الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
الحياة الإجتماعية في عصر الإمام أحمد
الحياة الإجتماعية هي وليدة الحياة السياسية والحياة الثقافية، وقد سبق في تصوير الحياة السياسية بيان كيف اختلط العنصر العجمي بالعنصر العربي في المجتمع الإسلامي غب ميلاد الدولة العباسية.
فقد ازدحمت بغداد بالفرس والترك إلى جانب العرب، بل كان هناك العنصر الرومي والهندي والزنجي، ولا يخفى ما في تلك الغزوات المتتالية لبلاد الروم مما كان يأسر المسلمون فيها من الرجال وَيسْبُون من النساء، بالإضافة إلى أن الفضل ابن يحيى البرمكي قد جنَّد خمس مئة ألف من الفرس بخراسان، وأدخل منهم عشرين ألفًا إلى بغداد، وأما المعتصم فقد اتخذ هو الآخر عشرين ألفا من غلمان الترك وبوأهم "سامراء" مدينة يعيشون فيها ويقومون على الشؤون المدنية المختلفة لعاصمة الخلافة.
وتسارع الناس في اقتناء الإماء واستيلادهن والرفع من شأنهن، حتى صار المولدون منهن في سدة الخلافة، فكانت أم الرشيد أم ولد يمانية اسمها "الخَيْزُران" وكانت أم المأمون أم ولد أيضًا اسمها "مراجل" باذغيسية، وكذلك المعتصم، فقد كانت أمه أم ولد تركية اسمها "ماردة".
وقد أجمل الحافظ الخطيب البغدادي وصف مدينة السلام، وما كانت تنعم به من الهناء والحياة الكريمة لأهلها، فقال: قال أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي: ثم إن بغداد
سميت حين سكنت: مدينة السلام، فليس في الأرض مدينة على هذا الاسم غيرها، وكان بعض إخواننا إذا ذكرها يقرأ قول الله تعالى:{بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15].
قال أبو الحسين: هذا إلى تركنا ذكر أشياء كثيرة من مناقبها التي أفردها الله بها دون سائر الدنيا شرقا وغربًا، ويين ذلك من الأخلاق الكريمة، والسجايا المرضية، والمياه العذبة الغدقة، والفواكه الدمثة، والأموال الجميلة، والحذق في كل صنعة، والجمع لكل حاجة، والأمن من ظهور البدع، والاغتباط بكثرة العلماء والمتعلمين، والفقهاء والمتفقهين، ورؤساء المتكلمين، وسادة الحساب والنحوية، ومجيدي الشعراء، ورواة الاْخبار والأنساب، وفنون الآداب، وحضور كل طرفة، واجتماع ثمار الأزمنة في زمن واحد، لا يوجد ذلك في بلد من مدن الدنيا إلا بها، سيما زمن الخريف. ثم إن ضاق مسكن بساكن وجد خيرًا منه، وإن لاح له مكان أحب إليه من مكانه لم يتعذر عليه النقلة إليه من أي جانب من جانبيه أراده، ومن أي طرف من أطرافه خف عليه.
ومتى هرب أحد من خصمه وجد من يستره في قرب أو بعد، وإن آثر أن يستبدل دارًا بدار أو سكة بسكة أو شارعًا بشارعِ أو زقاقًا بزقاق وغير ذلك من التبديل اتسع له الإمكان في ذَلك حسب الحَالة والوقت. ثم عيون التجارًا المجهزين والسلاطين المعظمين، وأهل البيوتات المبجلين في ناحية ناحية، تنبعث الخيرات بهم إلى الذين هم في الحال دونهم غير منقطع ذلك ولا مفقود، فهي من خزائن الله العظام التي لا يقف على حقيقتها إلا هو وحده (1).
هكذا كان مسقط رأس الإمام أحمد ومهد أيامه الأولى، وفيها كان مستقره من بعد الرحلات التي قضاها في حواضِرِ العالم الإسلامي طلبًا للعلم وحرصًا على جمع الحديث من أئمته وأساطينه.
* * *
(1) تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي 1/ 50 - 51. دار الكتاب العربي.