الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَمْهِيدْ
لم نر ضرورة تدعو إلى تقسيم فترة ما بعد نهاية القرن الرابع إلى يومنا هذا إلى أكثر من دور واحد، وذلك لأن الأعمال الأساسية في تحرير المذاهب الإسلامية الفقهية التي دونت وانتشرت، أصبحت منجزة ومستكملة في حدود نهاية القرن الرابع، ولذلك لم يبق لمن جاؤوا بعدهم من العلماء إلا الترتيب الفني والجمع بين الكتب والمصنفات، والموازنة في نطاق الرواية والحكايهَ للخلاف، وغير ذلك من الأعمال التي سنشير إليها في مواضعها المناسبة إن شاء الله تعالى.
ولا شك أن المذهب الحنبلي انتشر انتشارًا متاخراً عن بقية المذاهب التي كانت في ذات الوقت تتعرض للإنحسار والإنقراض من بعض الأمصار. وفي ظل هذا الإنتشار كان المذهب الحنبلي يتطور نحو الأحسن، ويتوجه نحو الإزدهار والقوة والتمكن في أصوله وفروعه ومناهجه. ولذلك لا نتفق مع الشيخ محمد بن الحسن الحجوي حين عَمَّم في وسم هنا الطور بأنه "طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم"(1)، فإن هذه الشيخوخة، وهذا الهرم إن لزم بعض المذاهب، فإنه لا يلزم المذهب الحنبلي، لأننا إذا رجعنا إلى كتب المذاهب المعتمدة إلى يومنا هذا، فإننا نجد سائر المذاهب لا زالت نحتفظ بكتب المتقدمين "كالمدونة" عند المالكية، ومختصري الطحاوي والقدوري عند الحنفية، و"الأم" عند الشافعية، أما المذهب الحنبلي فإنه لا يكاد يعرف إلا من خلال مؤلفاته التي صنفها الأئمة فيما بعد القرن الرابع. وهذا يدل بصفة عامة على مدى الجهود المبذولة في تنمية هذا المذهب وتقويته على مدى القرون الثلاثة الأولى من هذا الدور على الأقل.
ويبدو أن بداية هذا الدور تميزت بفجوة أخذت لتكون وتتنامى في صفوف العلماء، وهي انقسام العلماء إلى فقهاء ومحدثين.
(1) الفكر السامي 2/ 163.
وقد رصد الخطابي المتوفى سنة 388 هـ تلك الفجوة، وأقام النكير على تكونها، فقال في "معالم السنن":
"ورأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر. وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو كالفرع. وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.
ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه، إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين:
فأما هذه الطبقة، الذين هم أهل الأثر والحديث، فإن الأكثرين منهم إنما وَكْدُهُم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث، الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون ولا يتفهمون المعاني ولا يستنبطون سرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء، وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون.
وأما الطبقة الأخرى، وهم أهل الفقه والنظر، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف، والحديث المنقطع، إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما يينهم، من غير تثبت فيه أويقين علم به، فكان ذلك ضلالة في الرأي وغبنًا فيه. وهؤلاء -وفقنا الله إياهم- لو حكى لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم، وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاد من قبل نفسه، طلبوا فيه الثقة واستبرؤوا له العهدة" (1).
(1) معالم السنن 1/ 3، المكتبة العلمية، بيروت، 1981.
وقد واجه المذهب الحنبلي في انتشاره في ديار الإسلام صعوبة بسبب تأخره في الزمان، وذلك أن الناس قد استقروا على المذاهب التي انتهت إليهم، ودرجوا على تلك المذاهب في شأن الفتوى والقضاء والتعلم والتعليم والتصنيف وغير ذلك.
وعلى الرغم من تلك العوائق، فإن هذا المذهب لم ينقرض، كما انقرضت بعض المذاهب مع مطلع القرن الخامس للهجرة، بل كتب له الإستمرار في مسقط رأسه وموطن نشأته: دار السلام، فبقي هناك يدرّس ويعلّم، ويتلقاه اللاحق عن السابق إلى عهود متأخرة، كما انتشر هنا وهناك في الأقطار الإسلامية، كحرآن، والشام، ومصر، والجزيرة العريية، وملأ سجلات التاريخ الإسلامي برجاله وآثاره، فما من فن من الفنون إلا وللحنابلة فيه مشاركة عالية ويد بيضاء سابغة.
وفي المراحل الأولى من هذا الدور ازدهر المذهب الحنبلي ازدهارًا شاملًا، وتكامل تكاملًا نسبيًا، وتدريجيًا، وذلك بالأعمال العلمية التالية:
أولاً: ضبط القواعد العامة في نقل المسائل المروية عن الإمام أحمد وأصحابه، ومن ثَمَّ تبين ما هو منصوص، وما ليس منصوصًا، وما هو منصوص: هل فيه رواية واحدة أو أكثر؟ وهل الروايات المتعددة مختلفة أو متفقة؟ وهكذا.
ثانياً: نشاط المجتهدين في المذهب بتخريج الفروع على الأصول، وبناء غير المنصوص على المنصوص.
ثالثا: نشاط المجتهدين في الترجيح بين الروايات، والوجوه، والإحتمالات، وتولدت من جراء ذلك عدة اصطلاحات فنية استخدامية.
وهذا النوع من النشاط الإجتهادي امتد حتى عصور متأخرة، وكثرت عليه التعقبات والتصحيحات، حتى أواخر القرن التاسع تقريباً، وكان خاتمتهم في ذلك العلامة علاء الدين المرداوي (885 هـ). الذي وصفه العليمي بقوله:"شيخ المذهب وإمامه ومصححه ومنقحه"(1).
(1) المنهج الأحمد 5/ 290.
رابعًا: وضع "قواعد" عامة و"ضوابط" خاصة لفقه المذهب، وتنظيم فروعه، ليسهل على الطلاب والعلماء والمحققين معرفة القول الشاذ من المطرد، ورد كل حكم إلى قاعدته ما أمكن، وجمع النظير إلى النظير، وقرن الشبيه بالشبيه، وضبط ما يمكن ضبطه من المتشابهات في الباب الواحد بضابط عام، كما ظهرت إلى جانب ذلك جهود كثيرة في تحديد "الفروق" بين المسائل المتشابهة.
فبهذه الأعمال الجليلة دخل الفقه الحنبلي في طور جديد، وأصبح مُمكنًا بفضل فقه القواعد وفقه الضوابط وفقه النظريات وفقه الفروق (1).
خامسًا: استكمال البحث في أصول الفقه الحنبلي على غرار المذاهب الأخرى، لبيان القواعد العامة والخاصة في تفسير نصوص الكتاب والسنة، بالإضافة إلى طرق الإستنباط ومناهج الإجتهاد والفتوى، وييان المصادر التشريعية التبعية الأخرى، وتحديد موقف الحنابلة منها اعتبارًا وإلغاء، بالإضافة إلى طرق الترجيح عند التعارض بين الأدلة.
ولا ريب أن هذا الإستكمال في هذه الجوانب أمَدَّ فقهاء المذهب فيما بعد - فضلًا عن أصول فقه الأدلة والإستنباط، ومصادر التشريع- بعُدّة لا بأس بها طبقت على كيفية التصرف مع كلام المتقدمين، والموازنة بين المرويات من الأقوال والوجوه والإحتمالات، وغير ذلك.
سادسًا: إثراء المذهب بالصطلحات المختلفة التنوعة، كالإصطلاحات المفردة في ألفاظ الإمام أحمد، والإصطلاحات المختصة بالنقل والرواية، والإصطلاحات المختصة بالترجيح وطرقه، والإصطلاحات اللفظية الموضوعية في التعبير عن الأحكام، ومختلف أنواعها ودرجاتها.
وهذه المصطلحات كثرت وطغت على كتب المختصرات، ومصنفات المتأخرين، الذين عنوا بتصحيح المذهب، وتولد عند الحنابلة فقه خاص بالمصطلحات يسمى "لغة الفقهاء". ويعد ابن الجوزي (597 هـ) صاحب الفضل في السبق إلى التأليف في هذا الموضوع (2).
(1) ويلاحظ أن قواعد الفقه الحنبلي حررت متأخرة نسبياً، وأبرز الجهود في ذلك جهود للطوفي وابن رجب وابن اللحام."المدخل" لإبن بدران، ص 456 - 458.
(2)
واسم كتابه "لغة الفقه". ذكره ابن رجب في"ذيل طبقات الحنابلة" 1/ 420.
ويمكن القول بأن المذهب الحنبلي قد استقر من الناحية التنقيحية بعد القرن التاسع، إذ لم نر بعد نهاية هذا القرن غير النقول، والفتاوي، والحفظ، والتدريس، والإعتناء بالتراجم، وبالتالي فوصف "الإستقرار" لم يكن عاما لهذا الدور، بل اختص بالقسم الأخير منه فقط.
وسيتم بحث هذا الدور الكبير في مداه الزمني، الحافل بالأعمال والحوادث والتغيرات، مراعيًا تطور المذهب وتوضعه هنا وهناك، في محوري الزمان والمكان بآن واحد.