الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
الأسس التي ترتكز عليها اختيارات شيخ الإسلام:
بعدما تبين أن اختيارات ابن تيمية هي اختيارات من الخلاف داخل المذهب الحنبلي في الكثير منها، والقليل الباقي هو اختيار من الخلاف العالي -أي الخلاف خارج المذهب الواحد- في نطاق المذاهب الأربعة، أو خارج نطاقها، بعد معرفة ذلك نحاول أن نكشف عن الأسس والمنطلقات التي بنى عليها ابن تيمية اختياراته. ولا شك أن تلك الأسس والمنطلقات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمنزلة ابن تيمية في مراتب المجتهدين، ثم في منهجه في الفتوى وأصوله في التصرف بشأنها.
•
مرتبة ابن تيمية في طبقات المجتهدين:
درج المتأخرون من علماء الأصول على ترتيب المجتهدين في عدة مراتب، وقسموهم إلى طبقات متعددة، بعضها فوق بعض. قال ابن بدران في "المدخل":
جعل بعض المتأخرين أقسام المجتهدين على خمس مراتب، وممن علمناه جنح إلى هذا التقسيم أبو عمرو ابن الصلاح، وابن حمدان من أصحابنا في كتابه "أدب المفتي" وتلاهما شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، فإنه نقل في "مسودة الأصول" كلام ابن الصلاح ولم يتعقبه، وتبعهم العلامة الفتوحي في آخر كتابه "شرح المنتهى" الفقهي (1).
وخلاصة هذه المراتب حسبما في آخر "الإنصاف" للمرداوي:
أن المجتهدين ينقسمون إلى قسمين:
- القسم الأول: المجتهد المطلق، وهو الذي اجتمعت فيه شروط الإجتهاد التي ذكرها ابن قدامة في "المقنع" في شروط القاضي، لدى قوله: "والمجتهد من يعرف من كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه السلام والحقيقة والمجاز
…
" (2) الخ. إذا استقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة، وأحكام الحوادث منها، ولا يتقيد بمذهب أحد.
(1) المدخل، لإبن بدران، ص 374.
(2)
المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 28/ 307.
- القسم الثاني: المجتهد المقيد، وهو المجتهد في مذهب إمامه، أو إمام غيره، وأحواله أربعة:
الحالة الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكنه سلك طريقه في الإجتهاد والفتوى، ودعا إلى مذهبه، وقرأ كثيراً منه على أهله، فوجده صواباً، وأولى من غيره، وأشد موافقة فيه وفي طريقه.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهداً في مذهب إمامه، مستقلاً بتقريره بالدليل، لكن لا يتعدى أصوله وقواعده، مع إتقانه للفقه وأصوله، وأدلة مسائل الفقه، عالماً بالقياس ونحوه، تام الرياضة، قادراً على التخريج والإستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول والقواعد التي لإمامه. وهذه مرتبة أصحاب الوجوه والطرق في المذاهب.
الحالة الثالثة: أن لا يبلغ به رتبة أئمة المذهب من أصحاب الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس، حافظ لمذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريره، ونصرته، يصور، ويحرر، ويمهد ويقوي، ويزيف، ويرجح، لكنه قصر عن درجة أولئك.
وهذه صفة المتأخرين الذي رتبوا المذاهب، وحرروها، وصنفوا فيها تصانيف.
الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب، ونقله وفهمه، فهو حجة في نقل المذهب وفتواه به، على أنه مخبر ناقل، لا مجتهد مستنبط، ولا يجتهد إلا في المسائل التي تتشابه مع المنصوصات بغير كبير تأمل ولا فكر. وكذلك المسائل التي يعلم أنها تندرج تحت ضابط من الضوابط الفقهية (1).
إذا تبين هذا، فأين يرتب شيخ الإسلام؟ لا شك أن فتاويه التي أفتى بها على خلاف مذهب الإمام أحمد تدل على أنه إما مجتهد مطلق، وإما مجتهد مقيد من الدرجة الأولى. وقد عده المرداوي في "الإنصاف"(2) مجتهداً مطلقاً، فقال: قد ألحق طائفة من أصحابنا المتأخرين بأصحاب هذا القسم -يعني القسم الأول- الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمة الله عليه- وتصرفاته في فتاويه، وتصانيفه تدل على ذلك. ا. هـ.
(1) الإنصاف، المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 30/ 384، الفواكه العديدة 2/ 171، المدخل ص 374، إعلام الموقعين 4/ 173، معونة أولي النُّهى 9/ 588.
(2)
30/ 384
ومعنى ذلك: أن شيخ الإسلام يستقل بأصول في الإجتهاد والفتوى عن الأئمة الأربعة، ومنهم الإمام أحمد، ولكن تلك الأصول التي استقل بها تتشابه إلى حد بعيد مع أصول الإمام أحمد.
ويذهب الشيخ محمد أبو زهرة إلى القول بأن شيخ الإسلام معدود في المجتهدين المنتسبين، أي: إنه عنده مجتهد ضمن المذهب الحنبلي. فقال: ولقد غالى فيه بعضهم فادعى أنه من أصحاب الإجتهاد المطلق الذي لم ينتسب إلى مذهب من المذاهب، وعلى ذلك يكون القول المعتدل الذي لا مغالاة فيه ولا شطط، ولا بخس ولا وكس: إنه مجتهد منتسب (1).
وكلام الشيخ رحمه الله غير مسلم لعدة أسباب، منها:
أولاً: أنه اعتبر من وصفه بالإجتهاد المطلق مغالين فيه، وأنهم يقعون على الطرف النقيض من أولئك الذين ينزلون به عن درجات الإجتهاد كلية لسبب العداوة والخصومة، ونحن لا نستطيع أن نتعرف على عالم من علماء المسلمين الذين غبروا إلا من خلال تلك الكتب التي عرّفت به أو الآثار التي تركها ووصلت إلينا، ولا يجوز لنا أن نعتبر كلامهم مغالاة أو اشتطاطاً إلا إذا تبين ذلك بوضوح.
وقد تقدم أن المرداوي يعتبره من المجتهدين على الإطلاق، وهو من علماء المذهب المحققين، الذين لا يطلقون الكلام جزافاً ولا مبالغة.
ووصفه ابن رجب في "الطبقات"(2) بأنه: الإمام الفقيه المجتهد المحدث
…
إلخ. وعادته رحمه الله أن لا يصف كبار الحنابلة بوصف "المجتهد" فضلاً عن صغارهم، فدل ذلك أنه يعتبره مجتهداً مطلقا.
وقال الذهبي فيه: وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة
…
إلى أن قال: وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين، بل بما قام الدليل عليه عنده (3).
(1) ابن تيمية ص 448.
(2)
2/ 378.
(3)
الشهادة الزكية، للشيخ مرعي بن يوسف الكرمي، ص 41، ط. الرسالة.
وقال في موضع آخر: وإن عُد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق (1)، وقال البرزالي-وهو تلميذه-: وبلغ رتبة الإجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين (2)، ولا ريب أنه يعني بذلك المجتهد المطلق، لأن شروط المجتهدين التي نص عليها الأصوليون والفقهاء هي الشروط التي تؤهل الفقيه إلى رتبة الإجتهاد المطلق.
فهذه الشهادات، وغيرها مما تركناه، تدل على أنه كان مجتهداً مطلقاً في نظر أولئك الذين يعرفونه عن قرب، ويشهدون على المعاينة، أو النقل القريب. وبالتالي لا يعتبر التوسط بين هؤلاء وبين أولئك الذين ظلموه ويخسوه حقه عدالة في القول وصواباً في الحكم وتجانفاً عن الغلو.
ثانياً: أن كثيراً ممن ترجم له وصفه بأنه كامل المعرفة بالقرآن وعلومه، والحديث وفنونه، واللغة ومباحثها، والأصلين، وغير ذلك مما يعده الأصوليون في الشروط المطلوبة في المجتهد. وإذا كان الذي يحفظ أحاديث الأحكام بالإضافة إلى الدراية بعلوم السنة محصلاً لشرط الإجتهاد المطلق في ذلك، فكيف برجل قيل فيه: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث (3)؟!!
بل قد صرح الكمال ابن الزملكاني باستكمال شروط الإجتهاد لدى ابن تيمية، فقال: اجتمعت فيه شروط الإجتهاد على وجهها (4).
ثالثاً: إن الشيخ أبا زهرة نفسه يقرر استقلال شيخ الإسلام بأصول يتميز بها عن غيره في الإجتهاد، فيقول مثلاً: إنه بلا شك من حيث أدوات الإجتهاد، والمدارك الفقهية، ومن حيث علمه بالسنة واللغة ومناهج التفسير، وفهمه للقرآن، وأصول السنة وإحاطته بالحديث دراية ورواية، يوضع في الدرجة الأولى من الإجتهاد المطلق (5). لكنه مع ذلك لم يجعله مجتهداً مستقلاً، لكونه يدور في فلك المذهب الحنبلي في نتائج الإجتهاد، حيث يتفق غالباً مع مذهب أحمد، ولو في بعض الروايات التي نُقلت عنه.
(1) المصدر السابق، ص 42.
(2)
المصدر، ص 48.
(3)
ذيل طبقات الحنابلة، لإبن رجب 2/ 391، ولا يَخفَى ما في هذا القول والمغالاة التي لا يرضاها ابن تيمية رحمه الله.
(4)
المصدر السابق 2/ 390.
(5)
ابن تيمية ص 439.