الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرحلة الثانية
المحنة في زمن المعتصم
انتهت المحنة في مرحلتها الأولى بموت المأمون، فتنفس الإمام أحمد ومن معه الصعداء، وظنوا أن الفتنة قد انكشفت، والمحنة قد انجلت، فأرجعوا إلى بغداد، ولكنهم وضعوا في إقامة جبرية مؤقتة.
وكان المعتصم قد خَلفَ أخاه المأمون على خلافة المسلمين، وهو بطرسوس، وكان المعتصم على عكس ما كان عليه المأمون من سعة الثقافة، حتى إنهم قالوا: كان أميًا لا يحسن الكتابة. فقد أوقفه أبوه الرشيد عن التردد على الكُتَّاب، وهو صغير، فبقي أميًا (1).
وإذا كان المعتصم على هذا المستوى وقد تسلم مقاليد الخلافة، فلا ريب أن حجته هي السيف، لكن كان إلى جانبه ذلك الرجل المفوه العليم اللسان، الذي قد قويت شوكته في أيام المأمون، ثم استفحلت في زمن المعتصم والواثق من بعده، إنه أحمد بن أبي دواد الإيادي، فقد جاء به أبوه إلى الشام، وهو حدث صغير، فنشأ في طلب العلم، وخاصة الفقه والكلام حتى بلغ ما بلغ، وصحب هياج بن العلاء السلمي، وكان من أصحاب واصل بن عطاء،
فأشربه هياج لبن الإعتزال من أول يوم (2).
كان أحمدُ البدعة يفتل للمعتصم في الذروة والغارب حتى يجيبه إلى ما يريد، كما كان يفعل مع المأمون قبل ذلك، بل كان عيبته ومن خواصه في كل شيء، حتى قال لازون ابن إسماعيل: ما رأيت أحدًا قط أطوع لأحد من المعتصم لإبن أبي دوَاد، وكان يُسأل الشيء اليسير فيمتنع منه، ثم يدخل ابن أبي دواد، فيكلمه في أهله، وفي أهل الثغور، وفي الحرمين، وفي أقاصي أهل المشرق والمغرب، فيجيبه إلى كل ما يريد (3).
وكان المأمون قد أوصى به المعتصم عند موته، فقال له: وأبو عبد الله أحمد بن أبي دواد لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع ذلك، ولا تتخذن بعدي وزيرًا. فلما ولي المعتصم جعله قاضي القضاة (4).
(1) البداية والهاية 14/ 284.
(2)
وفيات الأعيان 1/ 81.
(3)
المصدر السابق 1/ 83.
(4)
المصدر السابق 1/ 84.
وأما إمامنا أحمد، فقد أخذ مقيدًا في الأغلال بعدما مات رفيقه محمد بن نوح بالطريق، فحبس في قرية قرب بغداد، اسمها "الياسرية"، فمكث أيامًا، ثم حبس بدار اكتريت له ببغداد، ثم حول إلى السجن العام، فبقي هناك 28 شهرًا (1) من جمادى الآخرة سنة 218 هـ إلى رمضان سنة 220 هـ.
• حالة الإمام أحمد في السجن:
كان الإمام أحمد يعيش حياة السجناء في ذلك الوقت، وكان السجين يقيد في الأغلال طيلة فترة سجنه. فقال الإمام أحمد: كنت أصلي بأهل السجن وأنا مقيد. وكأن الله امتن عليهم بأحمد بن حنبل، كما امتن بيوسف عليه السلام على سجناء مصر، غير أن ذاك نبي، وهذا ولي.
وكان الناس يزورون السجناء بغير صعوبة (2)، فكانت صلة الإمام أحمد بالناس مستمرة عبر هذه الزيارات، وكان الناس يعرفون قدره بعد أن تقررت له الفضائل وانعقدت له الإمامة في الدين.
وتذكر الروايات أن إسحاق بن إبراهيم كان يرسل إلى أحمد رجلين يناظرانه وهو في السجن، وتكرر ذلك يومين أو ثلاثة، فلما تنتهي المناظرة وتبوء بخيبتهم يشدد عليه الوثاق، فلما استيئسوا منه في اليوم الرابع حمل مكبلًا إلى مجلس المعتصم (3).
• ملاحظات على مسيرة الأحداث:
يتلخص من مجموع ما تقدم في حوادث ما قبل الضرب بين يدي المعتصم ما يلي: أولًا: كان ابن أبي دواد لا يفارق المعتصم، وهو اليوم قاضي القضاة؛ أي المسؤول عن جميع الشؤون العدلية في الدولة، فكان هو اللسان الناطق باسم المعتصم في محاججة
(1) المناقب ص 395، السير 11/ 242، البداية والنهاية 14/ 398.
(2)
المناقب ص 395.
(3)
المناقب ص 397، السير 11/ 243، البداية والنهاية 14/ 398.
الإمام أحمد (1)، وكان هو المحرض للمعتصم على تنفيذ أقسى عقوبة بحقه باعتبار أنه ضال مضل في نظر هذا الشقي!
ثانيًا: يبدو أن المعتصم لم يكن يعرف الإمام أحمد قبل مقابلته، بل وصف له وصفًا مخالفًا لما شاهده بعينه من سجيته وخلقته وسنه. فدل ذلك على أن رائد المحنة هو أحمد بن أبي دواد، وأن المعتصم صار عصا غليظة في يده، يضرب بها كيف يشاء.
ثالثًا: بعد مرور جزء من المقابلة حين أظهر الإمام أحمد للمعتصم عدم وجود مسوغ لهذه المحنة، اعتذر إليه بأنه لم يكن سببًا فيها، وأنه إنما يتابع من قبله (المأمون).
رابعًا: كان أحمد بن أبي دواد يحرض الخليفة باستمرار على النيل من الإمام أحمد، وكان المجلس مليئًا بالقضاة والفقهاء، ويبدو أنهم كانوا على رأي ابن أبي دواد.
خامسًا: تكررت المقابلة والمناظرة ثلاثة أيام، وفيها سمع الإمام أحمد ببعض المصطلحات الفلسفية والكلامية التي يلحن بها الخصم، ولم يكن يعرفها أحمد من قبل، وكان يُغَلب الكتاب والسنة ويلتمس العذر في قصر الحجاج عليهما، مما أعجز المعتزلة وأثار حفيظتهم.
سادسًا: كان المعتصم يظهر من حين الى آخر خوفه من التورط في الإساءة إلى الإمام أحمد، وأنه ظالم له، فيرده أحمد بن أبي دواد ويشد من أزره، وكذلك إسحاق بن إبراهيم.
• مرحلة التعذيب الجسدي:
صدر الأمر ببداية التعذيب من قبل المعتصم بعدما اشتط غضبه، وكانوا قبل ذلك يرجون منه التنازل، ولو بشيء قليل عن موقفه، خشية هذه المواجهة التي تبين أن المعتصم كان غير مقتنع بها في قرارة نفسه. وكان ابن أبي دواد يقول: يا أمير المؤمنين، والله لئن أجابك
(1) أشار الجاحظ إلى بعض تلك المساجلات في رسالته "خلق القرآن" وكان فيها رافعًا من شأن صاحبه، وحاطًا من شأن الإمام أحمد. والرسالة مطبوعة ضمن مجموع رسائله، نشرتها مكتبة الخانجي بمصر.
لهو أحب إلي من مائة ألف دينار، ومائة ألف دينار، فيعد من ذلك ما شاء الله!! فقال المعتصم: والله لئن أجابني لأطلقنَّ عنه بيدي، ولأركبن إليه بجندي، ولأطأن عقبه (1)!!
وهذا يدل على عظم مكانة أحمد في الناس واقتدائهم به. وعندئذ جُرّد الإمام أحمد وأخذ إلى مكان التعذيب، فضرب نحوًا من ثلاثين سوطًا، ضربًا مبرحًا شديدًا، وكان ذلك بحضرة المعتصم وجماعته، وكان يعرض عليه أن يعود عن رأيه بين الضربات والضربات، فلم ينبس ببنت شفة، على الرغم من أنه أغمي عليه مرارًا، وكان ذلك في أواخر رمضان، وهو صائم، وكان قبل ذلك أخبر عن نفسه أنه لا يخاف من القتل بقدر ما يخاف من الضرب.
ثم أفرج عنه يوم 25/ رمضان/ 220 هـ، وسرح إلى أهله (2)، فذهب مضرجًا بالدماء. وهل أفرج عنه رحمة به؟ الواقع أن ذلك كان ليأسهم من حياته، ولكن كان المكر يقضي لهم بأن يتركوه يموت بعيدًا عن ساحة الخليفة، لئلا يكون في ذلك بطلًا في الثبات وشهيدًا لا ينسى.
قال ابن أبى دوادَ بعد ما أُشير على المعتصم بقتله: لا يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإنه إن قتل أو مات في دارك، قال الناس: صبر حتى قتل، فاتخذه الناس إمامًا، وثبتوا على ما هم عليه، ولكن أطلقه الساعة، فإن مات خارجًا من منزلك، شك الناس في أمره، وقال بعضهم: أجاب، وقال بعضهم: لم يجب!! (3).
وهكذا كانت المكيدة تتوالى عليه!!
ويقي الإمام أحمد في بيته يمرَّض من قبَل أولاده، وقد أقعدته السياط وأثنته عن الحركة، وكان المعتصم خائفًا يترقب أخباره خَشية أن يموت من جراء ذلك، فيبوء بإثمه، فلما شفي أحمد وتماثل للعافية سُرّي عن المعتصم (4).
* * *
(1) الماقب ص 401، السير 11/ 247.
(2)
ذكر العليمي في "المنهج الأحمد"(1/ 108): أن المحنة كانت في سنة 218 هـ عقب دخول المعتصم إلى بغداد، وأن الذي تولى كبرها هو بشر المريسي (ت 218 هـ) وأن أحمد استمر في السجن إلى سنة 220 هـ، وهذا كله غريب لا تساعده الروايات واستقراء الأحداث. والله أعلم.
(3)
المناقب ص 420، السير 11/ 259.
(4)
البداية والنهاية 14/ 404.