الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسباب المحنة
كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائمًا في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فلما استشهد قُفْلُ باب الفتنة عمر رضي الله عنه، وانكسر الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان رضي الله عنه حتى ذبح صبرًا. وتفرقت الكلمة، ووقعت وقعة الجمل، ثم وقعة صفّين، فظهرت الخوارج، وكفَّرت سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب.
وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المائتين. وكان المأمون الخليفة ذكيًا متكلمًا، له نظر في المعقول. فاستجلب كتب الأوائل، وعرب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخَبّ ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها. وآل به الحال إلى أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء، فلم يُمهَلْ، وهلك دعامه، وخلّى بعده شرًّا وبلاء في الدين، فإن الأمة مازالت على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأن كلام الله مخلوق مجعول، وأنه إنما يضاف إلى الله تعالى إضافة تشريف؛ كبيت الله وناقة الله. فأنكر ذلك العلماء، ولم تكن الجهمية يظهرون في دولة المهدي والرشيد والأمين. فلما ولي المأمون كان منهم وأظهر المقالة (1).
وهاتان الفرقتان اللتان كانت لهما صولة ودولة في تلك الأيام قد عرفتا وترجم لهما أصحاب الملل والنحل. وإليك خلاصة التعريف بهما:
• الجهمية:
هي فرقة من الفرق الضالة المنحرفة، ضلت بمجموعة مقالات في الإعتقاد، خالفت فيها الحق وأهل السنة والجماعة، فعرفت بذلك، وصار هذا الإسم عنوانًا عليها، وهو
(1) سير أعلام النبلاء 11/ 236.
عبارة عن نسبة إلى زعيمها الأول "جهم بن صفوان"(ت 128 هـ)، وخلاصة آرائه الإعتقادية الضالة:
1 -
أن الإنسان مجبَرٌ على أفعاله مضطرٌّ إليها، مسلوب الإستطاعة. فلا فعل لأحد في الوجود غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين بالمجاز.
2 -
أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان.
3 -
الإيمان هو المعرفة بالله فقط، كما أن الكفر هو الجهل به فقط.
4 -
أن علم الله تعالى حادث.
5 -
الإمتناع عن وصف الله تعالى بأنه حيٌّ أو عالم أو مريد، مما يجوز إطلاقه على غيره من المخلوقات. وأجاز وصفه تعالى بأنه قادر وموجد وفاعل وخالق ومحيي ومميت.
6 -
القول بحدوث كلام الله تعالى كما قالت ذلك العتزلة (1).
بالإضافة إلى هذا الخلاف في العقيدة فإن جهمًا وأتباعه كانوا من الخارجين على الدولة الإسلامية بالسلاح منذ الدولة الأموية، وكانوا بنواحي خراسان ونهاوند.
• المعتزلة:
وهي الأخرى فرقة ضالة مشهورة في تاريخ الإسلام بمقالاتها، وكثرة أتباعها إلى قرون متأخرة. وقد كان منشؤها بالبصرة في أيام الحسن البصري، ولم تعرف بنسبتها إلى زعيم بعينه، وإن كان أول من قال بالمنزلة بين المنزلتين هو واصل بن عطاء (ت 131 هـ)، وتكونت مقالاتها شيئًا فشيئًا ابتداء من القول بنفي القدر، ولهذا سميت بالقدرية. وهذه خلاصة آرائها:
1 -
نفي الصفات الأزلية الثابتة لله سبحانه؛ كالسمع والبصر والقدرة والإرادة والعلم والحياة، فلم يكن لله سبحانه في الأزل اسم ولا صفة على حد قولهم هذا.
2 -
نفي رؤية الله تعالى بالأبصار يوم القيامة، وأنه لا يرى نفسه. وهل يرى غيره؟ اختلفوا في ذلك.
(1) ينظر: الفرق بين الفرق، للبغدادي ص 199. ط. دار الآفاق الجديدة، بيروت.
3 -
حدوث كلام الله عز وجل، وحدوث أمره ونهيه وخبره. ثم صاروا بعد ذلك يصرحون بان كلام الله مخلوق. وهو الذي كان سببًا في المحنة.
4 -
إن الله ليس بخالق لأفعال العباد الإختيارية، وكذلك أفعال الحيوانات الأخرى. ولأجل هذه المقالة سُمُّوا بالقدرية.
5 -
تنزيل الفاسق منزلة دون منزلة الإيمان وفوق منزلة الكفر. وبهذا اعتزلوا قول الأمة بأسرها، فسموا معتزلة لذلك (1).
وهناك مقالات عديدة متفرعة عما ذكرناه سببها الجدل الطويل الذي عرفوا به، والفلسفة التي اتخذوها وسيلة لجدلهم في الدين، وتكونت أصولهم بعد ذلك في خمسة أبواب، شرحها القاضي عبد الجبار الهمداني في كتاب كبير، وهي:
1 -
التوحيد، ويجمع مسائل الصفات التي سبقت الإشارة اليها.
2 -
العدل، ومنه مقالاتهم في وجوب الثواب والعقاب والصلاح والأصلح على الله تعالى.
3 -
الوعد والوعيد، ومنه نتج قولهم بعدم الشفاعة، وعدم المغفرة لمرتكب الكبيرة
…
4 -
المنزلة بين المنزلتين، وهو سبب التلقيب بالمعتزلة.
5 -
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه محتم على جميع المسلمين، كل حسب استطاعته باللسان والسيف واليد كيف قدروا على ذلك (2).
وبهذا يتبين لك أن الجهمية والمعتزلة شريكان في القول بخلق القرآن، لكن يجب أن تتنبه إلى الفرق بينهما في نشأة هذه المقالة بين صفوفهم، فالجهمية قالوا ذلك من أول يوم، والمعتزلة إنما حدث فيهم ذلك بعد مُضي زمن على نشأة فرقتهم بالبصرة.
وقد كان ينشر هذه المقالة ويدعو إليها ببغداد رجل من كبار المرجئة اسمه "بشر بن غياث المريسي"(ت 218 هـ)، وكان في أول أمره يتجه إلى الفقه، فجلس إلى أبي يوسف القاضي، وأخذ عليه وروى عنه الحديث وعن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة، ثم أخذ في تعاطي علم الكلام فانشغل به وأُشرب حبه، فنصحه الإمام الشافعي بتركه فلم يقبل منه. وقال الشافعي: لأن يلقى اللهَ العبدُ بكل ذنب ما عدا الشرك بالله أحب إليَّ من أن يلقاه بعلم الكلام.
(1) الفرق بين الفرق، ص 93 - 94.
(2)
مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، ص 278، ابن حنبل لأبي زهرة ص 135.
قال ابن خلكان في المريسي: جرد القول بخلق القرآن وحكي عنه في ذلك أقوال شنيعة، وكان مُرجئًا، وإليه تنسب المريسية من المرجئة (1).
قال الدورقي: إن هارون الرشيد قال: بلغني أن بشر بن غياث المريسي يقول: القرآن مخلوق، فلله علي إن أظفرني به لأقتلنه، قال: وكان متواريا أيام الرشيد، فلما مات الرشيد، ظهر ودعا إلى الضلالة (2).
وكان المأمون قد قرب المعتزلة، واتخذهم ندماءه وسُمّاره، واختصهم بمجلسه، فتلقف عنهم هذه البدعة حتى صار يلحن بها، ولكنه لم يجرؤ على إبدائها للناس والدعوة إليها علنًا؛ لأن بغداد، وباقي حواضر الإسلام، كانت تزخرُ بعلماء السنة من المحدثين والفقهاء وغيرهم. فقد قال المأمون مرة ليحيى بن أكثم وجماعة: لولا يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق. فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، ومن يزيد حتى يتقى؟! فقال: ويحك إني أخاف إن أظهرته فيرد علي، فيختلف الناس وتكون فتنة، وأنا أكره الفتنة (3).
ويحيى بن أكثم من علماء السنة الذين كانوا يصحبون المأمون، وهو الذي أقنعه بالرجوع عن الإعتقاد بجواز نكاح المتعة بعد أن كان قد تبنى القول به. وأما يزيد بن هارون فقد توفي سنة (206 هـ).
ومن ذلك الحين يقدر أن المأمون جعل يستعلن بهذه المقالة، ويعقد المجالس لمناقشتها، لأنه كان يسأل عن يزيد وموته باستمرار (4).
ثم إن المأمون امتحن القضاة والفقهاء والمحدثين والمؤرخين بهذه المقالة، كما سير بعد قليل إن شاء الله.
* * *
(1) وفيات الأعيان 1/ 277.
(2)
المناقب، ص 385، السير 11/ 236.
(3)
المناقب ص 386، السير 11/ 237.
(4)
السير 9/ 364.