الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
الحياة السياسية في عصر الإمام أحمد
ولد الإمام أحمد رحمه الله سنة 164 هـ بعد مرور اثنتين وثلاثين سنة على ميلاد الدولة العباسية، على أنقاض الأمويين وأفول نجم دولتهم، ومات سنة 241 هـ. بعدما أنافت هذه الدولة على ما يزيد على القرن بعشر سنوات.
فكان الإمام أحمد شاهدًا لقرنها معاصرًا لثمانية من أشهر خلفائها على الإطلاق، وهم: المهدي (161 هـ 169 هـ)، والهادي (169 هـ - 170 هـ)، والرشيد (170 هـ - 193 هـ)، والأمين (193 هـ - 198 هـ)، والمأمون (198 هـ - 218 هـ)، والمعتصم (218 هـ - 227 هـ)، والواثق (227 هـ - 232 هـ)، والمتوكل (232 هـ - 247 هـ).
ولم يكن الإمام أحمد بمنأى عن مهد الخلافة ومقر إدارة شؤونها، بل كُتب له أن يولد ويعيش في عاصمتها بغداد -دارالسلام- التي اختطها العباسيون لأنفسهم من أول يوم، ولم تكن قبلهم شيئًا مذكورًا، فبناها المنصور، واتخذها عاصمة لدولته وسريرًا لملكه، وصارت منذ ذلك العهد مثابة للعلماء والأدباء والشعراء، ومشاهير الأعلام من كل صنف.
وكان القرن الذي عاصره الإمام أحمد رحمه الله قرن فتوة الدولة العباسية وزهرة شبابها، فكان الخلفاء المذكورون أقوياء، على تفاوت بينهم، عملوا بما أمدهم الله من الجهد والعون والإخلاص لتوطيد دعائم الخلافة والتمكين لها، وفرض هيبتها على دولة الروم التي كانت لا تزال إذ ذاك الدولة التي ترفع عقيرتها طمعًا باسترجاع ما ضاع من تحت يدها من الأراضي الشامية والمصرية والمغربية، فكان الخلفاء يردون على كل محاولة بغزوة في الصيف أو في الشتاء، فيفتحون ويغنمون ويأسرون.
ولم يكن الخلفاء العباسيون المذكورون بالصورة التي أضفاها عليهم دهاقنة المستشرقين، ومن سار على شاكلتهم من أصحاب الأدب الروائي في عصرنا الحديث، معنمدين على روايات القصاص وأصحاب النوادر والكتب الأدبية، التي لا يعنيها الإسناد والتوثيق بقدر ما يعنيها تزويق المسامرات وتلفيق المنادمات وتدبيج الحكايات الطريفة في مجالس فلان وفلان.
فقد جاء في ترجمة هارون الرشيد أنه غزا في حياة أبيه مرارًا .. وكان من أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزوًا وحجًا بنفسه .. وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم، وإذا حج أحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم .. وكان يحب الفقهاء والشعراء والأدباء ويعطيهم كثيرًا ولا يضيع لديه بر ولا معروف .. وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعًا إلى أن فارق الدنيا (1).
وجاء في ترجمة المأمون أنه كان من رجال بني العباس حزمًا وعزمًا ورأيًا وعقلًا وهيبة وحلمًا، ومحاسنه كثيرة في الجملة .. وكان كثير الغزو .. وفي سنة خمس عشرة -بعد المائتين- سار لغزو الروم، ومن غزوته عطف على دمشق، وفي سنة ست عشرة كرَّ غازيًا الروم، وجهز أخاه المعتصم ففتح حصونًا
…
وأقبل تُوفيل طاغية الروم، ثم وقعت الهدنة بعد أن كتب "تُوفيل"، فبدأ بنفسه، وأغلظ في المكاتبة، فغضب المأمون (2) وعزم على المسير إلى قسطنطينية، فهجم الشتاء.
وفي ترجمة المعتصم قال ابن كثير (3): فتح ثماني فتوحات: بلاد بابَك على يد الأفْشين، وعمورية بنفسه، والزُّطُ بعُجيف، وبحر البصرة، وقلعة الأجراف، وأعراب ديار ربيعة، والشَّارَك، وفتح مصر بعد عصيانها.
وقال الخطيب البغدادي (4): غزا المعتصم بلاد الروم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، فأنكى نكاية عظيمة في العدو، ونصب على عموربة المجانيق ....
(1) ترجمته مطولة في: تاريخ بغداد 14/ 5، للخطيب البغدادي، وتاريخ الطبري 8/ 347، وسير أعلام النبلاء 9/ 286، للذهبي، والبداية والنهاية 14/ 27، لابن كثير.
(2)
ترجمته مطولة في: تاريخ بغداد 10/ 283، وتاريخ الطبري 8/ 623 - 666، وسير أعلام النبلاء 10/ 272، والبداية والنهاية 14/ 214.
(3)
البداية والنهاية 14/ 283.
(4)
تاريخ بغداد 3/ 344.
وقد كانت الدولة العباسبة نشأت في خراسان بعيدًا عن البلاد العربية، فدخل في الدعوة إلى قيامها وتقويض ملك الأمويين جمهرة كبيرة من العجم، كالترك والفرس والديلم، وكان للعنصر الفارسي الحظ الأوفر والعدد الأكبر في ذلك، فلا جرم كان الخلفاء العباسيون يستعينون بهذه الألوان من الأمم العجمية في الإدارة والجيش والخدمات المختلفة.
فقد ولَّى العباسيون أسرة البرامكة مقاليد الوزارة ويعض ولايات الأقاليم منذ النشأة، فكان خالد بن برمك الفارسي توصل إلى أعلى المراتب في دولة أبي جعفر المنصور، ثم كان ابنه يحيى بمثابة رئيس الوزراء عند هارون الرشيد، فكان من أعظم الوزراء، وكان الرشيد يخاطبه: يا أبي، ثم كان ابنه جعفر نائبًا على دمشق بعد أن أخمد فيها فتنة العصبية هناك. وتولَّى الفضل بن يحيى إمرة خراسان وعمل الوزارة (1).
واتخذ الفضل بن يحيى جندًا من العجم سماهم "العباسية"، وجعل ولاءهم له، ويلغ عددهم خمس مئة ألف رجل، فقدم منهم بغداد عشرون ألفا فسموا ببغداد الكَرنبيّة (2).
واعتمد المعتصم هو الآخر على العنصر التركي، ولعل ذلك بسبب أن أمه "ماردة" كانت من الأتراك. فكون فرقة عسكرية كبيرة في جيش الخلافة بلغت نحوًا من عشرين ألفًا. ولما ضاقت بهم بغداد، وكثرت الخصومات بينهم ويين الفرس من جهة، وبينهم ويين العامة من جهة ثانية استوطن لهم بالقاطول شرقي بغداد، وبنى به مدينة سماها "سَامُراء" فاتخذها معسكرًا للجيش وحاضرة لملكه (3).
ولكن هؤلاء الأتراك كانوا من بعد الواثق بالله بلاء على الخلافة وقتلوا عددًا من الخلفاء تترى، كالمتوكل والمستعين والمعتز والمهدي.
ومن المعلوم أن ثورات الخوارج والعلويين كانت مما تميز به العهد الأموي، فلما جاء العباسيون خفّت وطأة الفريقين، وانكسرت شوكة الخوارج، ولم يعد لهم في هذه الدولة شأن، وكذلك العلويون لم يكن لهم من بعد الرشيد قوة يصاولون بها بني عمهم وينازلون.
أما المتمردون على سلطان الدولة بسبب العداوة للإسلام والمخالفة لملته، فكانوا غير قليل، فقد كثر أتباع ابن الراوندي الرافضي بأصفهان في عهد المنصور، وكثرت الزنادقة في العراق الشرقي ويلاد فارس، وهي حركة كانت تسعى في وجهتها العامة
(1) سير أعلام النبلاء 9/ 59 - 61، 89، 91.
(2)
تاريخ الطبري 5/ 257.
(3)
تاريخ الطبري 9/ 217، البداية والنهاية 14/ 287، أصول مذهب الإمام أحمد، ص 36.
الى الرجوع الى الديانات التي كانت قبل الإسلام سائدة هناك، كالمانوية والزرادشتية، والمذاهب الإباحية، كالمزدكية.
وظهرت طائفة باطنية تسمى "الخُرَّمية"، قال ابن كثير في حوادث سنة (201 هـ): وفيها تحرك بابك الخُرَّمي واتبعه طائفة من السِّفْلة والجهلة وكان يقول بالتناسخ قبحه الله ولعنه (1). واستمرت هذه الحركة تعيث فسادًا وتناوئ الخلافة العباسية وتتعاون مع الدولة الرومانية طيلة فترة خلافة المأمون، ولم يتمكن من القضاء عليها إلا في خلافة المعتصم سنة (223 هـ) على يد قائده الأفشين، بعد أن قُتل من المسلمين ما ينيف على ربع المليون (2).
وكان الغزو والجهاد مستمرًا، يغزو المسلمون مرتين في السنة الواحدة، فلذلك نجد المؤرخين يقولون: وغزا في صائفة هذه السنة فلان، وغزا في شاتيتها نلان. وكانت أكثر تلك الغزوات متجهة الى دولة الروم الشرقية الثي كانت عاصمتها القسطنطينية، حتى إن المأمون مات وهو على الحدود الساحلية من نواحي طرسوس يجاهد ويفتح الحصون.
* * *
(1) البداية والنهاية 14/ 121.
(2)
تاريخ الطبري 9/ 29 - 55، وسير أعلام النبلاء 10/ 293.