الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
الإعتناء بعلوم الحديث الشريف
إذا كانت السمة الأولى للحنابلة متمثلة بالإستمداد من سيرة الإمام رضي الله عنه، ومواقفه وعلمه، تدوة في السلوك الفردي، ومنهجاً في الإصلاح الإجتماعي، وأصولاً في البحث العلمي، فإن الميزة الثانية التي تميز بها الحنابلة قد تمثلت بالعناية الواضحة بعلوم الحديث، والعمل على نشرها وخدمتها بإتقان.
لقد أسهم الحنابلة بجهد جهيد في خدمة السنة في شتى فنونها، فإذا فتشنا في أحاديث الأحكام وجدناهم من المشاركين في تجريدها، وإذا فتشنا في الأحاديث المتعلقة بالعقيدة وجدناهم حازوا فيه القدح المعلّى في جمعها وترتيبها، وكذلك في الشروح الحديثية، وعلم الرجال، وغير ذلك.
فهذا عبد الرحمن بن أبي حاتم (327 هـ) الرازي (1) الحافظ، نموذجاً حيا من تلك العناية بالحديث والسنة، وكتابه "الجرح والتعديل" لا يخفى على طالب حديث، كما أن كتابه في "التفسير" يعد مادة علم التفسير بالمأثور لمن جاء بعده، فقد جمع فيه الأحاديث المتعلقة بتأويل الكتاب العزيز، بالإضافة إلى موقوفات الصحابة، وأسباب النزول.
وصنف كتباً أخرى متنوعة، بالإضافة إلى ذلك قال الحافظ يحيى بن مندة: صنف ابن أبي حاتم "المسند" في ألف جزء، وكناب "الزهد" وكتاب "الكنى" وكتاب "الفوائد الكبير" و"فوائد أهل الري" وكتاب "تقدمة الجرح والتعديل".
زاد الذهبي: قلت: وله كتاب "العلل" مجلد كبير. وهو مطبوع بالقاهرة في مجلدين، وعامة ما فيه أجوبة أبيه -أبي حاتم- وأبي زرعة عن علل الأحاديث المتعلقة بالأحكام.
(1) ذكره ابن أبي يعلى في الطبقة الثانية من أصحاب أحمد، أخذ عن ابنه صالح، الطبقات 2/ 55.
وفي الجملة يعد هذا الرجل -كما قال أبو يعلى الخليلي- مستوعباً لعلم أبيه وأبي زرعة، وكان بحراً في العلوم ومعرفة الرجال. صنف في الفقه، وفي اختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار (1).
فمن أين جاءت هذه العناية الشديدة؟ إنها القدوة التي كان يترسمها من شيخ شيخه؛ الإمام أحمد، يدل على ذلك شيئان اثنان:
الأول: متابعته للإمام أحمد في أسماءْ المصنفات التي صنفها ومحتوياتها، "كالزهد"، و"الرد على الجهمية"، و"المسند"، و"العلل"، و"الكنى"، فهذه كلها عناوين لمؤلفات هذا وهذا.
الثاني: ذلك الثناء العطر الذي جمعه في "تقدمة الجرح والتعديل" عن الإمام أحمد وفضائله وعلمه وإمامته في الدين، مما يدل على إعجاب ابن أبي حاتم وتأثره البالغ بإمام السنة علماً وعملاً.
وإذا كان ابن أبي حاتم نموذجاً من المتقدمين، فأمامنا نموذج من المتأخرين متمثل ببيت كامل تسلسل فيه الإختصاص بالحديث وعلومه أباً عن جد، إنه بيت ابن منده العبدي الأصبهاني.
ففي ترجمة الحافظ يحيى ابن مندة (511 هـ)، قال ابن رجب (2): الحافظ "المحدث ابن المحدث، ابن المحدث ابن المحدث ابن المحدث ابن المحدث"!! فلاحظ كيف تشرف هذا البيت على الأقل بتوارث الحديث على مدى ستة أعقاب، فهو كما قال أبو بكر اللَّفْتَواني: بيت ابن مندة بُدئ بيحيى، وخُتم بيحيى. قال ابن السمعاني: يريد في معرفة الحديث والفضل والعلم (3).
ويعتبر الحافظ عبد الوهاب الأنماطي (538 هـ) محدث بغداد، بل حافظ عصره فيها، كما قال أبو موسى المديني في "معجمه". وكان مختصاً بجمع الأجزاء الحديثية التي كانت قد بلغت ذروتها في ذلك الزمان، وكان جمَّاعتها من قبله أبو الحسن ابن الطُيُوري، فقرأ الأنماطي ما عنده من تلك الأجزاء، حتى قال ابن السمعاني فيه: جمع الفوائد وخرج التخاريج، لعله ما بقي جزء مروي إلا وقد قرأه وحصل نسخته (4)!!
(1) السير 13/ 264 - 265.
(2)
ذيل طبقات الحنابلة 1/ 127.
(3)
المصدر السابق 1/ 128.
(4)
المصدر السابق 1/ 202.
وكان مع ذلك شيخًا لحفاظ زمانه من أمثال: ابن ناصر، والسَّلَفي، وابن عساكر، وأبي موسى المديني، وابن السمعاني، وابن الجوزي.
وكذلك كان في المقادسة حفاظ وجهابذة، منهم حافظ الإسلام عبد الغني المقدسي (541 هـ - 600 هـ) صاحب "العمدة" و"الكمال في أسماء الرجال" وغيرهما، الذي كان رفيقاً للموفق في رحلته إلى بغداد، وطلب العلم بها، والحافظ ضياء الدين المقدسي (569 هـ - 643 هـ) مؤرخ الأسرة المقدسية، صاحب كتاب "الأحاديث المختارة" وغيرها.
• بعض مشاهير محدثي الحنابلة:
وفيما يلي نجرد أسماء بعض الحنابلة الذين غلب عليهم في سيرتهم العلمية الإشتغال بالصناعة الحديثية وفنونها، مرتبين على تواريخ الوفيات:
- أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال (311 هـ) مؤلف كتاب "السنة" و"العلل" وغيرهما.
- أبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني (316 هـ) صاحب كتاب "الطهور" و، المصاحف" وغيرهما.
- أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد (348 هـ) صاحب كتاب "السنن".
- أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (360 هـ) صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها.
- أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده (395 هـ) صاحب "الكنى" و"معرفة الصحابة" وغيرهما.
- أبو الفتح محمد بن أبي الفوارس (412 هـ) صاحب "الفوائد" وغيرها.
- أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده (470 هـ) صاحب "المستخرج" و"المسند" وغيرهما.
- أبو الحسين علي بن الحسن بن أحمد الحنبلي (471 هـ) المقرئ الفقيه صاحب التصانيف التي بلغت مئة وخمسين كتاباً.
- أبو زكريا يحيى بن عمرو بن عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن منده
(511 هـ) الحافظ ابن الحافظ ابن الحافظ ابن المحدث وهو خاتمة المحدثين في بيت ابن منده.
- أبو موسى محمد بن عمر المديني (581 هـ) الأصبهاني الحافظ.
- أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي (600 هـ) صاحب التصانيف.
- أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي (612 هـ) صاحب "الأربعين المتباينة".
- أبو عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (643 هـ) صاحب "المختارة".
- أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحرّاني (728 هـ) شيخ الإسلام.
- شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي (744 هـ) صاحب "المحرر في أحاديث الأحكام".
- أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد المعروف بابن رجب (795 هـ) البغدادي، صاحب "شرح علل الترمذي" و"شرح جامع الترمذي"، وغيرهما.
وإذا كان البيت الحنبلي هو بيت الحديث، فلا جرم أننا نجد ذلك منعكساً على الفقه الحنبلي، فإنه فقه الحديث والسنة.
وما السبب فى تلك العناية الفائقة بالحديث عند الحنابلة يا ترى؟ إن السبب يعود في جوهره إلى التأثر بأمام المذهب ومؤسسه، إذ لا يخفاك أن الإمام أحمد قد اشتهر بشدة تمسكه بالحديث والأثر، ونزعته السلفية في ذلك. حيث وقف جزءاً كبيراً من حياته على تتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أُثر عن صحابته، حتى أصبح حجة في علم الحديث، وعلم الرجال.
وطغى ذلك على بقية العلوم لديه، مما جعل بعض العلماء يعده من المحدثين دون الفقهاء.
وإجلال السنة والوقوف عندها، وطلب تفسير القرآن منها أمر واضح في منهج أحمد رحمه الله، وفيمن تأثر به من أتباعه وأصحابه. ولذلك كان الفقه الحنبلي فقه السنة
والأثر، أو بالأخص ما روي عن الإمام أحمد من مسائل وفتاوى. فكان يكره أن يتكلم في شيء لم يكن له فيه سلف، وكان قد اجتمعت لديه مجموعة ضخمة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتاوي صحابته الكرام، حتى كان من شدة تمسكه ومتابعته للأثر إذا نقل عن الصحابة في المسألة قولان، روي عنه فيها روايتان (1).
وللسنة مقام كبير في فقه الإمام أحمد، ومن تبعه من أصحابه، ويحق للدارس في ذلك أن يعتبر ذلك الفقه هو فقه السنة لوقوفه عندها، وحرصه على الإستشهاد بها، وتقصيه لا ورد منها، حتى لقد كان الإمام أحمد رحمه الله يتوقف في الإفتاء، وفي المسائل حتى يجد لها سنداً من السنة، وأقوال الصحابة، وقول الصحابي يرتفع لديه إلى درجة قوية في الإستدلال (2).
* * *
(1) أصول مذهب الإمام أحمد ص 226.
(2)
المصدر السابق ص 229.