الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
المذهب في العراق
نشأ المذهب الحنبلي في العراق كما هو معروف، وبالتالي فنحن إذا تحدثنا عن انتشاره، فإنما نتحدث عن وجوده ونموه خارج بغداد، ولكن آثرنا أن نفرد عاصمة المذهب الأولى بتسليط الضوء على ما كان فيها من جهود وأعمال في ظل ذلك الإنتشار، الذي أخذ ظله يتمدد في بلاد الإسلام عبر زمن طويل، وذلك من أجل الكشف عن جهود البغاددة في خدمة هذا المذهب السني وإعلاء شأنه، وتصديره إلى الخارج.
ويغمز الحنابلة بأنهم قليلو الأتباع، لم يحظو بما حظي به غيرهم من كثرة الإنتشار في الأمصار، وأن سحائبهم لم تبلّ بوابلها إلا قلًّا قليلاً من الأراضي والديار، إذ بزغ النجم الحنبلي بعدما ملأت نجوم غيره الآفاق بضيائها.
وهذا المغمز إنما يتضرر منه من يعد المناقب بعدد الأتباع والأشياع، وينظر إلى الأمور يمنظار الحساب المادي الذي لا قيمة له في بعض المواطن بتاتا، فإن العبرة في قوة المذاهب وضعفها بأئمتها وشيوخها المجتهدين، وعلمائها العاملين، لا بالسواد الذي لا يقدم شيئًا ولا يؤخره في هذا المضمار (1).
وإذاكانت العبرة بالعلماء لا بالعوام، وبالأئمة لا بالطَّغام، فإن العالم الواحد قد يقاس بأمة، وذلك بما يبذله من الجهود العظيمة وما يقدمه للأمة من الأعمال الجليلة التي تَخْلُدُ مِنْ بَعده، وتتوارثها الأجيال، لا تفتأ تستفيد منها، مما لا يستطيعه العشرات. فهذا ابن حزم لا يكاد يُعرف المذهب الظاهري إلا من خلال كتبه ومصنفاته التي لا يستطيع تأليف مثلها إلا الفحول الأفذاذ.
(1) وصدق الشيخ أبو زهرة حين قال: "وكان من المخرجين وأصحاب الوجوه من لا يحصون في ذلك المذهب الجليل، وكأن الله عوضه عن عدد العوام الذبن يعتنقونه بعدد عظيم من العلماء ذوي القدم الراسخة في البحث والإستنباط والتخريج". ابن حنبل، ص 431.
فالحنابلة إن قل عددهم بالنظر إلى غيرهم، فقد بورك في تلك القلة، حتى انتشر علمها، وكثر المستفيد منها، ونهل من معينها الصافي القريب والبعيد، وصارت بذلك كثرة في المعنى، كما قال القائل (1):
يقولون لي: قد قل مذهب أحمدٍ
…
وكلُّ قليل في الأنام ضئيلُ
فقلت لهم: مهلًا غلطتم بزعمكم
…
ألم تعلموا أن الكرام قليلُ
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
…
عزيز وجار الأكثرين ذليلُ
على أن أبا الوفاء ابن عقيل (513 هـ) البغدادي رد سبب هذه القلة إلى ميل
الأصحاب إلى التزهد والإنقطاع إلى العبادة، فقال في ذلك:
"هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه، لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع واحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات. فكانت الولاية لتدريسه واشتغاله بالعلم. فأما أصحاب أحمد، فإنه قل فيهم من تعلق بطرف من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد، لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم"(2).
ولكلن هذا الحكم من ابن عقيل ليس عامًا، بل هو وصف لأصحابه البغدايين فقط، فقد تقلد الحنابلة في الشام ومصر مناصب القضاء، وإدارة المدارس، وشؤون الفتوى، بل عمل بعضهم في الوزارة كابن هبيرة (560 هـ) والسفارة كأبي محمد التميمي (488 هـ).
وانتشار المذهب بعد القرن الرابع خارج بغداد يدل على قوته، وتلقي الناس له
بالرضا والقبول، وترجيحه على غيره عند كثير من العلماء (3).
(1) ذكر هذه الأبيات الشيخ أبو زهرة (ابن حنبل: ص 431) ولم ينسبها لأحد. وفيها معارضة للامية السمَوْال ابن عاديا، والتي مطلعها:
إذا المرء لم يدنَس من اللُّؤم عرضُه
…
فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ
(2)
ذيل طبقات الحنابلة، لإبن رجب الحنبلي، 1/ 157.
(3)
ينظر في ذلك الباب الثامن والتسعين من"المناقب" لإبن الجوزي، فقد عقده بعنوان: سبب اختيارنا لمذهب أحمد على مذهب غيره. ومقدمة كتاب "المدخل" لإبن بدران، وكذلك "العقد الثاني" منه.
والمذهب الحنبلي، وإن انتشر خارج بغداد خلال هذا الدور واشتد ساعده بعد ذلك في الشام ومصر والجزيرة العربية، إلا أن الفضل في ذلك إنما يرجع إلى ما بذله البغداديون من الجهود والأعمال، وذلك كما قال القائل (1):
نقِّل فؤادك حيثُ شئتَ من الهوى
…
ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ
فقد كان علماء العراق مثابة للطلاب من الأنحاء المختلفة، إليهم تضرب أكباد اللإبل في الأغوار والأنجاد، فكانوا هم السبب في تصدير المذهب إلى بلدان مختلفة.
وقد ضرب الحنابلة في بغداد أروع الأمثال في الصبر والثبات، والأمر بالمعروف والنهي عن النكر، ومواجهة البدع، والدفاع عن السنة ومذهب السلف (2).
وقد التزم الحنابلة القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بغداد أيما التزام، فقد كانوا يأخذون على أيدي العصاة والفساق، ويداهمون دور الفساد، ويقيمون الحسبة على الناس في أسواقهم، وبيعهم وشرائهم، ويمنعون اختلاط الرجال بالنساء، والخلوة المحرمة بين الجنسين، حتى سجلوا في ذلك مقامات وقصصًا مشهورة، دونها الأخباريون والمؤرخون في سجلاتهم. قال ابن الأثير في حوادث سنة 323 هـ:
"وفيها عظم أمر الحنابلة، وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون من دور القواد والعامة، وإن وجدوا نبيذًا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها، وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء، ومشي الرجال مع النساء والصبيان، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه: من هو؟ فأخبرهم، وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة، وشهدوا عليه بالفاحشة، فأرهجوا بغداد"(3).
(1) هو أبو تمام، والييت في "ديوانه" 4/ 353.
(2)
ينظر على سبيل المثال ما ورد في ترجمة الشريف أبي جعفر (470 هـ) وما كان بينه ويين ابن القشيري من الوقائع في "طبقات الحنابلة" 2/ 239، و"ذيل الطبقات"، لإبن رجب، 1/ 15 - 16.
(3)
الكامل في التاريخ، 8/ 307، دار صادر، بيروت، 1966.