المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقادسة وجهودهم ونعني بالمقادسة تلك الأسرة المباركة التي تسمى "آل قدامة" - المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته - جـ ١

[عبد الله بن عبد المحسن التركي]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَة

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌أولًا - كلمة "مذهب

- ‌1 - المذهب لغة:

- ‌2 - المذهب عرفًا:

- ‌3 - المذهب اصطلاحًا:

- ‌ثانيًا - نشأة المذاهب الفقهية وسببها:

- ‌ثالثًا - أهمية المذاهب الفقهية في خدمة الشريعة الإسلامية:

- ‌الفصل الأولفي سيرة الإمام أحمد وعلمه

- ‌المبحث الأولالحياة السياسية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الثانيالحياة الثقافية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الثالثالحياة الإجتماعية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الرابعسيرة الإمام أحمد

- ‌الطور الأولالنشأة والطفولة

- ‌الطور الثانىطلبه للعلم والرحلة فيه

- ‌الطور الثالثحياة الإمام أحمد في بغداد إلى بداية المحنة

- ‌الطور الرابعالمحنة أسبابها. مراحلها. نتائجها

- ‌أسباب المحنة

- ‌مراحل المحنة

- ‌المرحلة الأولىالمحنة في زمن المأمون

- ‌المرحلة الثانيةالمحنة في زمن المعتصم

- ‌المرحلة الثالثةالمحنة في زمن الواثق

- ‌نتائج المحنة

- ‌المبحث الخامس‌‌وفاة الإمام أحمدومجمل مناقبه وعلمه

- ‌وفاة الإمام أحمد

- ‌مجمل مناقب الإمام أحمد وصفاته:

- ‌علم الإمام أحمد

- ‌أولاً: شهادة الناس له بالعلم:

- ‌ثانياً. في الرواية عنه:

- ‌ثالثاً: في مؤلفاته:

- ‌ما نسب إلى الإمام أحمد من كتب:

- ‌رسائل الإمام أحمد

- ‌المسندديوان السنة النبوية

- ‌ تاريخ تأليف المسند:

- ‌ وصف المسند:

- ‌ رواية المسند:

- ‌ منزلة المسند بين كتب الحديث:

- ‌ الأعمال التي تمت على المسند:

- ‌1 - غريب الحديث، لغلام ثعلب (261 هـ - 345 ه

- ‌2 - ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج لهم أحمد بن حنبل في "المسند" لإبن عساكر (499 هـ - 571 ه

- ‌3 - خصائص المسند، للحافظ أبي موسى المديني (501 هـ -581 ه

- ‌5 - التذكرة في رجال العشرة، لإبن حمزة الحسيني (715 هـ - 765 ه

- ‌6 - الإكمال في ذكر من له رواية في مسند الإمام أحمد من الرجال سوى من ذُكر في تهذيب الكمال:

- ‌8 - ترتيب المسند، لأبي بكر بن المحب (712 هـ - 789 ه

- ‌9 - ترتيب المسند، لإبن زريق (ت 803 ه

- ‌10 - إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لإبن الملقن (723 هـ -804 ه

- ‌11 - مختصر المسند

- ‌12 - غاية المقصد في زوائد المسند، للهيثمي (735 هـ - 807 ه

- ‌13 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:

- ‌14 - جزء للحافظ الهيثمي:

- ‌15 - ترتيب مسند أحمد على حروف المعجم، للمقدسي (ت 820 ه

- ‌16 - ذيل الكاشف، لإبن العراقي (762 هـ - 826 ه

- ‌17 - المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد، للحافظ ابن الجزري (751 هـ - 833 ه

- ‌18 - المقصد الأحمد في رجال أحمد

- ‌19 - المسند الأحمد فيما يتعلق بمسند أحمد

- ‌20 - ترتيب المسند المسمى "الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري"، لإبن زكنون (758 هـ - 837 ه

- ‌21 - زوائد المسانيد المسمى بـ: "إتحاف السادة المهرة بزوائد العشرة" للبوصيري (762 هـ - 840 ه

- ‌22 - القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد، للحافظ ابن حجر العسقلاني (773 هـ - 852 ه

- ‌23 - إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي:

- ‌24 - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة:

- ‌25 - التعريف الأجود بأوهام من جمع رجال السند:

- ‌26 - الذيل الممهد على القول المسدد، للسيوطي (ت 911 ه

- ‌27 - عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد:

- ‌29 - شرح المسند، للشيخ أبي الحسن السندي (ت 1139 ه

- ‌30 - نفثات الصدر المُكْمَد وقرّة عين السعد بشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، للسفاريني (1114 هـ - 1189 ه

- ‌31 - ذيل القول المسدد، لمحمد صبغة الله المدراسي:

- ‌32 - الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للساعاتي (ت 1378 ه

- ‌33 - بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني:

- ‌34 - تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر للمسند:

- ‌35 - الموسوعة الحديثية الكبرى:

- ‌دعوى كون الإمام أحمد محدثًا غير فقيهٍ والرَّد عليها:

- ‌الفصل الثانيفي أدوار المذهب ومواطن انتشاره

- ‌الدور الأولالنشأة والتأسيس

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولوصف عام لأصحاب الإمام أحمد

- ‌المبحث الثانيفي التعريف بأصحابه الذين سمعوا منه ورووا فقهه

- ‌تصنيف رواة المسائل عن الإمام أحمد:

- ‌التعريف بأشهر أصحاب الإمام أحمد

- ‌1 - إبراهيم الحَرْبي (198 هـ - 285 ه

- ‌2 - إسحاق بن إبراهيم بن هانئ (218 هـ - 285 ه

- ‌3 - أحمد بن حُميد (أبو طالب) (؟ - 244 ه

- ‌4 - أحمد المرّوذي (؟ - 275 ه

- ‌5 - أحمد الأثرم (؟ - 273 ه

- ‌6 - إسحاق الكَوْسَج (170 هـ - 251 ه

- ‌7 - حرب الكرماني (؟ - 280 ه

- ‌8 - حنبل بن إسحاق (؟ - 273 ه

- ‌9 - سليمان بن الاشعث أبو داود (202 هـ - 275 ه

- ‌10 - صالح بن الإمام أحمد (203 هـ - 266 ه

- ‌11 - عبد الله بن الإمام أحمد (213 هـ - 290 ه

- ‌12 - عبد لله بن محمد (فوران) (- 256 ه

- ‌13 - عبد الملك الميموني (- 274 ه

- ‌14 - مُهَنّا بن يحيى الشامي:

- ‌الدور الثانيالنقل والنمو

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولمميزات هذا الدور

- ‌المبحث الثاني‌‌أشهر علماء هذا الدوروأبرز أعمالهم

- ‌أشهر علماء هذا الدور

- ‌1 - الخلال (311 ه

- ‌2 - ابن المنادي (256 هـ - 336 ه

- ‌3 - أبو بكر النجاد (253 هـ - 348 ه

- ‌4 - الخِرَقي (334 ه

- ‌5 - الآجُرّي (360 ه

- ‌6 - غلام الخلَّال (285 هـ - 3763 ه

- ‌7 - ابن بَطة العُكْبَري (304 هـ - 387 ه

- ‌8 - ابن المُسْلِم (387 ه

- ‌9 - الحسن بن حامد (403 ه

- ‌أبرز أعمال علماء هذا الدور

- ‌أولاً - الجمع للمسائل

- ‌ثانياً - الإختصار الفقهي

- ‌ثالثا - شروح المختصرات

- ‌رابعاً - التآليف الجزئية المفردة

- ‌خامساً - الكتابة في أصول الفقه الحنبلي

- ‌الدور الثالثالإنتشار - الإزدهار - الإستقرار

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولالمذهب في العراق

- ‌1 - القاضي أبو يَعْلى (380 - 458 ه

- ‌2 - أبو الخَطّاب (432 - 510 ه

- ‌3 - ابن المَنِّي (501 - 583 ه

- ‌المبحث الثانيالمذهب في حَرَّان

- ‌آل تيمية وجهودهم في خدمة المذهب الحنبلي:

- ‌المبحث الثالثالمذهب في بلاد الشام

- ‌المقادسة وجهودهم

- ‌نتائج جهود المقادسة

- ‌أشهر الفقهاء الشاميين الذين خدموا المذهب:

- ‌ موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي (541 - 620 ه

- ‌ شمس الدين ابن مفلح (712 - 763 ه

- ‌ علاء الدين المرداوي (817 - 885 ه

- ‌حالة المذهب الحنبلي بعد المقادسة

- ‌الشيخ عبد القادر ابن بدران (1280 - 1346 ه

- ‌المبحث الرابعالمذهب في مصر

- ‌1 - ابن النجار الفُتُوحي (898 هـ - 972 ه

- ‌2 - منصور بن يونس البُهُوتي (1000 - 1051 ه

- ‌المبحث الخامسالمذهب في الجزيرة العربية

- ‌ الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة (948 ه

- ‌ الشيخ عبد الله بن محمد بن ذهلان (1099 ه

- ‌الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته

- ‌نتائج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌1 - الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1165 - 1244 ه

- ‌2 - الشيخ عبد لله بن عبد الرحمن الملقب بـ "أبا بُطين" (1194 - 1282 ه

- ‌3 - الشيخ عبد الرحمن بن حسن أل آلشيخ (1193 - 1285 ه

- ‌أثر الملكة العربية السعودية في ازدهار الفقه الحنبلي

- ‌خلاصة ما تمّ في المملكة العربية السعودية من جهود في خدمة المذهب الحنبلي

- ‌1 - الشيخ سعد بن حمد بن علي ابن عتيق (1267 - 1349 ه

- ‌2 - الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الرحمن العنقري (1290 - 1373 ه

- ‌3 - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (1307 - 1376 ه

- ‌4 - الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع (1300 - 1385 ه

- ‌5 - الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (1311 - 1386 ه

- ‌الفصل الثالثسمات الحنابلة

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولأثر سيرة الإمام أحمد على الحنابلة

- ‌المبحث الثانيالإعتناء بعلوم الحديث الشريف

- ‌المبحث الثالثالحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌المبحث الرابعالإتباع للسلف ومناهضة البدع

- ‌المبحث الخامسالحنابلة والسلطة السياسية

- ‌المبحث السادسأضواء على الإجتهاد عند فقهاء الحنابلة

- ‌ تعريف "الإختيارات

- ‌ التأليف في الإختيارات:

- ‌ اختيارات ابن تيمية ومميزاتها:

- ‌ الأسس التي ترتكز عليها اختيارات شيخ الإسلام:

- ‌ مرتبة ابن تيمية في طبقات المجتهدين:

- ‌ منهج ابن تيمية في الفتوى والإجتهاد:

- ‌الفصل الرابعأبرز مؤلفات المذهب الحنبلي

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولفي فنون الفقه التي توزعتها التصانيف

- ‌المبحث الثانيفي ترتيب المكتبة الفقهية الحنبلية

- ‌كيفية التعرف على كتاب من الكتب الفقهية

- ‌كيفية ترتيب المكتبة الفقهية الحنبلية

- ‌المبحث الثالثفي التعريف بأشهر الكتب المعتمدة في المذهب

- ‌ الجامع للخلال:

- ‌ مختصر الخرقي:

- ‌ الإرشاد إلى سبيل الرشاد:

- ‌ الخلاف الكبير للقاضي أبي يعلى:

- ‌ كتاب الروايتين والوجهين:

- ‌ شرح مختصر الخرقي للقاضي أبي يعلى:

- ‌ الانتصار في المسائل الكبار:

- ‌ المستوعب:

- ‌ المغني:

- ‌ العمدة

- ‌ المقنع

- ‌الكافي

- ‌ المحرر:

- ‌ الفروع:

- ‌الإنصاف

- ‌الإقناع

- ‌ منتهى الإرادات:

الفصل: ‌ ‌المقادسة وجهودهم ونعني بالمقادسة تلك الأسرة المباركة التي تسمى "آل قدامة"

‌المقادسة وجهودهم

ونعني بالمقادسة تلك الأسرة المباركة التي تسمى "آل قدامة" على وجه الخصوص، ثم الأسر التي تبعتها في الهجرة والتحقت بها، فكونوا المجتمع الجديد بصالحية دمشق.

وهي أسرة فلسطينية الأصل، دمشقية الدار، قد كان لها الأثر الواضح والنور اللائح في سماء تاريخ التراث الإسلامي بعامة، والفقه الحنبلي على وجه الخصوص، خلال العصر المملوكي، سواء بكثرة من ظهر فيها من العلماء، أو باستمرار نشاطها العلمي على مدى عدة قرون (ما بين أواسط القرن السادس والحادي عشر الهجريين).

والجد الأعلى لهذه الأسرة هو: قُدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله المقدسي. وكان من أهل قرية جَمَّاعيل (أو جمَّاعين) على القرب من نابلس في القرن الخامس الهجري.

وكان أول لقاء بين فقهاء الحنابلة وبين هذا الجد في أرض بيت المقدس، ذلك اللقاء الذي كان مع ناشر المذهب الحنبلي في الشام، أبي الفرج الشيرازي (486 هـ) المتقدم.

ويروي لنا الموفق قصة ذلك اللقاء المبارك، فيقول:

"كلنا في بركات الشيخ أبي الفرج

لما قدم الشيخ أبو الفرج إلى بلادنا من أرض بيت المقدس تسامع الناس به، فزاروه من أقطار تلك البلاد. فقال جدي قدامة لأخيه: تعال نمشي إلى زيارة هذا الشيخ، لعله يدعو لنا. فزاروه، فتقدم إليه قدامة، فقال له: يا سيدي، ادع لي أن يرزقني الله حفظ القرآن. فدعا له بذلك، وأخوه لم يسأله شيئًا، فبقي على حاله" (1).

(1) ذيل الطبقات 1/ 71. بتصرف.

ص: 260

وكان محمد بن قدامة، ثم ابنه أحمد، ثم حفيده محمد أبو عمر، خطباء جمَّاعيل حين غزا الفرنجة الصليبيون فلسطين سنة 492 هـ (1099 م). وقد عاشوا مع فلاحي الريف الفلسطيني في إقطاع الأمراء الفرنجة.

وتمثلت مقاومة آل قدامة في المزيد من التمسك بالدين والتقوى، حتى كان أبناء القرى يجتمعون إليهم في خطب الجمعة، وكان لأقوالهم صدى طيب في نفوسهم، بسبب ما يعانونه من اضطهاد الإقطاع الفرنجي الذي كان يتقاضاهم الجزية أضعافًا مضاعفة، ويؤذي الناس بالضرب والحبس وقطع الأرجل. وحين تنبه الفرنجة لنشاط الشيخ أحمد، وعزموا على قتله هرب إلى دمشق (1).

وكانت تلك الهجرة المباركة في سنة 551 هـ، وكانت دمشق قد صارت قبل سنتين فقط من ذلك التاريخ لنور الدين محمود بن زنكي، الذي اشتهر يومذاك بالجهاد والتقوى. وقد رافق الشيخ أحمد في هجرته بعض أقربائه، فلما استقروا في ظاهر دمشق (في مسجد أبي صالح خارج باب توما)، بعث فأحضر أسرته وسائر الأقرباء. وقد لحق بهم فيما بعد كثيرون من جمّاعيل والقرى المحيطة بها (الجمّاعيليات)، وانتسبوا جميعًا فيما بعد إلى القدس، فصاروا يسمون: المقادسة.

وضاق المسجد بعد ثلاث سثوات باللاجئين، وكثرت عليهم المصاعب والأمراض المميتة (2)، والمشاكل بسبب عددهم ومذهبهم الحنبلي (وقد كان أكثر سكان دمشق شافعية آنذاك). فارتاد لهم أبو عمر منزلًا آخر في سفح جبل قاسيون المطل على دمشق، وبنى دارًا سميت "دير الحنابلة"، وهي اليوم "جامع الحنابلة"(3).

ومنذ سنة 554 هـ بدأ تاريخ جديد لآل قدامة، والبقعة التي نزلوها من قاسيون -وقد سميت "الصالحية" باسم سكنهم القديم في جامع أبي صالح- والمذهب الحنبلي الذي كان يحمله هولاء المقادسة.

(1) الموسوعة الفلسطينية 3/ 504، الطبعة الأولى، 1984، القلائد الجوهرية 1/ 67، ط 2، 1980.

(2)

القلائد الجوهرية 1/ 76، ذيل طبقات الحنابلة 2/ 52.

(3)

المصدر السابق 1/ 80 - 81.

ص: 261

توفي الشيخ أحمد بعد أربع سنوات من ذلك التاريخ. وابنه أبو عمر محمد هو الذي بنى مجد الجماعة، ورسم لها خط الحياة العلمية الذي ظلت عليه في القرون التالية. فقد بنى لنفسه مدرسة عرفت بـ "المدرسة العمرية"(1) على ضفة نهر يزيد في سفح الجبل، وآثارها لا تزال باقية إلى اليوم، وظل يعمل على التدريس فيها طوال نصف قرن، إلى أن توفي سنة 607 هـ.

وقد اْدت زيادة الطلبة إلى قيام مدرسة أخرى بناها ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي، صهر أبي عمر، على باب دير الحنابلة لتكون دار حديث للغرباء، ووقف عليها كتبه (2).

خلال ذلك أخذت سمعة آل قدامة في التقى، وسمعة مدرستهم في العلم، تنتشران، وأخذ تلاميذهم في القرآن والحديث والفقه يتكاثرون. وكانت الأموال والأوقاف والهبات بالمقابل تتدفق على الجماعة المقدسية (3)، والمدرستين، والأبنية القائمة حول دير الحنابلة، فتحولت البقعة إلى بلدة كاملة العمران ذات أسواق، ومنازل وسكان ومساجد (4).

وإذا كان آل قدامة قد أعطوا هذا المركز الكثير من جهودهم الفكرية، فإن ما لقوه من التشجيع الكبير والاحترام والتكريم، دفعهم بالمقابل إلى المزيد من العمل والإنتاج والاندفاع على مدى أيام الدولة النورية، فالصلاحية، فالعادلية.

ولم يكن آل قدامة في هذا الجهد كله وحدهم، فإن نجاحهم كان قد أغرى منذ الأيام الأولى مجموعة من الأسر الحنبلية القريبة لهم في جمّاعيل وما حولها بالهجرة إليهم على توالي السنين، والدخول في نشاطاتهم العلمية نفسها، وبرز منهم كما برز

(1) القلائد الجوهرية 1/ 248، الدارس 2/ 100.

(2)

وتسمي دار الحديث الضيائية المحمدية، وهي غير المدرسة الضيائية المحاسنية، القلائد الجوهرية 1/ 130، والدارس 2/ 91.

(3)

القلائد الجوهرية 1/ 82.

(4)

صبح الأعشى 4/ 94 وفيه وصف العمران الكائن آنذاك على ضفاف نهر بردى، ووصف مدينة الصالحية.

ص: 262

من آل قدامة وبتأثيرهم، عدد من العلماء، يرتبطون بآل قدامة بالروابط العائلية

المتفاوتة. وقد حملوا مثلهم لقب "المقادسة". وأبرز تلك الأسر خمس:

1 -

آل عبد الهادي، وجدهم يوسف بن محمد بن قدامة، شقيق أحمد المهاجر الأول إلى دمشق.

2 -

بنو سرور بن رافع الجماعيليين، ويرتبطون بآل قدامة برابطة المصاهرة.

3 -

بنو عبد الواحد بن أحمد السعدي، وهم أصهار لآل قدامة.

4 و 5 - أسرة راجح، وجماعة ممن يحملون نسبة المرداوي، وبينهما وبين آل قدامة روابط قرابة عائلية.

من جهة أخرى اجتذب آل قدامة بحركتهم العلمية النشطة، وسمعتهم الدينية، علماء الحنابلة من: حرّان، وبغداد، ونابلس، وبعلبك، وغيرها إلى دمشق، فجاؤوها، وشاركوا في جهود المركز الحنبلي الصالحي، وذيوع شهرة دمشق العلمية.

ومن أبرز هؤلاء، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ) المجتهد المشهور الذي عرفنا بأسرته في السابق، وأبناء مفلح المقدسيون، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المسندين والحفاظ المحدثين، والفقهاء والقضاة من أصحاب المذاهب الأخرى (1).

وأدى تأثير المركز الصالحي من جهة ثانية إلى تصدير المذهب الحنبلي إلى مصر، ويعلبك وغيرهما. وقام في نابلس فرع من بني سرور (أولاد نعمة) خرّج -بعد تحرير فلسطين من الفرنجة- عددًا من العلماء الحنابلة، ناظروا أقرباءهم في الشام، وإن لم يحظوا بالتألق نفسه. وقد استمر نشاط هذه الجماعة العلمية في نابلس حتى أواسط القرن الثامن الهجري.

وكانت النتيجة التي حصلت من جهود المقادسة ومن اتصل بهم في الشام: أن دخل عدد كبير من العلماء الذين أنجبوهم في سجلات التاريخ.

إن مجموع العلماء الذين ظهروا من آل قدامة والأسر المتصلة بهم، ممن ذكرتهم كتب التراجم ليزيدون في العدد على (110) شيخ، منهم قرابة النصف من آل قدامة فقط (أسرة

(1) تفصيل ذلك في القلائد الجوهرية 2/ 387 - 507.

ص: 263

أحمد وابنه أبي عمر 52 اسمًا) وحوالي الرلع من بني سرور بفرعيهم الشامي والنابلسي (26) اسمًا و (14) اسمًا من آل عبد الهادي و (12) اسمًا من آل عبد الواحد. والبقية من أسرة راجح ومن المرداووين.

وتتضمن هذه الأسماء عددًا من النساء العالمات، فقد مس النشاط العلمي نساء البيت القدامي أيضًا، وأدخلهن في الجو العام لعلوم الحديث، والفقه، وسمع عليهن عدد من علماء العصر (1).

ومن أبرز علماء آل قدامة والأسر المتصلة بهم:

- عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور (541 - 600 هـ) ومؤلفاته تزيد على 45 عنوانًا.

- موفق الدين عبد الله بن أحمد (541 - 620 هـ) صاحب "المغني" و"الكافي" و"المقنع" التي هي عمدة علماء الحنابلة من بعده.

- ضياء الدين محمد بن عبد الواحد بن أحمد (569 - 643 هـ) وكان محدث عصره، وهو صاحب الفضل في كتابة تاريخ المقادسة.

- شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي (603 - 676 هـ) قاضي قضاة مصر.

- عائشة بنت عيسى بن الموفق.

- فخر الدين علي بن احمد بن عبد الواحد (575 - 690 هـ) الذي حدَّث ستين سنة، وصار مسند عصره كله.

- شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي (704 هـ - 744 هـ) وله 58 مؤلفًا.

- عائشة بنت محمد بن عبد الهادي (2)(723 - 816 هـ).

(1) الموسوعة الفلسطينية 3/ 506، ومقدمة تحقيق "النعت الأكمل"، ص 10، دار الفكر.

(2)

القلائد الجوهرية 2/ 399.

ص: 264