المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامسالمذهب في الجزيرة العربية - المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته - جـ ١

[عبد الله بن عبد المحسن التركي]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَة

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌أولًا - كلمة "مذهب

- ‌1 - المذهب لغة:

- ‌2 - المذهب عرفًا:

- ‌3 - المذهب اصطلاحًا:

- ‌ثانيًا - نشأة المذاهب الفقهية وسببها:

- ‌ثالثًا - أهمية المذاهب الفقهية في خدمة الشريعة الإسلامية:

- ‌الفصل الأولفي سيرة الإمام أحمد وعلمه

- ‌المبحث الأولالحياة السياسية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الثانيالحياة الثقافية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الثالثالحياة الإجتماعية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الرابعسيرة الإمام أحمد

- ‌الطور الأولالنشأة والطفولة

- ‌الطور الثانىطلبه للعلم والرحلة فيه

- ‌الطور الثالثحياة الإمام أحمد في بغداد إلى بداية المحنة

- ‌الطور الرابعالمحنة أسبابها. مراحلها. نتائجها

- ‌أسباب المحنة

- ‌مراحل المحنة

- ‌المرحلة الأولىالمحنة في زمن المأمون

- ‌المرحلة الثانيةالمحنة في زمن المعتصم

- ‌المرحلة الثالثةالمحنة في زمن الواثق

- ‌نتائج المحنة

- ‌المبحث الخامس‌‌وفاة الإمام أحمدومجمل مناقبه وعلمه

- ‌وفاة الإمام أحمد

- ‌مجمل مناقب الإمام أحمد وصفاته:

- ‌علم الإمام أحمد

- ‌أولاً: شهادة الناس له بالعلم:

- ‌ثانياً. في الرواية عنه:

- ‌ثالثاً: في مؤلفاته:

- ‌ما نسب إلى الإمام أحمد من كتب:

- ‌رسائل الإمام أحمد

- ‌المسندديوان السنة النبوية

- ‌ تاريخ تأليف المسند:

- ‌ وصف المسند:

- ‌ رواية المسند:

- ‌ منزلة المسند بين كتب الحديث:

- ‌ الأعمال التي تمت على المسند:

- ‌1 - غريب الحديث، لغلام ثعلب (261 هـ - 345 ه

- ‌2 - ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج لهم أحمد بن حنبل في "المسند" لإبن عساكر (499 هـ - 571 ه

- ‌3 - خصائص المسند، للحافظ أبي موسى المديني (501 هـ -581 ه

- ‌5 - التذكرة في رجال العشرة، لإبن حمزة الحسيني (715 هـ - 765 ه

- ‌6 - الإكمال في ذكر من له رواية في مسند الإمام أحمد من الرجال سوى من ذُكر في تهذيب الكمال:

- ‌8 - ترتيب المسند، لأبي بكر بن المحب (712 هـ - 789 ه

- ‌9 - ترتيب المسند، لإبن زريق (ت 803 ه

- ‌10 - إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لإبن الملقن (723 هـ -804 ه

- ‌11 - مختصر المسند

- ‌12 - غاية المقصد في زوائد المسند، للهيثمي (735 هـ - 807 ه

- ‌13 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:

- ‌14 - جزء للحافظ الهيثمي:

- ‌15 - ترتيب مسند أحمد على حروف المعجم، للمقدسي (ت 820 ه

- ‌16 - ذيل الكاشف، لإبن العراقي (762 هـ - 826 ه

- ‌17 - المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد، للحافظ ابن الجزري (751 هـ - 833 ه

- ‌18 - المقصد الأحمد في رجال أحمد

- ‌19 - المسند الأحمد فيما يتعلق بمسند أحمد

- ‌20 - ترتيب المسند المسمى "الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري"، لإبن زكنون (758 هـ - 837 ه

- ‌21 - زوائد المسانيد المسمى بـ: "إتحاف السادة المهرة بزوائد العشرة" للبوصيري (762 هـ - 840 ه

- ‌22 - القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد، للحافظ ابن حجر العسقلاني (773 هـ - 852 ه

- ‌23 - إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي:

- ‌24 - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة:

- ‌25 - التعريف الأجود بأوهام من جمع رجال السند:

- ‌26 - الذيل الممهد على القول المسدد، للسيوطي (ت 911 ه

- ‌27 - عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد:

- ‌29 - شرح المسند، للشيخ أبي الحسن السندي (ت 1139 ه

- ‌30 - نفثات الصدر المُكْمَد وقرّة عين السعد بشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، للسفاريني (1114 هـ - 1189 ه

- ‌31 - ذيل القول المسدد، لمحمد صبغة الله المدراسي:

- ‌32 - الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للساعاتي (ت 1378 ه

- ‌33 - بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني:

- ‌34 - تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر للمسند:

- ‌35 - الموسوعة الحديثية الكبرى:

- ‌دعوى كون الإمام أحمد محدثًا غير فقيهٍ والرَّد عليها:

- ‌الفصل الثانيفي أدوار المذهب ومواطن انتشاره

- ‌الدور الأولالنشأة والتأسيس

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولوصف عام لأصحاب الإمام أحمد

- ‌المبحث الثانيفي التعريف بأصحابه الذين سمعوا منه ورووا فقهه

- ‌تصنيف رواة المسائل عن الإمام أحمد:

- ‌التعريف بأشهر أصحاب الإمام أحمد

- ‌1 - إبراهيم الحَرْبي (198 هـ - 285 ه

- ‌2 - إسحاق بن إبراهيم بن هانئ (218 هـ - 285 ه

- ‌3 - أحمد بن حُميد (أبو طالب) (؟ - 244 ه

- ‌4 - أحمد المرّوذي (؟ - 275 ه

- ‌5 - أحمد الأثرم (؟ - 273 ه

- ‌6 - إسحاق الكَوْسَج (170 هـ - 251 ه

- ‌7 - حرب الكرماني (؟ - 280 ه

- ‌8 - حنبل بن إسحاق (؟ - 273 ه

- ‌9 - سليمان بن الاشعث أبو داود (202 هـ - 275 ه

- ‌10 - صالح بن الإمام أحمد (203 هـ - 266 ه

- ‌11 - عبد الله بن الإمام أحمد (213 هـ - 290 ه

- ‌12 - عبد لله بن محمد (فوران) (- 256 ه

- ‌13 - عبد الملك الميموني (- 274 ه

- ‌14 - مُهَنّا بن يحيى الشامي:

- ‌الدور الثانيالنقل والنمو

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولمميزات هذا الدور

- ‌المبحث الثاني‌‌أشهر علماء هذا الدوروأبرز أعمالهم

- ‌أشهر علماء هذا الدور

- ‌1 - الخلال (311 ه

- ‌2 - ابن المنادي (256 هـ - 336 ه

- ‌3 - أبو بكر النجاد (253 هـ - 348 ه

- ‌4 - الخِرَقي (334 ه

- ‌5 - الآجُرّي (360 ه

- ‌6 - غلام الخلَّال (285 هـ - 3763 ه

- ‌7 - ابن بَطة العُكْبَري (304 هـ - 387 ه

- ‌8 - ابن المُسْلِم (387 ه

- ‌9 - الحسن بن حامد (403 ه

- ‌أبرز أعمال علماء هذا الدور

- ‌أولاً - الجمع للمسائل

- ‌ثانياً - الإختصار الفقهي

- ‌ثالثا - شروح المختصرات

- ‌رابعاً - التآليف الجزئية المفردة

- ‌خامساً - الكتابة في أصول الفقه الحنبلي

- ‌الدور الثالثالإنتشار - الإزدهار - الإستقرار

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولالمذهب في العراق

- ‌1 - القاضي أبو يَعْلى (380 - 458 ه

- ‌2 - أبو الخَطّاب (432 - 510 ه

- ‌3 - ابن المَنِّي (501 - 583 ه

- ‌المبحث الثانيالمذهب في حَرَّان

- ‌آل تيمية وجهودهم في خدمة المذهب الحنبلي:

- ‌المبحث الثالثالمذهب في بلاد الشام

- ‌المقادسة وجهودهم

- ‌نتائج جهود المقادسة

- ‌أشهر الفقهاء الشاميين الذين خدموا المذهب:

- ‌ موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي (541 - 620 ه

- ‌ شمس الدين ابن مفلح (712 - 763 ه

- ‌ علاء الدين المرداوي (817 - 885 ه

- ‌حالة المذهب الحنبلي بعد المقادسة

- ‌الشيخ عبد القادر ابن بدران (1280 - 1346 ه

- ‌المبحث الرابعالمذهب في مصر

- ‌1 - ابن النجار الفُتُوحي (898 هـ - 972 ه

- ‌2 - منصور بن يونس البُهُوتي (1000 - 1051 ه

- ‌المبحث الخامسالمذهب في الجزيرة العربية

- ‌ الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة (948 ه

- ‌ الشيخ عبد الله بن محمد بن ذهلان (1099 ه

- ‌الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته

- ‌نتائج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌1 - الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1165 - 1244 ه

- ‌2 - الشيخ عبد لله بن عبد الرحمن الملقب بـ "أبا بُطين" (1194 - 1282 ه

- ‌3 - الشيخ عبد الرحمن بن حسن أل آلشيخ (1193 - 1285 ه

- ‌أثر الملكة العربية السعودية في ازدهار الفقه الحنبلي

- ‌خلاصة ما تمّ في المملكة العربية السعودية من جهود في خدمة المذهب الحنبلي

- ‌1 - الشيخ سعد بن حمد بن علي ابن عتيق (1267 - 1349 ه

- ‌2 - الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الرحمن العنقري (1290 - 1373 ه

- ‌3 - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (1307 - 1376 ه

- ‌4 - الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع (1300 - 1385 ه

- ‌5 - الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (1311 - 1386 ه

- ‌الفصل الثالثسمات الحنابلة

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولأثر سيرة الإمام أحمد على الحنابلة

- ‌المبحث الثانيالإعتناء بعلوم الحديث الشريف

- ‌المبحث الثالثالحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌المبحث الرابعالإتباع للسلف ومناهضة البدع

- ‌المبحث الخامسالحنابلة والسلطة السياسية

- ‌المبحث السادسأضواء على الإجتهاد عند فقهاء الحنابلة

- ‌ تعريف "الإختيارات

- ‌ التأليف في الإختيارات:

- ‌ اختيارات ابن تيمية ومميزاتها:

- ‌ الأسس التي ترتكز عليها اختيارات شيخ الإسلام:

- ‌ مرتبة ابن تيمية في طبقات المجتهدين:

- ‌ منهج ابن تيمية في الفتوى والإجتهاد:

- ‌الفصل الرابعأبرز مؤلفات المذهب الحنبلي

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولفي فنون الفقه التي توزعتها التصانيف

- ‌المبحث الثانيفي ترتيب المكتبة الفقهية الحنبلية

- ‌كيفية التعرف على كتاب من الكتب الفقهية

- ‌كيفية ترتيب المكتبة الفقهية الحنبلية

- ‌المبحث الثالثفي التعريف بأشهر الكتب المعتمدة في المذهب

- ‌ الجامع للخلال:

- ‌ مختصر الخرقي:

- ‌ الإرشاد إلى سبيل الرشاد:

- ‌ الخلاف الكبير للقاضي أبي يعلى:

- ‌ كتاب الروايتين والوجهين:

- ‌ شرح مختصر الخرقي للقاضي أبي يعلى:

- ‌ الانتصار في المسائل الكبار:

- ‌ المستوعب:

- ‌ المغني:

- ‌ العمدة

- ‌ المقنع

- ‌الكافي

- ‌ المحرر:

- ‌ الفروع:

- ‌الإنصاف

- ‌الإقناع

- ‌ منتهى الإرادات:

الفصل: ‌المبحث الخامسالمذهب في الجزيرة العربية

‌المبحث الخامس

المذهب في الجزيرة العربية

لا يخفى ما للجزيرة العربية من أهمية كبيرة في التاريخ الإسلامي، حيث كانت مهبط الوحي، ومبعث الرسالة الخاتمة، التي بلغها محمد بن عبد الله للعربي الهاشمي القرشي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وحملها صحابته وأتباعه إلى العالمين، رحمةً بهم.

ولا يخفى ما لمدينة البعثة والدعوة الإسلامية الأولى، مكة المباركة، وما لمدينة النصرة والهجرة، الملينة النبوية، من مكانة في قلوب المسلمين، وما فرض الله عليهم من حج إلى بيت الله الحرام، وتوجه إلى الكعبة المشرفة في لواتهم، وما في الصلاة في المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضاعفة للأجر والثواب، مما جعل قلوب المسلمين تهفو إلى تلك البقاع، ويحرص كل منهم على نيل مزية زيارتها والإقامة فيها.

وسنعرض للمذهب الحنبلي في الحرمين الشريفين أولًا، ثم في البلاد النجدية، لما لها من أهمية كبيرة في احتضان المذهب الحنبلي ثانيًا، ثم انطلاق الدعوة الإصلاحية التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونصيره الإمام محمد بن سعود، -رَحِمَهُمَا اللهُ-، وما تبع ذلك من توحيد معظم الجزيرة العربية في دولة إسلامية واحدة، هي الدولة السعودية الأولى، والثانية، ثم المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبد العزنى بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله، وما تلاه من أبنائه البَرَرَة، إلى العهد الزاهر، عهد خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله- ونصر به دينه.

لم تكن بلاد الحرمين كغيرها من أمصار الإسلام، تعرف بالإنتساب إلى مذهب بعينه من المذاهب الفقهية المتبعة، وذلك أنها كانت مجتمع العلماء، من مختلف المذاهب بسبب المناسك والرحلة العلمية، بالإضافة إلى أن ظاهرة التقليد والإنتساب الصريح إلى المذاهب لم تكن قد فشت قبل القرن الرابع.

ص: 291

وقد تميزت المدينة النبوية بعد ذلك بالإنتساب إلى المذهب المالكي على وجه العموم إلى حدود القرن السادس.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن أهلها كانوا متمسكين بمذهبهم القديم منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المئة السادسة، أو قبل ذلك، أو بعد ذلك، فإنهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم"(1).

وأشار ابن فرحون عند الكلام على توضّع المذاهب في البلاد الإسلامية إلى أن المذهب المالكي قد انتشر في الجزيرة العريية (2)، وهو إنما يعني بذلك المدينة النبوية دون مكة المكرمة، بدليل أننا نجد في "شجرة النور الزكية" في طبقات المالكية، والتي رتبها مؤلفها على الأمصار، أنه يذكر من علماء الجزيرة العربية المدنيين بصفة غالبة. وبالتالي نستطيع القول: إن مكة حرسها الله لم تكن منتسبة لمذهب بعينه على مختلف العصور والدهور. ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنها مجمع الفقهاء المتتسبين إلى بلدان شتى ومذاهب مختلفة، وإن غلب عليها المذهب الشافعي في الفتوى والتدريس في العصور المتأخرة.

وكان من جراء ذلك التجمع المتعدد للعلماء ومقلدتهم حول المسجد الحرام، أن أُنشئ أربعة مقامات (محاريب) في المسجد، كل مقام يختص لإمام مذهب من المذاهب المتبعة، فكانت الصلاة الواحدة تتكرر أربع مرات، ولا جرم أن ذلك يعدُّ لونًا من التفرق، ومظهرًا من مظاهر التمكين للتعصب المقيت الذي عرفته عصور الضعف، ومع ذلك فقد وقف بعض الفقهاء لى وجه ذلك التشرذم المنظم، فأفتوا بعدم جواز تكرار الصلوات من أجل حقوق المذاهب (3).

وكان من حسنات الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله حينما دخل مكة، ونشر العدل والأمن فيها أن منع ذلك، ووحد المسلمين لإمام واحد، وأزال مظاهر التعصب المقيت لأي مذهب.

(1) مجموع الفتاوي 20/ 300.

(2)

الديباج المذهب 1/ 261، تحقيق الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة.

(3)

العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، لتقي الدين الفاسي، 1/ 89، مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة.

ص: 292

وكانت المناطق المجاورة للحرمين من بلاد الجزيرة العربية، وخاصة نجدًا، تحتضن مختلف المذاهب، وربما كان ذلك امتدادًا للمدارس القديمة التي عرفت في البصرة والكوفة، ثم بغداد.

والذي يدل على ذلك، هو أن المطالع لمجموع الشيخ أحمد المنقور النجدي رحمه الله المسمى "الفواكه العديدة في المسائل المفيدة) يجد استمدادًا واضحًا من مختلف المذاهب بواسطة كتب فقهية كثيرة وقعت له، فهو ينقل منها بالنص والحرف.

وإذا كانت المذاهب الأربعة قد عاشت متجاورة في البلاد النجدية قرونا عديدة، فما هو السبب في غلبة المذهب الحنبلي في الأخير، وتفوته وازدهاره هناك؟

يبدو للدارس أن السبب في ذلك الإنتشار، وتلك الغلبة يعود إلى أن طلبة العلم النجديين كانوا يسافرون إلى المراكز العلمية المعروفة آنذاك، من مثل: الأحساء، والعراق، والشام، ومصر، والحجاز (مكة والمدينة)، ويتلقون علومهم العالية هناك، وكانوا يتبعون شيوخهم الذين يأخذون العلم عنهم.

فمن درس في الأحساء عاد مالكيًا أو حنفيًا، ومن درس في العراق عاد حنفيًا، ومن درس في مكة رجع شافعيًا، ومن درس في الشام تحنبل.

وبما أن نجدًا كانت في ذلك الوقت (القرن العاشر) وثيقة الصلة في الجانب الإقتصادي مع بلاد الشام، فإن الرحلات التجارية كانت رفدًا للرحلات العلمية وحافزًا لها ولا ريب، فكان الطالب يرحل بسهولة إلى الشام، فيتصل بدمشق ونابلس على وجه الخصوص، وهي معاقل الحنابلة آنذاك، فيتعلم، ثم يعود إلى بلاده فقيهًا حنبليًا.

فعلى سبيل المثال، نجد الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة (948 هـ) قد رحل إلى دمشق، بعد تلقي العلوم الإبتدائية في مسقط رأسه "العُيينة"، وسكن في المدرسة العمرية الشهيرة بالصالحية، وكانت حافلة بالعلماء والكتب النادرة آنذاك، فتضلع من أولئك العلماء، ونهل من تلك الكتب، وكان من أشهر شيوخه: جمال الدين يوسف بن عبد الهادي (909 هـ) مؤلف "جمع الجوامع"، وعلاء الدين المرداوي (885 هـ) مصحح المذهب، ومؤلف كتاب "الإنصاف"، وكان من أشهر زملانه في الطلب العلامة موسى الحجاوي المصري صاحب "الإقناع"(1).

(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون، للشيخ عبد لله بن عبد الرحمن آل بسام، 1/ 544، دار العاصمة.

ص: 293

ومنهم الشيخ زامل بن سلطان، الذي رحل إلى الحجاوي في الشام، وإلى ابن النجار الفتوحي في مصر، وكذلك الشيخ أبو نُمي التميمي الذي رحل إلى الشيخ مرعي بن يوسف مؤلف "الغاية" و"دليل الطالب".

فأمثال هؤلاء العلماء النجديين الكبار بلغوا في العلم مبلغاً كبيرًا، وانتهت إليهم الرئاسة العلمية في بلدان نجد، فهم قد حملوا راية المذهب الحنبلي عن بصيرة وتحقيق، فأثروا في أهل بلادهم، فصار جمهور النجديين حنابلة منذ نهاية القرن العاشر تقريباً.

فالخلاصة: أن الشام كانت صاحبة الفضل بعلمائها وكتبها النفيسة في تصدير المذهب الحنبلي في هذه الفترة إلى الجزيرة العربية وبعثه حيا، فتيا، كما كانت بغداد من قبل صاحبة الفضل على الشاميين في نشر المذهب في بلادهم.

• كيف استقر المذهب الحنبلي في البلاد النجدية؟

تشغل نجد الجزء الأكبر من وسط الجزيرة العربية. وهي عبارة عن هضبة واسعة، يتراوح ارتفاعها بين (750) و (1000) م، وتبرز فيها سلسلة جبال طويق، ويقطعها عدد من الوديان، من أهمها وادي الرمة، ووادي حنيفة ووادي الدواسر (1)

وأهم القبائل العربية التي تسكنها: عنزة، وعتيبة، وحرب، ومطير، وتميم، وشمر، والدواسر.

ونَجْد هي مهد الدعوة الإصلاحية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وفيها بيت آل سعود، ذلك البيت العربي الأصيل، الذي كتب الله على أيدي زعمائه إنقاذ الجزيرة العربية من التفرق، وجمع كلمتها على كتاب الله وسنة رسوله.

ولنا أن نتساءل عن كيفية استقرار المذهب الحنبلي في الديار النجدية بعدما أخذنا لمحة عن سبب انتشار هذا المنهب السَّني في تلك الربوع.

الواقع أن نجداً كانت تزخر بعدة مراكز علمية تتوزعها، منها: العُيينة، وأُشيقر، ومقرن، وعنيزة، وغيرها من المدن المنتشرة في نجد.

(1) الموسوعة العربية الميسرة، دار نهضة لبنان، بيروت، 1981.

ص: 294

فالعُيينة، وهي مسقط رأس شيخ الإسلام ومصباح الظلام أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب (1115 - 1206 هـ)، رحمه الله، وأكرم مثواه، لقاء جهاده في نصرة كتاب الله وسنة رسوله، كانت معقلاً من معاقل العلم، وكذلك أشيقر، حتى إنّه كان في الأولى في فترة من الفترات أكثر من ثمانين عالماً يدرسون العلم في جوامعها، متعاصرين في زمن واحد، وكان في الثانية أريعون عالماً في وَقت واحد، كلهم يصلح لتولي القضاء، في ذلك الوقت الذي لم يكن يصل فيه الى هذا المنصب إلا كبار العلماء وفحولهم. ولكن ضعفت الحركة العلمية فيهما بعدَ ذلك، وخلفتهما الدرعية والرياض (1).

وكذلك كانت مقرن وعنيزة، وغيرهما مقراً لطلبة علم، لهم قدم راسخة في المعارف، ومقراً لمدارس خرجت العديد من العلماء.

لقد نفذ المذهب الحنبلي عبر أقنية تلك المدارس، وحفظ في تلك المعاقل، وأخذ يتقوى ويسود بالتدريس، والإفتاء، والأقضية، وتجميع الكتب المصنفة فيه، إلى أن شمل المنطقة بسحابه الوادق الميمون. وقد ازدهر المذهب هناك خلال القرن الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر على وجه الخصوص.

لكن هناك فرقاً واضحاً بين فترة ما قبل الدعوة الإصلاحية التجديدية وفترة ما بعدها، فقد كان قبل ظهور الدعوة الإصلاحية فتور واضح سابغ على المنطقة برمتها، وكان جل اهتمام الناس بالفقه والمسائل الفرعية، فهم مقتصرون على بحث تلك المسائل، وتحريرها، وتحقيقها، وحفظ المتون واستيعاب الشروح وتدبيج الحواشي. أما العلوم الشرعية الأخرى فنصيبها قليل، وحظها زهيد، فالتوحيد مهمل، والتفسير منسي، والحديث مهجور، بل وعلوم اللغة واللسان لا تكاد تتجاوز "الآجرومية" وشروحها!!

وكان من نتيجة ذلك فشو البدع، وانتشار مظاهر الشرك، والغلو في الإعتقاد في الصالحين، وهكذا تكدر صفو الإسلام في تلك الأيام.

(1) ينظر في هذا وما بعده الكتاب القيم: علماء نجد خلال ثمانية قرون 1/ 15.

ص: 295