1) المدخل ص 471 - 472.
(2)
مقدمة تحقيق "المسند" طبعة مؤسسة الرسالة، ص 68 - 72.
(3)
الباعث الحثيث ص 31.
(4)
قال السيوطي في "تدريب الراوي" 1/ 172: قال العراقي: وأما وجود الضعيف فيه فهو محقق، بل فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء، ولعبد الله ابنه فيه زيارات فيها الضعيف والموضوع.
(5)
القول المسدد ص 33، تحقيق عبد الله الدرويش، ط. دار اليمامة، دمشق.