الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
أثر سيرة الإمام أحمد على الحنابلة
لقد أتينا على سيرة الإمام المبجل بالقدر الذي يستدعيه البحث في السابق، ونتصور أننا قد وضعنا أمام القارئ مرآة جلية تنعكس عليها الصورة الكاملة لهذا الإمام العظيم، ويمكنه بسهولة أن يطالع تلك السيرة الحافلة بالأمجاد والمواقف التي صارت فيما بَعدُ معالم للعالم الرباني والإمامِ القدوةِ لغيره.
والآن نحاول أن نمهد للقارئ شيئاً جديدًا مما هو من نتائج تلك السيرة الجليلة، فيما يخص الأثر الذي تركته في نفوس أصحابه، ومقلدة مذهبه إلى عهود وقرون متطاولة.
لقد كان إمام السنة مدرسة لأصحابه يتعلمون فيها الزهد والورع، والإقتداء بالسلف، والإخلاص في العلم، وغير ذلك من الفضائل والمناقب التي دون حصرها خرط القتاد.
فلا تعجب إذا وجدت في تاريخنا الثقافي أو في مكتبتنا الإسلامية ذلك العدد الكبير من الأئمة والحفاظ والمؤرخين، يفردون سيرة هذا الإمام بالدراسة، ويدبجون الصحف في جمع مناقبه وتسجيل فضائله، ناهيك عفا كُتب عنه ضمن المجاميع والدواوين المخصصة لتواريخ البلدان وطبقات المحدثين والفقهاء أو غير ذلك.
فقد كانت أخلاق الإمام أحمد جذابة للطلاب ليلتفوا حوله، ويأخذوا من مشكاته المضيئة، فقد وصفا المرّوذي -وهو من ألصق أصحابه به- تلك الأخلاق الجذابة، فقال:
كان أبو عبد الله لا يجهل، كان جُهل عليه حَلُم واحتمل، ويقول: يكفي الله. ولم يكن بالحقود ولا العجول، كئير التواضع، حسن الخلق، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظ، وكان يحب في الله، ويبغض في الله، وإذا كان في أمر من الدين، اشتد له غضبه. وكان يحتمل الأذى من الجيران (1).
(1) السير 11/ 220.
فانظر وتأمل في هذا الوصف، وقارنه مع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أليس حقاً إذا قلنا: إنه مجدد سنة الأخلاق النبوية الشريفة؟ وأظن أنك وقفت على ذلك القلب الكبير الذي أعفى المعتصم ومن معه ممن شاركوا في تلك المحنة، وحلَّلهم من تبعاتها إلا مبتدعاً مضلاً، وأعقب ذلك بقوله: وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سبيلك (1).
هذه الجاذبية أفاءت على أصحابه وملازميه قدوة في السلوك، ومثالاً يحتذى في الأخلاق التي يجب على العالم أن يلتزم بها، ولا ريب أن الإنسان يتأثر بالشعاع المسلط عليه، والخلة والصحبة تنقل السجايا والأخلاق والصفات، كما قالوا:
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه
…
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وإن المتقلب بين صفحات تراجم أئمة المذاهب الفقهية، مطالعةً ودراسةً، ليجد تميزاً واضحاً لدى الحنابلة، يتمثل بتأثير سيرة الإمام على المنهج العلمي والعملي على سواء.
فاهتمام الحنابلة الكبير بالسنة والآداب، والإقتداء بالسلف لم يكن إلا صورة منعكسة لما كان عليه أحمد بن حنبل رضي الله عنه في هذا الجانب، فقد ألزم نفسه أن لا يكتب حديثاً إلا وقد عمل به، حتى مر به أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً، فأعطى الحجام ديناراً حين احتجم (2).
قال الذهبي: وإلى الإمام أحمد المنتهى في معرفة السنة علماً وعملاً، وفي معرفة الحديث وفنونه، ومعرفة الفقه وفروعه، وكان رأساً في الزهد والورع والعبادة والصدق (3).
وهكذا كان الإمام أحمد يفضل لنفسه أن يعيش حياة سلفية خالصة، مع أنه كان في عاصمة الحضارة الإسلامية التي قد تجمعت فيها كل أسباب النعيم والرفاهية، وقد تجرد من جميع ملابسات العصر، ومناحراته، وما يجري من منازلات فكرية وسياسية أو اجتماعية أو حريية، واختار أن يحلق في جو الصحابة والصفوة من التابعين، ومن جاء بعدهم، ممن نهج نهجهم، واختار سبيلهم.
ولأجل ذلك كان علمه وفقهه هو السنة بعينها، لا يخوض في أمر إلا إذا علم أن الصحابة خاضوا فيه، فإن علم بذلك اتبع رأيهم، ونفى غيره، وإن لم يعلم أن الصحابة خاضوا في ذلك الأمر كف عنه، واستعصم متوقفاً حذراً، فلا يقفو ما ليس له به علم،
(1) السير 11/ 261.
(2)
السير 11/ 213، 296.
(3)
السير 11/ 292.
لأنه يعتقد أن الخروج عن تلك الجادة زيغ عن منهاج السلف، وإلحاد في دين الله سبحانه وتعالى، لا يتكلف التعمق في مسائل عقلية قد تكون متاهات للعقل البشري، وإن خرج من وعثائها سالمًا، فقد جهد نفسه في غير طائل، وشغل فكره في غير جدوى.
قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: من أحب الكلام لم يفلح، لأنه يؤول أمرهم إلى حيرة، عليكم بالسنة والحديث، وإياكم والخوض في الجدال والمراء، أدركنا الناس، وما يعرفون هذا الكلام، عاقبة الكلام لا تكون إلى خير (1).
والخلاصة: أن الإمام أحمد تميز عن غيره: بأن كانت له شخصية جد مؤثرة، قد لاح أثرها في مرآة طبقات علماء المذهب بجلاء لمن تصفحها تصفح المتأمل البصير.
وفي هذا السياق يقول الأستاذ سعدي أبو جيب:
لقد وقفت على سيرة علماء الحنابلة من أصحاب الإمام أحمد، ومن جاء بعدهم، حتى منتصف القرن الثامن الهجري، فوجدت أحمد في كل واحد منهم فكراً، ومنهجاً، ونظرة للحياة
…
بل إني وجدت جانباً أو أكثر، من جوانب شخصية الإمام أحمد، حيا يتجول بين الأسطر ..
تلك ظاهرة لم أجدها عند علماء مذهب من المذاهب
…
أسجلها للتاريخ
…
ليس إلا ..
وعن عمد لم أجعل ميدان دراستي أصحاب الإمام أحمد، وتلاميذهم، من الذين ترجم لهم القاضي أبو يعلى (2)، حتى لا تذهب بك الظنون إلى أن هؤلاء لقربهم من الإمام ربما كانوا أشد تأثراً به من سواهم .. وأنت محق في ذلك بلا شك، لأن طبيعة الأمور، وواقع الحياة يؤكد ما ذكرت ..
ولهذا اخترت العلماء الذين ترجم لهم ابن رجب، وهم الذين أدركهم الأجل خلال انفترة الممتدة من 460 هـ إلى 751 هـ (3).
ثم مضى في تسجيل النتائج التي ألّفت ما بين الإمام وأتباعه بتأليف محكم على الرغم من بعد الزمن وتطاول القرون.
* * *
(1) السير 11/ 291.
(2)
لا يخفى أن صاحب "الطبقات" هو القاضي أبو الحسين (526 هـ) ابن القاضي أبي يعلى (458 هـ).
(3)
أحمد بن حنبل السيرة والمذهب، ص 461، دار ابن كثير، 1998.