الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
المذهب في مصر
تعتبر الشام همزة الوصل بين المدرسة العراقية والمدرسة المصرية، فانتقال المذهب الحنبلي إلى البلاد المصرية إنما كان عن طريق التواصل الثقافي والسياسي بين مصر والشام، خصوصًا في تلك الأحقاب التي كان فيها الإقليمان محكومين بسلطة واحدة، ودولة واحدة.
دخل فقهاء الحنابلة وعلماؤهم إلى مصر عن طريق الإيفاد القضائي تارة، وعن طريق الرحلات العلمية تارة ثانية، وعن طريق اللجوء بسبب النزاع مع الأشاعرة تارة ثالثة. وكان لهم الأثر الكبير في تدعيم المذهب الحنبلي وتمكينه هناك عن طريق الوزارة والقضاء والتدريس والإفتاء، وغير ذلك.
ويعتبر الإيفاد العلمي والقضائي من بلاد الشام إلى بلاد مصر ميزة لامعة من مميزات الوجود الحنبلي في مصر، فكثير من علماء الشام إنما وفدوا، أو أوفدوا على مصر في أوقات محدودة، ثم رجعوا إلى بلادهم، ولكن بقي أثرهم اللائح سابغًا على المصريين، كان المطالع لكتب الطبقات ليجد ذلك جليًا في الفترة ما بين القرنين: التاسع والعاشر على وجه الخصوص. بل إننا لنجد في "حسن المحاضرة" أن أول عالم من الحنابلة بالديار المصرية كان وافدًا عليها من الشام، هو الحافظ عبد الغني المقدسي صاحب "العمدة" في أحاديث الأحكام (1).
ويعتبر محمد بن إبراهيم الجمّاعيلي المقدسي، من آل بني سرور، المتوفى سنة 676 هـ، أول من تسلم التدريس بالمدرسة الصالحية للحنابلة بمصر، وأول من استلم
(1) حسن المحاضرة، للسيوطي، 1/ 485. وهذا لا ينفي أن يكون للحنابلة وجود قبل الحافظ عبد الغني، إذ يعتبر الفقيه الزاهد عثمان بن مرزوق (564 هـ) البغدادي نزيلًا على مصر. قال ابن رجب في "طبقاته"(1/ 306): استوطن مصر، وأقام بها إلى أن مات، وأفتى بها ودرس وناظر.
فلعل السبب في كونه لم يعرف لدى السيوطي هو كثرة اشتغاله بالتصوف إلا أنه تفقه على حنابلة بغداد.
تضاء القضاة منهم بالقاهرة، فصار شيخ المذهب هناك علمًا وصلاحًا، وديانة ورياسة (1).
ويذكر لنا السيوطي قائمة بأسماء ستة عشر فقيهًا حنبليًا تولوا القضاء المصري (2)، وواحدًا وعشرين إمامًا (3)، وهذا اللإحصاء ينتهي عند أوائل القرن العاشر، لأن السيوطي توفي سنة (911 هـ)، وهذا يدل على أن العدد أكثر من ذلك، لأن الوجود الحنبلي بعد السيوطي قد استمر هناك، بل وقوي نسبيًا، على أن السيوطي رحمه الله لم يذكر لنا أسماء أولئك الموفدين إلى مصر، والذين لم يستوطنوها، كالطوفي والعلاء المرداوي، وغيرهم.
وكان الحنابلة شَديدي التمسك بالفضائل الخلقية والورع والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحرص على الإلتزام بالسنة الشريفة في الإعتقاد والعمل. وكان هذا التمسك يسبب لهم حرمانًا من بعض الوظائف في الدولة حينًا، كما سبب لهم محنًا وكائنات مع المخالفين والخصوم حينًا آخر.
وقد سجل لنا التاريخ من ذلك الكثير في بغداد، وفي الشام، لكن لم يسجل لنا من ذلك شيئًا في مصر (4).
ولعل السبب في ذلك راجع إلى قلة عددهم وضعف شوكتهم، بالإضافة إلى أن المتأخرين منهم مالوا في أكثرهم إلى التصوف والزهد والخمول.
ومع ذلك بقي غالب الحنابلة محافظين على مزاياهم في الورع والإستقامة على منهج السلف.
ويذكر لنا السيوطي نموذجًا من ذلك متمثلًا بشيخه أحمد بن إبراهيم الكناني (876 هـ)، فقد قال فيه:
"شيخنا قاضي القضاة، عز الدين أبو البركات ابن قاضي القضاة برهان الدين ابن قاضي القضاة ناصر الدين الحنبلي، قاضٍ مشى على طريقة السلف، وسعى إلى أن بلغ
(1) ذيل الطبقات 2/ 294 - 295، وحسن المحاضرة 2/ 191. وكانت المدرسة الصالحية في القاهرة ذات أربعة أقسام، كل قسم يختص بتدريس مذهب من المذاهب الفقهية الأربعة. وهذا يدل على أن الحنابلة كان لهم طلاب وشيوخ هناك في ذلك الوقت.
(2)
حسن المحاضرة 2/ 191 - 192.
(3)
المصدر السابق 1/ 480 - 484.
(4)
إلا بعض المشاجرات النادرة بينهم وبين الأشاعرة، كما في "ذيل الطبقات" 1/ 439، والنعت الأكمل ص 10.
العلا لما كلَّ غيره ووقف، من أهل بيت في العلوم والقضاء عريق، ويالرياسة والنفاسة حقيق، خدم فنون العدم إلى أن بلغ منها المُنى، وتفرد بمذهب اللإمام أحمد، فما كان في عصره من يشير إلى نفسه بأنا، وولي القضاء فأحيا سنة التواضع والتقشف، وترك الناموس، وطرح التكلف، .. وبكى على فراقه مذهب ابن حنبل
…
ودرس للحنابلة بغالب مدارس البلد، وله تعاليق، وتصانيف، ومسودات كثيرة، في الفقه وأصوله، والحديث والعربية والتاريخ وغير ذلك" (1).
ويرى الشيخ أبو زهرة رحمه الله أن سبب قلة الوجود الحنبلي في مصر، إنما مرده إلى المسلك الذي كانت تسلكه الدولة الأيوبية تجاه المذاهب، فقد كان ملوكها شديدي التعصب للمذهب الشافعي، فحاربوا غيره من المذاهب، فلم يسمحوا لغيره من المذاهب إلا ما كان له تأييد من العامة، كالمذهب المالكي، ولم يكن للمذهب الحنبلي ذلك النفوذ من قبل (2).
وهذا الرأي يحتاج إلى بينة من واقع التاريخ، فإن الدولة الأيوبية وإن كانت تقدم الشافعية على غيرهم، فإنها لم تغلق الأبواب في وجوه المذاهب الأخرى، والذي يدل على ذلك أن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل بنى المدرسة الصالحية بالقاهرة، وذلك سنة 639 هـ، أي في عز الدولة الأيولية. قال المقريزي: ورتب فيها دروسًا أربعة للفقهاء المنتمين إلى المذاهب الأربعة في سنة 641 هـ، وهو أول من عمل بمصر دروسًا أربعة في مكان (3).
ونزيد ذلك تأكيدًا بما ورد في ترجمة الفقيه الواعظ المفسر علي بن إبراهيم الدمشقي، المعروف بـ "ابن نجية"، فإنه أوفد إلى بغداد من قبل السلطان نور الدين الشهيد، ثم أوفد إلى مصر من قبل السلطان صلاح الدين الأيوبي، فبقي هناك إلى أن مات. وكان ذا رَأي صائب، حتى كان صلاح الدين يسميه عمرو بن العاص، ويعمل برأيه، ويكاتبه، ويحضر مجلسه هو وأولاده (4).
(1) حسن المحاضرة/ 484، وذكر له السخاوي ترجمة حافلة نقلها ابن حميد في "السحب الوابلة" 1/ 85. ط. مؤسسة الرسالة.
(2)
ابن حنبل ص 461.
(3)
حسن المحاضرة 2/ 263 مع هامشه للشيخ محمد أبو الفضل إبراهيم.
(4)
ذيل الطبقات 1/ 437.