الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
المذهب في الجزيرة العربية
لا يخفى ما للجزيرة العربية من أهمية كبيرة في التاريخ الإسلامي، حيث كانت مهبط الوحي، ومبعث الرسالة الخاتمة، التي بلغها محمد بن عبد الله للعربي الهاشمي القرشي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وحملها صحابته وأتباعه إلى العالمين، رحمةً بهم.
ولا يخفى ما لمدينة البعثة والدعوة الإسلامية الأولى، مكة المباركة، وما لمدينة النصرة والهجرة، الملينة النبوية، من مكانة في قلوب المسلمين، وما فرض الله عليهم من حج إلى بيت الله الحرام، وتوجه إلى الكعبة المشرفة في لواتهم، وما في الصلاة في المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضاعفة للأجر والثواب، مما جعل قلوب المسلمين تهفو إلى تلك البقاع، ويحرص كل منهم على نيل مزية زيارتها والإقامة فيها.
وسنعرض للمذهب الحنبلي في الحرمين الشريفين أولًا، ثم في البلاد النجدية، لما لها من أهمية كبيرة في احتضان المذهب الحنبلي ثانيًا، ثم انطلاق الدعوة الإصلاحية التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونصيره الإمام محمد بن سعود، -رَحِمَهُمَا اللهُ-، وما تبع ذلك من توحيد معظم الجزيرة العربية في دولة إسلامية واحدة، هي الدولة السعودية الأولى، والثانية، ثم المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبد العزنى بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله، وما تلاه من أبنائه البَرَرَة، إلى العهد الزاهر، عهد خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله- ونصر به دينه.
لم تكن بلاد الحرمين كغيرها من أمصار الإسلام، تعرف بالإنتساب إلى مذهب بعينه من المذاهب الفقهية المتبعة، وذلك أنها كانت مجتمع العلماء، من مختلف المذاهب بسبب المناسك والرحلة العلمية، بالإضافة إلى أن ظاهرة التقليد والإنتساب الصريح إلى المذاهب لم تكن قد فشت قبل القرن الرابع.
وقد تميزت المدينة النبوية بعد ذلك بالإنتساب إلى المذهب المالكي على وجه العموم إلى حدود القرن السادس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن أهلها كانوا متمسكين بمذهبهم القديم منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المئة السادسة، أو قبل ذلك، أو بعد ذلك، فإنهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم"(1).
وأشار ابن فرحون عند الكلام على توضّع المذاهب في البلاد الإسلامية إلى أن المذهب المالكي قد انتشر في الجزيرة العريية (2)، وهو إنما يعني بذلك المدينة النبوية دون مكة المكرمة، بدليل أننا نجد في "شجرة النور الزكية" في طبقات المالكية، والتي رتبها مؤلفها على الأمصار، أنه يذكر من علماء الجزيرة العربية المدنيين بصفة غالبة. وبالتالي نستطيع القول: إن مكة حرسها الله لم تكن منتسبة لمذهب بعينه على مختلف العصور والدهور. ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنها مجمع الفقهاء المتتسبين إلى بلدان شتى ومذاهب مختلفة، وإن غلب عليها المذهب الشافعي في الفتوى والتدريس في العصور المتأخرة.
وكان من جراء ذلك التجمع المتعدد للعلماء ومقلدتهم حول المسجد الحرام، أن أُنشئ أربعة مقامات (محاريب) في المسجد، كل مقام يختص لإمام مذهب من المذاهب المتبعة، فكانت الصلاة الواحدة تتكرر أربع مرات، ولا جرم أن ذلك يعدُّ لونًا من التفرق، ومظهرًا من مظاهر التمكين للتعصب المقيت الذي عرفته عصور الضعف، ومع ذلك فقد وقف بعض الفقهاء لى وجه ذلك التشرذم المنظم، فأفتوا بعدم جواز تكرار الصلوات من أجل حقوق المذاهب (3).
وكان من حسنات الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله حينما دخل مكة، ونشر العدل والأمن فيها أن منع ذلك، ووحد المسلمين لإمام واحد، وأزال مظاهر التعصب المقيت لأي مذهب.
(1) مجموع الفتاوي 20/ 300.
(2)
الديباج المذهب 1/ 261، تحقيق الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة.
(3)
العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، لتقي الدين الفاسي، 1/ 89، مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة.
وكانت المناطق المجاورة للحرمين من بلاد الجزيرة العربية، وخاصة نجدًا، تحتضن مختلف المذاهب، وربما كان ذلك امتدادًا للمدارس القديمة التي عرفت في البصرة والكوفة، ثم بغداد.
والذي يدل على ذلك، هو أن المطالع لمجموع الشيخ أحمد المنقور النجدي رحمه الله المسمى "الفواكه العديدة في المسائل المفيدة) يجد استمدادًا واضحًا من مختلف المذاهب بواسطة كتب فقهية كثيرة وقعت له، فهو ينقل منها بالنص والحرف.
وإذا كانت المذاهب الأربعة قد عاشت متجاورة في البلاد النجدية قرونا عديدة، فما هو السبب في غلبة المذهب الحنبلي في الأخير، وتفوته وازدهاره هناك؟
يبدو للدارس أن السبب في ذلك الإنتشار، وتلك الغلبة يعود إلى أن طلبة العلم النجديين كانوا يسافرون إلى المراكز العلمية المعروفة آنذاك، من مثل: الأحساء، والعراق، والشام، ومصر، والحجاز (مكة والمدينة)، ويتلقون علومهم العالية هناك، وكانوا يتبعون شيوخهم الذين يأخذون العلم عنهم.
فمن درس في الأحساء عاد مالكيًا أو حنفيًا، ومن درس في العراق عاد حنفيًا، ومن درس في مكة رجع شافعيًا، ومن درس في الشام تحنبل.
وبما أن نجدًا كانت في ذلك الوقت (القرن العاشر) وثيقة الصلة في الجانب الإقتصادي مع بلاد الشام، فإن الرحلات التجارية كانت رفدًا للرحلات العلمية وحافزًا لها ولا ريب، فكان الطالب يرحل بسهولة إلى الشام، فيتصل بدمشق ونابلس على وجه الخصوص، وهي معاقل الحنابلة آنذاك، فيتعلم، ثم يعود إلى بلاده فقيهًا حنبليًا.
فعلى سبيل المثال، نجد الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة (948 هـ) قد رحل إلى دمشق، بعد تلقي العلوم الإبتدائية في مسقط رأسه "العُيينة"، وسكن في المدرسة العمرية الشهيرة بالصالحية، وكانت حافلة بالعلماء والكتب النادرة آنذاك، فتضلع من أولئك العلماء، ونهل من تلك الكتب، وكان من أشهر شيوخه: جمال الدين يوسف بن عبد الهادي (909 هـ) مؤلف "جمع الجوامع"، وعلاء الدين المرداوي (885 هـ) مصحح المذهب، ومؤلف كتاب "الإنصاف"، وكان من أشهر زملانه في الطلب العلامة موسى الحجاوي المصري صاحب "الإقناع"(1).
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون، للشيخ عبد لله بن عبد الرحمن آل بسام، 1/ 544، دار العاصمة.
ومنهم الشيخ زامل بن سلطان، الذي رحل إلى الحجاوي في الشام، وإلى ابن النجار الفتوحي في مصر، وكذلك الشيخ أبو نُمي التميمي الذي رحل إلى الشيخ مرعي بن يوسف مؤلف "الغاية" و"دليل الطالب".
فأمثال هؤلاء العلماء النجديين الكبار بلغوا في العلم مبلغاً كبيرًا، وانتهت إليهم الرئاسة العلمية في بلدان نجد، فهم قد حملوا راية المذهب الحنبلي عن بصيرة وتحقيق، فأثروا في أهل بلادهم، فصار جمهور النجديين حنابلة منذ نهاية القرن العاشر تقريباً.
فالخلاصة: أن الشام كانت صاحبة الفضل بعلمائها وكتبها النفيسة في تصدير المذهب الحنبلي في هذه الفترة إلى الجزيرة العربية وبعثه حيا، فتيا، كما كانت بغداد من قبل صاحبة الفضل على الشاميين في نشر المذهب في بلادهم.
• كيف استقر المذهب الحنبلي في البلاد النجدية؟
تشغل نجد الجزء الأكبر من وسط الجزيرة العربية. وهي عبارة عن هضبة واسعة، يتراوح ارتفاعها بين (750) و (1000) م، وتبرز فيها سلسلة جبال طويق، ويقطعها عدد من الوديان، من أهمها وادي الرمة، ووادي حنيفة ووادي الدواسر (1)
وأهم القبائل العربية التي تسكنها: عنزة، وعتيبة، وحرب، ومطير، وتميم، وشمر، والدواسر.
ونَجْد هي مهد الدعوة الإصلاحية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وفيها بيت آل سعود، ذلك البيت العربي الأصيل، الذي كتب الله على أيدي زعمائه إنقاذ الجزيرة العربية من التفرق، وجمع كلمتها على كتاب الله وسنة رسوله.
ولنا أن نتساءل عن كيفية استقرار المذهب الحنبلي في الديار النجدية بعدما أخذنا لمحة عن سبب انتشار هذا المنهب السَّني في تلك الربوع.
الواقع أن نجداً كانت تزخر بعدة مراكز علمية تتوزعها، منها: العُيينة، وأُشيقر، ومقرن، وعنيزة، وغيرها من المدن المنتشرة في نجد.
(1) الموسوعة العربية الميسرة، دار نهضة لبنان، بيروت، 1981.
فالعُيينة، وهي مسقط رأس شيخ الإسلام ومصباح الظلام أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب (1115 - 1206 هـ)، رحمه الله، وأكرم مثواه، لقاء جهاده في نصرة كتاب الله وسنة رسوله، كانت معقلاً من معاقل العلم، وكذلك أشيقر، حتى إنّه كان في الأولى في فترة من الفترات أكثر من ثمانين عالماً يدرسون العلم في جوامعها، متعاصرين في زمن واحد، وكان في الثانية أريعون عالماً في وَقت واحد، كلهم يصلح لتولي القضاء، في ذلك الوقت الذي لم يكن يصل فيه الى هذا المنصب إلا كبار العلماء وفحولهم. ولكن ضعفت الحركة العلمية فيهما بعدَ ذلك، وخلفتهما الدرعية والرياض (1).
وكذلك كانت مقرن وعنيزة، وغيرهما مقراً لطلبة علم، لهم قدم راسخة في المعارف، ومقراً لمدارس خرجت العديد من العلماء.
لقد نفذ المذهب الحنبلي عبر أقنية تلك المدارس، وحفظ في تلك المعاقل، وأخذ يتقوى ويسود بالتدريس، والإفتاء، والأقضية، وتجميع الكتب المصنفة فيه، إلى أن شمل المنطقة بسحابه الوادق الميمون. وقد ازدهر المذهب هناك خلال القرن الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر على وجه الخصوص.
لكن هناك فرقاً واضحاً بين فترة ما قبل الدعوة الإصلاحية التجديدية وفترة ما بعدها، فقد كان قبل ظهور الدعوة الإصلاحية فتور واضح سابغ على المنطقة برمتها، وكان جل اهتمام الناس بالفقه والمسائل الفرعية، فهم مقتصرون على بحث تلك المسائل، وتحريرها، وتحقيقها، وحفظ المتون واستيعاب الشروح وتدبيج الحواشي. أما العلوم الشرعية الأخرى فنصيبها قليل، وحظها زهيد، فالتوحيد مهمل، والتفسير منسي، والحديث مهجور، بل وعلوم اللغة واللسان لا تكاد تتجاوز "الآجرومية" وشروحها!!
وكان من نتيجة ذلك فشو البدع، وانتشار مظاهر الشرك، والغلو في الإعتقاد في الصالحين، وهكذا تكدر صفو الإسلام في تلك الأيام.
(1) ينظر في هذا وما بعده الكتاب القيم: علماء نجد خلال ثمانية قرون 1/ 15.