الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَمْهِيدْ
رسمنا هذا الدور بعنوان "دور النقل والنمو". وهو دور يترتب فوق "دور التأسيس والتدوين" مباشرة، فالمذاهب الفقهية على اختلافها دونت بعد نشأتها، ثم نقلت وأخذت تنمو قليلًا قليلًا، وتتكامل مع الزمان، وفي أعقاب هذا الدور أخذت عبارات النقل ومصطلحاته تلوح في الأفق، وأخذت الروايات والوجوه تتمايز قوة وضعفا، وصحة وسقمًا، من حيث انتسابها إلى الإمام المجتهد وأصحابه. فهناك الصحيح، والأصح، والضعيف، والشاذ، والمنكر من الأقوال والوجوه.
والنقل للفقه مسؤولية صعبة وأمانة ذات حمل ثقيل، إذ تعتبر طرق النقل والرواية مظنة للخطأ والغلط والإلتباس، بل والكذب في بعض الأحيان، فكان لابد من ضبط قواعد نقل الفقه وروايته، لئلا يضيع بين تلك الأخطاء والأغلوطات والأوهام التي تعرض للرواة عادة، وقد عالج منها نقاد الحديث وصيارفته من قبل معالجة لا تخفى.
وفي مجمل هذه القواعد والشروط اللازمة في نَقَلَة الفقه الإسلامي على وجه العموم ننقل إليك كلام الجويني بحرفه لما فيه من النفائس. فقد قال رحمه الله:
"لا يستقل بنقل مسائل الفقه من يعتمد الحفظ، ولا يرجع إلى كيس وفطنة وفقه طبع. فإن تصوير مسائلها أولًا، وإيراد صورها على وجوهها لا يقوم بها إلا فقيه. ثم نقل المذاهب بعد استتمام التصوير لا يتأتى إلا من مرموق في الفقه خبير، فلا ينزل نقل مسائل الفقه منزلة نقل الأخبار والأقاصيص والآثار. وإن فُرض النقل في الجليات من واثقٍ بحفظه، موثوق به في أمانته، لم يمكن فرض نقل الخفيات من غير استقلال بالدراية.
فإذا وضح ما حاولناه من صفة الناقل، فالقول بعد ذلك فيما على المستفتين. فإذا وقعت واقعة، فلا يخلو إما أن يصادف النقلة فيها جوابًا من الأئمة الماضين، وإما أن لا يجدوا فيها بعينها جوابًا. فإن وجدوا فيها مذهب الأئمة منصوصًا عليه نقلوه واتبعه المستفتون".
ثم قال: "قد تقدم أن نقل الفقه يستدعي كيسًا وفطنة وحُظوة بالغة في الفقه. ثم الفقيه الناقل يُفرض على وجهين:
أحدهما: أن يكون في الفقه على مبلغ يتأتى منه بسببه نقل المذاهب في الجليات والخفايا، تصويرًا وتحريرًا، وتقريراً، ولا يكون في فن الفقه بحيث يَسْتَدُّله قياسُ غير المنصوص عليه على المنصوص. فإن كان كذلك، اعتُمد فيما نقل
…
" (1).
فراوية الفقه ليس كراوية الأخبار، بحيث يكتفى فيه بالعدالة مع الضبط، بل لابد من الفقاهة، ولابد من الدراية بمسالك الإجتهاد التي اختطها الأئمة المنقول عنهم، وذلك يتطلب قدرًا من الفهم والمراس، والمعرفة بالمعاني، والقواعد، وطرق الإستدلال، ومناهج الإستنباط.
والنقل الذي نتحدث عنه كما يكون في الرواية والحكاية لمذهب الإمام المجتهد، كذلك يكون في عملية التخريج والإثراء والزيادة على المنصوصات بالوجوه والأقوال المخرجة المختلفة.
فكلمة "النقل" لها مدلولها بهذا المعنى الثاني على وجه الخصوص، ولذلك فهي قريبة من كلمة "التخريج" في المعنى والمضمون إلا أن بينهما فرقًا. أوضحه الشيخ عبد القادر بدران بقوله:
"واعلم أيضاً أن بين التخريج والنقل فرقًا، من حيث إن الأول أعم من الثاني؛ لأن التخريج يكون من القواعد الكلية للإمام أو الشرع أو العقل؛ لأن حاصل معناه: بناء فرع على أصل جامع مشترك، كتخريجنا على تفريق الصفقة فروعًا كثيرة، وعلى قاعدة "تكليف مالا يطاق" أيضًا فروعًا كثيرة في أصول الفقة، وفروعه، وقد جعل فقهاؤنا ذلك كأنه فن مستقل، فألف فيه الحافظ ابن رجب كتابه المسمى بـ"القواعد الفقهية" وألف بعده في ذلك ابن اللحام، لكنهما لم يتجازوا في التخريج القواعد الكلية الأصولية.
وأما النقل: فهو أن ينقل النص عن الإمام، ثم يُخرج عليه فروعًا، فيجعل كلام الإمام أصلًا وما يخرجه فرعًا، وذلك الأصل مختص بنصوص الإمام، فظهر الفرق يينهما" (2).
(1) الغياثي: 417 - 421، تحقيق د. عبد العظيم الديب.
(2)
المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للشيخ عبد القادر بدران، ص 136. وأصله مذكور في "شرح مختصر الروضة"، للطوفي، 3/ 644 - 645.
هذا، ونحاول في دراسة هذا الدور أن نبرز مميراته العامة فيما يتعلق بتصوير الخريطة السياسية للعالم الإسلامي، تتلوها الخريطة الإجتماعية، ثم الخريطة الثقافية التي لها علاقة قوية جدًا ببحثنا في البحث الذي يليه، والذي قد خُصص لبيان الأعمال المهمة التي قام بها رجال هذا الدور، في الجمع والإختصار، وعَمَلِ الشروح والتآليف الجزئية المفردة، والكتابة في أصول الفقه الحنبلي. ولابد أن نعرف بأبرز هؤلاء الرجال الذين قامت على عواتقهم هذه الجهود والأعمال الناقلة للمذهب والمنمية لشجرته الباركة. والله ولي توفيقنا وعليه التكلان.