الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
الإتباع للسلف ومناهضة البدع
لا يخفى ما بين الإتباع للسلف والمناهضة للبدع من التلازم والتوافق، فإن الرجل لا يستطيع أن يكون مستمسكاً بمنهاج السلف رضي الله عنهم، دون أن يذب البدع عن دين الله عز وجل بأقواله وأفعاله.
فالمنهج الصحيح القويم الذي يستقيم عليه دين العالم المسلم الصادق، إنما ينهض على ركنين:
ركن القيام بشأن السنة علماً وتعليماً ودعوة وعملاً.
وركن المناهضة للبدع في الإعتقاد والعمل وإنكارها، والتشديد على أهلها.
والبدع: هي ما أحدثه الناس واخترعوه في أمر الدين.
وهي نوع من المحرمات أخطر من المعاصي العادية، فإن فاعلها يتقرب بها إلى الله تعالى، ويعتقد ببدعته أنه يطيع الله ويتعبد له، وهذا هو خطرها.
والبدعة تكون:
إما باعتقاد خلاف الحق، الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه. وهذه هي البدعة الاعتقادية، أو القولية، ومنشؤها من القول على الله بلا علم. وهذا من أعظم المحرمات، بل هو -كما يقول ابن القيم- أعظمها. كما قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
وإما أن تكون بالتعبد الله تعَالى بما لم يشرعه من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين، كما قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وفي الحديث: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية.
والبدعتان -كما قال العلامة ابن القيم- متلازمتان، قلّ أن تنفك إحداهما عن الأخرى، كما قال بعضهم: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنى يعيثون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة، فتولد بينهما خسران الدنيا والآخرة (1).
وإذا كان هذا هو شأن البدع في الميزان الشرعي، فما هو موقف الحنابلة القولي والفعلي من ذلك؟
لا مرية في أن الحنابلة كانوا تبعاً لإمامهم في هذا الشأن، فقد كان الإمام أحمد زينة بغداد ومنارتها اللامعة في الإستمساك بالسنة ومواجهة البدع التي كانت مدينة السلام مرتعا لها، ومسرحاً لترويجها، حيث إن عاصمة الخلافة أقوى من غيرها في اجتذاب الطلاب والزائرين وأصحاب الشؤون المختلفة من أقاصي البلدان وأدانيها.
فكلام الإمام أحمد في المحافظة على السنة والإقتداء بالسلف، وذم البدع والتنفير من أهلها كثير جداً.
قال ابن تيمية رحمه الله: وأهل البدع في غير الحنبلية أكثر منهم في الحنبلية بوجوه كثيرة، لأن نصوص أحمد في تفاصيل السنة ونفى البدع أكثر من غيره بكثير (2).
ومن أجل ذلك ألّف الإمام أحمد كتاب "الرد على الزنادقة والجهمية"، وبث في رسائله إلى أصحابه نصوصاً واضحة بشأن هذا الموضوع الخطير، فقد قال في رسالته إلى عبدوس بن مالك العطار:
"أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، وترك الجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين"(3).
وقال في رسالته إلى مسدد بن مسرهد:
(1) مدارج السالكين، لإبن القيم، 1/ 245، ط. دار الكتب العلمية، 1983.
(2)
مجموع الفتاوى 20/ 186.
(3)
الطبقات 1/ 241.
"أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم، ولزوم السنة، فقد علمتم ما حلّ بمن خالفها، وما جاء فيمن اتبعها، بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل ليدخل العبد الجنة بالسنة يتمسك بها". إلى أن قال: ولا تشاور أحداً من أهل البدع في دينك، ولا ترافقه في سفرك"(1).
ولئن كان الإمام أحمد في أول أمره يحض أصحابه وينصح طلابه بعدم الخوض مع أهل البدع، وينهاهم أن يجادلوهم، باعتبار أن ذلك من الجدال المذموم في دين الله عز وجل، والمراء الممقوت في القرآن الكريم. فإنه قد عدل عن ذلك في آخر أمره، ورأى أن فريضة الذب عن الشريعة في أصولها وفروعها قد وجبت بعد ما استفحل أمر الزنادقة والجهمية والمرجئة، وصارت فتنهم تنفذ إلى قلوب الخواص والعوام في بغداد.
قال ابن مفلح رحمه الله:
"وقد صنف الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه، كتاباً في الرد على الزنادقة والقدرية في متشابه القرآن وغيره، واحتج بدلائل العقول. وهذا الكتاب رواه ابنه عبد الله، وذكره الخلّال في كتابه (2)، وما تمسك به الأولون من قول أحمد فهو منسوخ.
قال أحمد في رواية حنبل: قد كنا نُأمر بالسكوت، فلما دُعينا إلى أمرٍ ما كان بدٌّ لنا أن ندفع ذلك، ونبين من أمره ما ينفي عنه ما قالوه. ثم استدل لذلك بقوله تعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125](3).
ومن صور ذلك الجدال العلمي الذي حُفظ لنا عن إمام أهل السنة قوله: "من قال، القرآن مخلوق، فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله، وفيه أسماء الله
…
[و] إذا قال الرجل: العلم مخلوق فهو كافر، لأنه يزعم أنه لم يكن لله علم حتى خلقه" (4).
وبهذا فتح الإمام أحمد أمام أصحابه باباً للدفاع عن السنة ومحاججة المبتدعة باللسان والقلم، فتتابعوا يناظرون، ويؤلفون، حتى ملأت مآثرهم في ذلك سمع التاريخ وبصره.
(1) المصدر السابق 1/ 342، 344.
(2)
يعني بذلك "الجامع لعلوم أحمد".
(3)
الآداب الشرعية 1/ 227.
(4)
من كتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد، ص 9، ط. دار الكتب العلمية، 1985. وانظر صورة أخرى من كتاب "الرد على الجهمية" في طبقات ابن أبي يعلى 2/ 48.
قال ابن مفلح نقلاً عن حفيد القاضي أبي يعلى:
"والصحيح في المذهب أن علم الكلام مشروع مأمور به، وتجوز المناظرة فيه. والمحاجة لأهل البدع، ووضع الكتب في الرد عليهم، وإلى ذلك ذهب أئمة التحقيق: القاضي، والتميمي، في جماعة المحققين، وتمسكوا في ذلك - مع استغنائه عن قول يسند إليه - بقول الإمام أحمد في رواية المرّوذي: إذا اشتغل بالصوم والصلاة، واعتزل وسكت عن الكلام في أهل البدع، فالصوم والصلاة لنفسه، وإذا تكلم كان له ولغيره، يتكلم أفضل"(1).
هذا هو موقفهم من الناحية العلمية.
وأما من الناحية العملية، فقد كان عِلمُهم عَمَلهم، يعملون بالسنة ويقتدون بالسلف، لا يبالون بما يصيبهم في سبيل ذلك من النبز بالألقاب، فيوصفون تارة بالتشديد، وتارة بالتجسيم، وتارة بالحشوية، وتارة بالمشبّهة الذين يشبّهون الله بخلقه، وهم في كل ذلك صابرون محتسبون.
بالإضافة إلى التقيد العملي بالسنة وما أثر عن السلف، فقد أخذوا على أنفسهم أن يقاطعوا أهل البدع، ويجانفوهم، لما في ذلك من الإيحاش لقلوبهم والزجر لهم عما هم فيه، وكان قدوتهم في ذلك الإمام أحمد، فإنه لم يكلم أولئك الذين أجابوا في المحنة بخلق القرآن حتى مات.
قال ابن مفلح: وقد اشتهرت الرواية عنه في هَجْرِهِ من أجاب في المحنة إلى أن مات (2).
وكذلك كان الصف الحنبلي نقياً -في جملته- على مدى الدهور.
بقي علينا في ختام هذا المبحث أن نميط اللثام عن صلة رجلين من أكابر الحنابلة بأهل البدع، والتحقيق في مدى صحة تلك الصلة وأثرها.
وهذان الرجلان هما: أبو الوفاء ابن عقيل البغدادي (513 هـ)، ونجم الدين الطوفي الصرصري، ثم البغدادي (716 هـ).
(1) الآداب الشرعية 1/ 226.
(2)
الآداب الشرعية 1/ 247.
فأما ابن عقيل:
فعلى الرغم من المكانة السامية التي بلغها، والمنزلة الرفيعة التي تبوَّأها، فإن بعض أصحابه من الحنابلة قد تكلَّم فيه، لتردُّده على بعض المشايخ من المعتزلة، وتلقيه عنهم علم الكلام.
يقول ابن عقيل عن ذلك: "وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء -يعني شيوخه من المعتزلة- وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً"(1).
وقد علَّق الحافظ الذهبي -الذي نقل هذا الكلام- عليه بقوله: "قلت: كانوا ينهونه عن مُجالسة المعتزلة، ويأبى، حتى وقع في حبائلهم، وتجسَّر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة"(2).
وقد اشتدت نقمةُ الحنابلة عليه نتيجة تجاسُرِه على تأويل نُصوص الصفات، ودفاعه عن الحلّاج، واعتذاره له، حتى طلبوا دمه، وأهدروه، إلى أن أعلن توبته عن آرائه الإعتزالية، ورجوعه عن ترحُّمِه على الحلّاج، فانطفأت بذلك نار الفتنة.
ولم يكتف رحمه الله بإعلان التوبة، بل أخذ يُصنِّفُ في الردِّ على المعتزلة، هاتكاً أستارهم، وكاشَفاً عن عوارِهم عن علم ودراية.
يقول الحافظُ ابن حجر: "نعم، كان مُعتزلياً، ثم أشهد على نفسه أنه تاب على ذلك، وصحَّتْ توبتُهُ، ثم صَنَّفَ في الردِّ عليهم، وقد أثنى عليه أهل عصره ومن بعدهم، وأطْراهُ ابنُ الجوزي، وعَوَّلَ على كلامه في أكثر تصانيفه"(2)
ونَقل الحافظ ابن رجب قصة توبة ابن عقيل، ورجوعه عمّا كان عليه، فقال: "فمضى ابن عقيل إلى بيتِ الشريف، وصالحهُ، وكتب خطَّهُ:
يقولُ عليُّ بن عقيل بن محمد: إني أبرأُ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعةِ الإعتزال، وغيره، ومن صُحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والتَّرحُّمِ على أسلافهم، والتكثُّر بأخلاقهم، ومما كنتُ عَلَّقْتُه ووُجِد بخطِّي من مذاهبهم وضلالتهم، فأنا تائبٌ إلى الله تعالى من كتابته، ولا تحلُّ كتابتُه، ولا قراءتُه، ولا اعتقاده، وإنني علَّقتُ مسألة الليل في جملة ذلك، وإنَّ قوماً قالوا: هو أجسادٌ سود. وقلتُ: الصحيحُ: ما سمعتُه من الشيخ
(1) سير أعلام النبلاء 19/ 447.
(2)
لسان الميزان 4/ 243.
أبي علي، وأنه قال: هو عدمٌ، ولا يُسمى جسماً، ولا شيئاً أصلاً، واعتقدتُ أنا ذلك، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منهم.
واعتقدتُ في الحلّاج: أنه من أهل الدين والزُّهد والكرامات، ونصرتُ ذلك في جزء عملتُه، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منه، وأنه قُتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك، وأخطأ هو، ومع ذلك فإني أستغفر الله تعالى، وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة والمبتدعة وغير ذلك، والترحم عليهم، والتعظيم لهم، فإن ذلك كله حرامٌ، ولا يحلُّ لمسلمٍ فعله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من عَظَّم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام".
وقد كان الشريف أبو جعفر، ومن كان معه من الشيوخ والأتباع ساداتي وإخواني - حرسهم الله تعالى- مصيبين في الإنكار عليَّ، لما شاهدوه بخطي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها، وأتحقَّقُ أني كنتُ مخطئاً غير مصيبٍ.
ومتى حُفِظ عليَّ ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار، فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك، واشهدتُ الله وملائكته وأولي العلم على ذلك سواءٌ. قال تعالى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95].
وكتب يوم الأربعاء، عاشِر مُحرّم سنة خمس وستين وأربع مئة" (1).
هكذا تاب ابن عقيل رحمه الله ورجع عمّا كان عليه، والله سبحانه يقبلُ التوبة عن عباده ويعفو عن السَّيِّئات، والتوبةُ تَجُبُّ ما قبلها، ومن أتبع السيئة بحسنةٍ محتها.
وهذا ما فعله ابنُ عقيل، فقد عاد بعد توبته الى نصِّ السنَّة، وردَّ على من مشى بُرهة في ركابهم من المبتدعة.
يقول ابن قُدامة المقدسي عنه: "ثُم عاد بعد توبته إلى نصِّ السُّنة والردِّ على من قال بمقالته الأولى بأحسن الكلام، وأبلغ نظام، وأجاب على الشُّبه التي ذُكِرت بأحسن جوابٍ، وكلامه في ذلك كثيرٌ في كتبٍ كبارٍ وصغارٍ، أجزاءٍ مفردةٍ، وعندنا من ذلك كثير، فلعلَّ إحسانهُ يمحو إساءته، وتوبته تمحو بدعته، فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السَّيِّئات"(2).
(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 144 - 145، والمنتظم 8/ 275.
(2)
الرد على ابن عقيل: 2
وأما الطوفي:
فقد اتُّهم بالتشيّع، بل بالرفض، وأُظْهر من شِعره ما يدلُّ على ذلك. وقد وصفه الذهبيّ بـ"ـالشيعي"، وقال فى "ذيل العبر". "وكان على بدعته كثيرَ العلم، عاقلاً متديناً"، وعن الذهبيّ نقل اليافعي في "مرآة الجنان".
وقال الصفدي: "كان فقيهاً
…
شيعياً، يُظاهر بذلك، وُجِدَ بخطه هجْوٌ في الشيخين، ففُوِّض أمرُه الى بعض القضاة، وشُهِدَ عليه بالرفض، فضُرب ونُفِيَ إلى قُوص، فلم يُرَ منه بعد ذلك ما يَشِين، ولازم الإشتغال وقراءة الحديث".
نقل ذلك عنه السيوطي، في "بغية الوعاة"، والخوانساري، في "روضات الجنات".
وهذا الذي أجمله الصفدي، فصَّله ابن رجب، في نَقْله عن ابن مكْتُوم قوله: "واشتهر عنه الرفض، والوقوع في أبي بكر وابنته عائشة، رضي الله عنهما، وفي غيرهما من جملة الصحابة، رضي الله عنهم، وظهر له في هذا المعنى أشعارٌ بخطه، نقلها عنه بعض من كان يصحبه، ويُظْهِر موافقةً له، منها قوله:
كَمْ بَينْ مَن شُكَّ في خلافتِه
…
وبَيْن مَن قِيل إنه الله
فرُفع أمرُ ذلك الى قاضي الحنابلة سعد الدين الحارثي، وقامت عليه بذلك البّيِّنةُ، فتقدَّم الى بعض نوابه بضربه وتعزيره وإشهاره، وطِيف به، ونُوِديَ عليه بذلك، وصُرف عن جميع ما كان من من المدارس، وحُبِس أيَّاماً ثم أُطْلِق، فخرج من حينه مسافراً، فبلغ قوص من صعيد مصر
…
".
وقد شغلت هذه القضية ابنَ رجب، فزادها بياناً، حيث قال: "وكان مع ذلك كله شيعياً، منحرفاً في الإعتقاد عن السنة، حتى إنه قال عن نفسه:
حنبليٌّ رافضِيٌّ ظاهِري
…
أشْعريٌّ إنها إحْدَى الكُبَرْ (1)
ووُجِد له في الرفض قصائد، وهو يَلوحُ في كثير من تصانيفه، حتى إنه صنَّف كتاباً سماه "العذاب الواصب على أرواح النواصب".
(1) هذه هي رواية البيت عند ابن حجر، في الدرر الكامنة 2/ 251، ورواية ذيل طبقات الحنابلة للبيت مضطربة:
حنبلي رافضي أشعري
…
هذه إحدى العبر
وعندما ذكر البغدادي كتابه هذا قال: "يُقال: إنه حُبِس وطِيف به لأجل ذلك"(1).
ثم زاد ابنُ رجب: "ومن دسائسه الخبيثة أنه قال في شرح الأربعين للنووي: اعلم أنَّ من أسباب الخلاف الواقع بينَ العلماء تعارضَ الروايات والنصوص، وبعضُ الناس يزعم أن السبب في ذلك عمر بن الخطاب، وذلك أن الصحابة استأذنوه في تدوين السنة من ذلك الزمان فمنعهم من ذلك، وقال: لا أكتب مع القرآن غيرَه. مع عِلْمِه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اكتبوا لأبي شاه خطبة الوداع". وقال: "قيِّدوا العلم بالكتابة".
قالوا: فلو ترك الصحابة يُدَوِّنُ كلُّ واحد منهم ما روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لانضبطت السنة، ولم يبقَ بين آخر الأمة وبينَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في كل حديث إلا الصحابي الذي دَوَّن روايته، لأن تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم إلينا، كما تواتر البخاري ومسلم ونحوهما".
قال ابن رجب: "فانظر إلى هذا الكلام الخبيث المتضمن أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه هو الذي أضل الأمة، قصداً منه وتعمداً، ولقد كذب في ذلك وفجر. ثم إن تدوين السنة أكثر ما يفيد صحتها وتواترها، وقد صحَّت بحمد الله تعالى، وحصل العلمُ بكثير من الأحاديث الصحيحة المتفق عليها -أو أكثرها- لأهل الحديث العارفين من طرق كثيرة، دونَ من أعمى الله بصيرتَه، لإشتغاله عنها بشُبَهِ أهل البدع والضلال. والإختلاف لم يقع لعدم تواترها، بل وقع من تفاوت فهم معانيها، وهذا أمر موجود، سواء دونت وتواترت أم لا، وفي كلامه إشارة إلى أن حقها اختلط بباطلها، وهذا جهل عظيم"(2).
ونقل ابن حجر، عن الكمال جعفر -قرأه بخطه-:"كان القاضي الحارثي يكرمه ويبجله ونزَّله في دروس، ثم وقع بينهما كلام في الدرس، فقام عليه ابن القاضي، وفوضوا أمره إلى بعض النواب، فشهدوا عليه بالرفض، فضُرب، ثم قدم قوص، فصنف تصنيفاً أنْكَرتُ عليه فيه ألفاظاً فغيَّرها، ثم لم نَرَ منه بعدُ ولا سمعنا شيئاً يَشِينُ، ولم يزل ملازماً للإشتغال، وقراءة الحديث والمطالعة، والتصنيف، وحضور الدروس معنا إلى حين سفره إلى الحجاز"(3).
(1) إيضاح المكنون 2/ 96.
(2)
ذيل طبقات الحنابلة 2/ 368.
(3)
الدرر الكامنة 2/ 299.
جواب هذه الدعوى:
هذه هي النقول التي وردت في اتهام الطوفي بالتشيع والرفض في مصادر ترجمته، وبنظرة فاحصة إليها يتضح أن نجم الدين الطوفي كان قد احتل منزلة سامية بين علماء القاهرة، جعلت أستاذه سَعد الدين الحارثي يكرمه، وينزله في دروس، ويبدو أن الطوفي في هذه الفترة كان كثيرَ الهموم العلمية، تشغلُه مسائل لم يصل في دراستها إلى مرحلة النضج، ويُلهِبُ الشك فكرَه في بعض الأمور، وكان يرى وقوف العلماء على أنماط ثابتة، ورسوم موروثة، فلا يُعجبه هذا. وهو ما يفسر ما وقع بينه ويينَ أستاذه الحارثي من كلام في الدرس، اقتضى أن يقومَ عليه ابن أستاذه، واستطاع خصومُه أن يجمعوا من البيِّنات، مِن فَلَتات لسانه، ويعضِ شعره، وربمَا زادوا فيه إلى الحد الذي أدى إلى تعزيره وحبسه، والتشهير به، ثم نفيه، وقد ذكر ابن رجب (1) عن المطري، حافظ المدينة ومؤرخها، أن الطوفي بعد سجنه نُفِيَ إلى الشام، فلم يمكنه الدخولُ إليها، لأنه كان قد هجا أهلَها وسبَّهم، فخشي منهم، فسار إلى دمياط، فأقام بها مدة، ثم توجَّه إلى الصعيد، إلا أن الدلائل كُلَّها تشير بعد ذلك إلى استقامة فكره، ونضوج علمه، فلم يَرَ منه الناسُ ولم يسمعوا ما يَشِين، كما تقدَّم نقلُه.
وأمَّا ما ذكر ابنُ رجب أنه من دسائسه الخبيثة، فليس فيه ما يقومُ دليلاً على اتهامه، وهو يحكي عن قوم رأيهم في نتائج تأخُّر تدوين السنة، ولو كان رافضياً، لما تحدث عن رواية الصحابة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشيعةُ لا يُقرون من الحديث إلا. ما جاء عن أئمتهم.
وأما قولُه عن اتهامه بالرفض: إنه يلوح في كثير من تصانيفه. فكلام بغير بينة، وقد عقد الدكتور مصطفى زيد فصلاً نفى فيه عن الطوفي تهمة التشيع، ودرس كتبه الموجودة، ونقل منها نصوصاً كثيرة تنفي عنه التشيع والرفض، بل تقول في الرافضة أعْنَفَ مما يقول أعداؤهم (2).
وعلى الرغم مما تقدم من أن الطوفي استقام أمرُه حين وصل إلى قوص، ولم ير منه الناس أو يسمعوا ما يَشيِن، إلا أن ابنَ رجب يرفض ذلك كلَّه، ويقول: "وقد ذكر بعضُ
(1) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 370.
(2)
المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي، صفحات 74 - 88.
شيوخنا، عمن حدثه عن آخر، أنه أظهر التوبة وهو محبوس. وهذا من تَقيَّته ونفاقه، فإنه في آخر عمره، لما جاور بالمدينة، كان يجتمع هو والسكاكيني شيخ الرافضة، ويصحبه، ونظم في ذلك ما يتضمن السب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه".
وهكذا لا يصدق ابن رجب توبته، ويحملها على التَّقيَّة، ويتهمه في صحبته للسكاكيني. والسكاكيني هذا: هو محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم الهمذاني ثم الدمشقي، المتوفى سنة 721 هـ، وقد قال في حقه الذهبيّ -وهو من هو بُغْضاً للرافضة-: "ومات شيخ الشيعة بدمشق وفاضلهم محمد
…
في صفر عن ست وثَمانين سنة، وكان لا يغلو ولا يسب معيناً، ولديه فضائل. روى عن ابن مسلمة، والعراقي، ومكي بن عَلَّان. وتلا بالسبع، وله نظم كثير. وأخذ عن أبي صالح الحلبيّ الرافضي. وأخذه معه منصور صاحب المدينة، فأقام بها سنوات، وكان يتشَيَّعُ به سُنَّةٌ، وَيتسَنَّنُ به رافضَةٌ. وفيه اعتزال" (1).
والخوانساري الشيعي، حين ترجمه في "روضات الجنات" قال:"ولم نجد في تراجم الشيعة، ومعاجم الإمامية، ما يدل على كَوْنِ الرجل منهم، فضلاً عن كونه من جملة فقهائهم ومجتهديهمَ، ولو كان ما ذكره الصفدي في حقه صحيحاً لما خَفِيَ ذكرُه عن أهل الحق، ولَما ناسب وصف الحافظ السيوطي إيَّاه بالحنبلية، مع أنها أبعدُ مذاهب العامة (2) عن طريقة هذه الطائفة الخاصة، كما أشير إلى ذلك في ترجمة أحمد بن حنبل، فليتأمل".
ومن جهة أخرى، يعتبر كتابه "شرح مختصر الروضة" في أصول الفقه ميزاناً لمعرفة مذهبه، ومرآة للكشف عن مكمن معتقده، فهو في هذا الكتاب على العكس مما نُسب إليه، نجده يترضى عن الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم -، وبخاصة الشيخين، ويصرح في أماكن مختلفة باعتقاده بما يعتقده أهل السنة والجماعة، ويرد على الشيعة، ويبيّن أن الحق بخلافها.
ويستعمل في بعض العبارات ما يستعمله الذين عندهم ميول صوفية، مما يُبعد كونه شيعياً، فالشيعة لا ينحون ذلك المنحى.
إلا في مواضع ثلاثة من كتابه المتقدم، قد يفهم منها ميوله للتشيع، ولكن الأمر غيرُ صريح، وهي:
(1) من ذيول العبر 117.
(2)
يعني الشيعة بالعامة: أهل السنة.
1 -
كلامه على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في الجزء الثاني ص 130، واستنتاجه أن أبا بكر رضي الله عنه توقف في خبره، وأنه تفرس فيه نوع ضعف أو تهمة. كما أنه يلاحظ أن الطوفي لا يترضى عن المغيرة رضي الله عنه عند ذكره، وقد أفاض فيمَا قيل عنه، ونقله من مصدر غير موثوق، وذلك في الجزء الثاني من ص 169 إلى ص 173.
2 -
كلامه على إجماع أهل البيت والإعتداد به في الجزء الثاني من ص 107 إلى ص 117، وقد توسع في ذكر أدلة الشيعة ومناقشتها، وإجاباتهم على الأسئلة الموجهة إليهم، وقواها في بعض الأماكن، ولكنه لم يظهر منه بشكل واضح ترجيحه للإعتداد بإجماع أهل البيت.
3 -
كلامه على خلافة أبي بكر رضي الله عنه في الجزء الثالث ص 262، وأنها تمت من باب القياس على الإمامة في الصلاة، لا بالنص عليها، وتجويزه - الطوفي - أنه كشف للنبيّ صلى الله عليه وسلم بوحي أو إلهام أن الخليفة بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بحكم المقدور السابق، وأنه لم يوص بالتغيير عليهما لذلك، ولا يلزم من ذلك رضاه
…
إلخ.
وهذا كلام غير صحيح، ولا يستقيم مع القول الحق في ذلك (1).
* * *
(1) نقلاً عن مقدمة تحقيق "شرح مختصر الروضة" ص 33 - 37. ط مؤسسة الرسالة، 1987.