المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطور الثالثحياة الإمام أحمد في بغداد إلى بداية المحنة - المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته - جـ ١

[عبد الله بن عبد المحسن التركي]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَة

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌أولًا - كلمة "مذهب

- ‌1 - المذهب لغة:

- ‌2 - المذهب عرفًا:

- ‌3 - المذهب اصطلاحًا:

- ‌ثانيًا - نشأة المذاهب الفقهية وسببها:

- ‌ثالثًا - أهمية المذاهب الفقهية في خدمة الشريعة الإسلامية:

- ‌الفصل الأولفي سيرة الإمام أحمد وعلمه

- ‌المبحث الأولالحياة السياسية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الثانيالحياة الثقافية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الثالثالحياة الإجتماعية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الرابعسيرة الإمام أحمد

- ‌الطور الأولالنشأة والطفولة

- ‌الطور الثانىطلبه للعلم والرحلة فيه

- ‌الطور الثالثحياة الإمام أحمد في بغداد إلى بداية المحنة

- ‌الطور الرابعالمحنة أسبابها. مراحلها. نتائجها

- ‌أسباب المحنة

- ‌مراحل المحنة

- ‌المرحلة الأولىالمحنة في زمن المأمون

- ‌المرحلة الثانيةالمحنة في زمن المعتصم

- ‌المرحلة الثالثةالمحنة في زمن الواثق

- ‌نتائج المحنة

- ‌المبحث الخامس‌‌وفاة الإمام أحمدومجمل مناقبه وعلمه

- ‌وفاة الإمام أحمد

- ‌مجمل مناقب الإمام أحمد وصفاته:

- ‌علم الإمام أحمد

- ‌أولاً: شهادة الناس له بالعلم:

- ‌ثانياً. في الرواية عنه:

- ‌ثالثاً: في مؤلفاته:

- ‌ما نسب إلى الإمام أحمد من كتب:

- ‌رسائل الإمام أحمد

- ‌المسندديوان السنة النبوية

- ‌ تاريخ تأليف المسند:

- ‌ وصف المسند:

- ‌ رواية المسند:

- ‌ منزلة المسند بين كتب الحديث:

- ‌ الأعمال التي تمت على المسند:

- ‌1 - غريب الحديث، لغلام ثعلب (261 هـ - 345 ه

- ‌2 - ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج لهم أحمد بن حنبل في "المسند" لإبن عساكر (499 هـ - 571 ه

- ‌3 - خصائص المسند، للحافظ أبي موسى المديني (501 هـ -581 ه

- ‌5 - التذكرة في رجال العشرة، لإبن حمزة الحسيني (715 هـ - 765 ه

- ‌6 - الإكمال في ذكر من له رواية في مسند الإمام أحمد من الرجال سوى من ذُكر في تهذيب الكمال:

- ‌8 - ترتيب المسند، لأبي بكر بن المحب (712 هـ - 789 ه

- ‌9 - ترتيب المسند، لإبن زريق (ت 803 ه

- ‌10 - إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لإبن الملقن (723 هـ -804 ه

- ‌11 - مختصر المسند

- ‌12 - غاية المقصد في زوائد المسند، للهيثمي (735 هـ - 807 ه

- ‌13 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:

- ‌14 - جزء للحافظ الهيثمي:

- ‌15 - ترتيب مسند أحمد على حروف المعجم، للمقدسي (ت 820 ه

- ‌16 - ذيل الكاشف، لإبن العراقي (762 هـ - 826 ه

- ‌17 - المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد، للحافظ ابن الجزري (751 هـ - 833 ه

- ‌18 - المقصد الأحمد في رجال أحمد

- ‌19 - المسند الأحمد فيما يتعلق بمسند أحمد

- ‌20 - ترتيب المسند المسمى "الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري"، لإبن زكنون (758 هـ - 837 ه

- ‌21 - زوائد المسانيد المسمى بـ: "إتحاف السادة المهرة بزوائد العشرة" للبوصيري (762 هـ - 840 ه

- ‌22 - القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد، للحافظ ابن حجر العسقلاني (773 هـ - 852 ه

- ‌23 - إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي:

- ‌24 - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة:

- ‌25 - التعريف الأجود بأوهام من جمع رجال السند:

- ‌26 - الذيل الممهد على القول المسدد، للسيوطي (ت 911 ه

- ‌27 - عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد:

- ‌29 - شرح المسند، للشيخ أبي الحسن السندي (ت 1139 ه

- ‌30 - نفثات الصدر المُكْمَد وقرّة عين السعد بشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، للسفاريني (1114 هـ - 1189 ه

- ‌31 - ذيل القول المسدد، لمحمد صبغة الله المدراسي:

- ‌32 - الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للساعاتي (ت 1378 ه

- ‌33 - بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني:

- ‌34 - تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر للمسند:

- ‌35 - الموسوعة الحديثية الكبرى:

- ‌دعوى كون الإمام أحمد محدثًا غير فقيهٍ والرَّد عليها:

- ‌الفصل الثانيفي أدوار المذهب ومواطن انتشاره

- ‌الدور الأولالنشأة والتأسيس

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولوصف عام لأصحاب الإمام أحمد

- ‌المبحث الثانيفي التعريف بأصحابه الذين سمعوا منه ورووا فقهه

- ‌تصنيف رواة المسائل عن الإمام أحمد:

- ‌التعريف بأشهر أصحاب الإمام أحمد

- ‌1 - إبراهيم الحَرْبي (198 هـ - 285 ه

- ‌2 - إسحاق بن إبراهيم بن هانئ (218 هـ - 285 ه

- ‌3 - أحمد بن حُميد (أبو طالب) (؟ - 244 ه

- ‌4 - أحمد المرّوذي (؟ - 275 ه

- ‌5 - أحمد الأثرم (؟ - 273 ه

- ‌6 - إسحاق الكَوْسَج (170 هـ - 251 ه

- ‌7 - حرب الكرماني (؟ - 280 ه

- ‌8 - حنبل بن إسحاق (؟ - 273 ه

- ‌9 - سليمان بن الاشعث أبو داود (202 هـ - 275 ه

- ‌10 - صالح بن الإمام أحمد (203 هـ - 266 ه

- ‌11 - عبد الله بن الإمام أحمد (213 هـ - 290 ه

- ‌12 - عبد لله بن محمد (فوران) (- 256 ه

- ‌13 - عبد الملك الميموني (- 274 ه

- ‌14 - مُهَنّا بن يحيى الشامي:

- ‌الدور الثانيالنقل والنمو

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولمميزات هذا الدور

- ‌المبحث الثاني‌‌أشهر علماء هذا الدوروأبرز أعمالهم

- ‌أشهر علماء هذا الدور

- ‌1 - الخلال (311 ه

- ‌2 - ابن المنادي (256 هـ - 336 ه

- ‌3 - أبو بكر النجاد (253 هـ - 348 ه

- ‌4 - الخِرَقي (334 ه

- ‌5 - الآجُرّي (360 ه

- ‌6 - غلام الخلَّال (285 هـ - 3763 ه

- ‌7 - ابن بَطة العُكْبَري (304 هـ - 387 ه

- ‌8 - ابن المُسْلِم (387 ه

- ‌9 - الحسن بن حامد (403 ه

- ‌أبرز أعمال علماء هذا الدور

- ‌أولاً - الجمع للمسائل

- ‌ثانياً - الإختصار الفقهي

- ‌ثالثا - شروح المختصرات

- ‌رابعاً - التآليف الجزئية المفردة

- ‌خامساً - الكتابة في أصول الفقه الحنبلي

- ‌الدور الثالثالإنتشار - الإزدهار - الإستقرار

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولالمذهب في العراق

- ‌1 - القاضي أبو يَعْلى (380 - 458 ه

- ‌2 - أبو الخَطّاب (432 - 510 ه

- ‌3 - ابن المَنِّي (501 - 583 ه

- ‌المبحث الثانيالمذهب في حَرَّان

- ‌آل تيمية وجهودهم في خدمة المذهب الحنبلي:

- ‌المبحث الثالثالمذهب في بلاد الشام

- ‌المقادسة وجهودهم

- ‌نتائج جهود المقادسة

- ‌أشهر الفقهاء الشاميين الذين خدموا المذهب:

- ‌ موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي (541 - 620 ه

- ‌ شمس الدين ابن مفلح (712 - 763 ه

- ‌ علاء الدين المرداوي (817 - 885 ه

- ‌حالة المذهب الحنبلي بعد المقادسة

- ‌الشيخ عبد القادر ابن بدران (1280 - 1346 ه

- ‌المبحث الرابعالمذهب في مصر

- ‌1 - ابن النجار الفُتُوحي (898 هـ - 972 ه

- ‌2 - منصور بن يونس البُهُوتي (1000 - 1051 ه

- ‌المبحث الخامسالمذهب في الجزيرة العربية

- ‌ الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة (948 ه

- ‌ الشيخ عبد الله بن محمد بن ذهلان (1099 ه

- ‌الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته

- ‌نتائج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌1 - الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1165 - 1244 ه

- ‌2 - الشيخ عبد لله بن عبد الرحمن الملقب بـ "أبا بُطين" (1194 - 1282 ه

- ‌3 - الشيخ عبد الرحمن بن حسن أل آلشيخ (1193 - 1285 ه

- ‌أثر الملكة العربية السعودية في ازدهار الفقه الحنبلي

- ‌خلاصة ما تمّ في المملكة العربية السعودية من جهود في خدمة المذهب الحنبلي

- ‌1 - الشيخ سعد بن حمد بن علي ابن عتيق (1267 - 1349 ه

- ‌2 - الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الرحمن العنقري (1290 - 1373 ه

- ‌3 - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (1307 - 1376 ه

- ‌4 - الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع (1300 - 1385 ه

- ‌5 - الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (1311 - 1386 ه

- ‌الفصل الثالثسمات الحنابلة

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولأثر سيرة الإمام أحمد على الحنابلة

- ‌المبحث الثانيالإعتناء بعلوم الحديث الشريف

- ‌المبحث الثالثالحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌المبحث الرابعالإتباع للسلف ومناهضة البدع

- ‌المبحث الخامسالحنابلة والسلطة السياسية

- ‌المبحث السادسأضواء على الإجتهاد عند فقهاء الحنابلة

- ‌ تعريف "الإختيارات

- ‌ التأليف في الإختيارات:

- ‌ اختيارات ابن تيمية ومميزاتها:

- ‌ الأسس التي ترتكز عليها اختيارات شيخ الإسلام:

- ‌ مرتبة ابن تيمية في طبقات المجتهدين:

- ‌ منهج ابن تيمية في الفتوى والإجتهاد:

- ‌الفصل الرابعأبرز مؤلفات المذهب الحنبلي

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولفي فنون الفقه التي توزعتها التصانيف

- ‌المبحث الثانيفي ترتيب المكتبة الفقهية الحنبلية

- ‌كيفية التعرف على كتاب من الكتب الفقهية

- ‌كيفية ترتيب المكتبة الفقهية الحنبلية

- ‌المبحث الثالثفي التعريف بأشهر الكتب المعتمدة في المذهب

- ‌ الجامع للخلال:

- ‌ مختصر الخرقي:

- ‌ الإرشاد إلى سبيل الرشاد:

- ‌ الخلاف الكبير للقاضي أبي يعلى:

- ‌ كتاب الروايتين والوجهين:

- ‌ شرح مختصر الخرقي للقاضي أبي يعلى:

- ‌ الانتصار في المسائل الكبار:

- ‌ المستوعب:

- ‌ المغني:

- ‌ العمدة

- ‌ المقنع

- ‌الكافي

- ‌ المحرر:

- ‌ الفروع:

- ‌الإنصاف

- ‌الإقناع

- ‌ منتهى الإرادات:

الفصل: ‌الطور الثالثحياة الإمام أحمد في بغداد إلى بداية المحنة

‌الطور الثالث

حياة الإمام أحمد في بغداد إلى بداية المحنة

• أسرة الإمام أحمد:

تزوج الإمام أحمد بعدما أوفى على الأربعين من عمره، فتزوج في البداية عباسة بنت الفضل، أم ولده صالح، أحد رواة علمه وحافظي مذهبه، ولم تنجب غيره حتى توفيت -رَحِمَهَا اللهُ-. فتزوج بعد وفاتها ريحانة بنت عمر، أم ولده عبد الله.

قال ابن الجوزي: وهاتان زوجتان وما عرفنا أنه تزوج ثالثة (1). يعني بذلك أن بقية أولاده ما عدا صالحًا وعبد الله إنما كانوا من جاريته حُسنَ التي اشتراها بعد وفاة ريحانة أم عبد الله، فولدت حسنُ للإمام أحمد زينب أم علي، والحسن والحسين، وهما توأم، لكن لم يلبثا أن ماتا، ثم ولدت الحسن ومحمدا، فعاشا حتى صارا من السن إلى نحو من أربعين سنة، ثم ولدت سعيدًا (2).

• الإمام أحمد بعد زواجه:

كان الإمام أحمد يفضل عيش الكفاف طيلة حياته، ما ثبت عنه أنه ترفه يومًا بنعيم، أو تفكه بطيب عيش ولذيذ طعام وفاخر ثياب ورياش بيت، ولم يكن ذلك منه عن قلة ذات اليد، مع تلهف النفس وحرصها على أن تبلغ المنى في الرخاء والهناء، بل كان ذلك عن رغبة وزهد، وقناعة وغنى في القلب، ولو أراد أن يعيش عيشة المترفين والأغنياء لكان ذلك ميسور المنال داني القطوف، فقد كانت بغداد في ذلك الوقت مليئة بخيرات الدنيا، لا تنقطع

(1) المناقب ص 375.

(2)

طبقات الحنابلة، لإبن أبي يعلى 1/ 427 ، المناقب، ص 376، والسير 11/ 185. ولم تسعفنا المصادر بأخبار متكاملة عن الحسن ومحمد وسعيد.

ص: 53

عنها فواكه الفصول الأربعة، بل جمعت فيها كل ألوان الملذات التي عرفت في ذلك الوقت، حتى إن شعبة بن الحجاج قال لأبي الوليد: أدخلت بغداد؟ قال: لا، قال: فكأنك لم تر الدنيا. ومثله يروى عن الشافعي في قوله ليونس بن عبد الأعلى (1).

بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت أعطيات السلاطين والخلفاء وجوائزهم للعلماء معروفة مشهورة، وقد عرض ذلك على الإمام أحمد خصوصًا بعد انكشاف المحنة في زمن المتوكل، فرفض ذلك كله رحمه الله، فكان كما قال البوصيري:

راودته الجبال الشم من ذهب

عن نفسه فأراها أيما شمم

فأخباره في زهده وتعففه وتظلفه تملأ المجلدات، ونحن نجتزئ بالقدر الذي يفي بالغرض ويصور حياته هناك في بغداد -عليه رحمة الله-:

كان في أول الأمر يعيش مع زوجته الأولى عباسة، وولده الوحيد صالح نحوًا من عشر سنوات على حال وصفها ابنه صالح فقال: "ربما رأيت أبي يأخذ الكسَر ينفض الغبار عنها، ويصيرها في قصعة، ويصب عليها ماء، ثم يأكلها بالملح، وما رأيَته اشترى رمانا ولا سفرجلًا ولا شيئًا من الفاكهة، إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز، وعنبًا وتمرًا ..

وقال لي: كانت والدتك في الغَلاء (2) تغزل غزلًا دقيقًا، فتبيع الإستار (3) بدرهمين أو أقل أو أكثر، فكان ذلك قوتنا. وكنا إذا اشترينا الشيء، نستره عنه كيَلا يراه، فيوبخنا، وكان ربما خبز له، فيجعل في فخّارة عدسًا وشحمًا وتمرات شِهْرِيز -نوع من التمر- فيجيء الصبيان، فيصوت ببعضهم، فيدفعه إليهم، فيضحكون ولا يأكلون، وكان يأتدم بالخل كثيرًا" (4).

فلما توفيت أم صالح، وكان سن صالح إذ ذاك يقارب العاشرة، تزوج ريحانة وأسكنها في دار كان قد ورثها من أبيه وحولها جوانب مؤجرة يعيش من غلتها. قال الخلّال: وأخبرني

(1) تاريخ بغداد 1/ 45.

(2)

في "السير": (الظلام).

(3)

الإستار: وزن أربعة مثاقيل ونصف، والجمع: أساتير، فارسي معرب "اللسان":(ستر).

(4)

السير 11/ 209، المناقب ص 331.

ص: 54

محمد بن علي السمسار، قال: كانت لأم عبد الله بن أحمد دار معنا في الدرب يأخذ منها درهما بحق ميراثه، فاحتاجت إلى نفقة فأصلحها عبد الله، فترك أبو عبد الله الدرهم الذي كان يأخذه، وقال: قد أفسده علي (1).

وكانت الحاجة قد اشتدت بآل أحمد بن حنبل في أيام المحنة، وكثرت عليهم الديون، ومع ذلك لم يتزحزح الإمام الشيباني عن زهده وورعه، وتظلفه عن الأعطيات والصَّلات، فقد قال ولده صالح: دخلت على أبي في أيام الواثق، والله يعلم في أي حالة نحن، وقد خرج لصلاة العصر، وكان له لبْدٌ يجلس عليه قد أتت عليه سنون كثيرة قد بَلِيَ، فإذا تحته كاغد، وإذا فيه: بلغني يا أبا عبد الله ما أنت فيه من الضيق وما عليك منَ الدَّين، وقد وجهت إليك بأربعة آلاف درهم على يدي فلان لتقضي بها دينك، وتوسع بها على عيالك، وما هي من صدقة ولا زكاة، وإنما هو شيء ورثته من أبي.

فقرأت الكتاب، ووضعته، فلما دخل قلت: يا أبة، ما هذا الكتاب؟ فاحمر وجهه، وقال: رفعته منك. ثم قال: تذهب بجوابه، فكتب إلى الرجل: وصل كتابك إلي ونحن في عافية. فأما الدَّين، فإنه لرجل لا يرهقنا، وأما عيالنا فهم في نعمة والحمد لله، فذهبت بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل، فلما كان بعد حين، ورد كتاب الرجل مثل ذلك، فرد عليه بمثل ما رد. فلما مضت سنة أو نحوها ذكرناها، فقال: لو كنا قبلناها، كانت قد ذهبت (2).

وأما بيت الإمام أحمد فقد كان على حد كبير من البساطة والتواضع، قال الميموني في وصفه: كان منزل أبي عبد الله ضيقًا صغيرًا، وكان ينام في الحر في أسفله، وقال لي عمه: ربما قلت له، فلا يفعل ولا ينام فوقُ، وقد رأيت موضع مضجعه وفيه شاذكونة وبردعة، قد غلب عليها الوسخ (3).

(1) المناقب، ص 332، وقال ابن أبي يعلى في "الطبقات" (1/ 15): إنما تورع من أخذ حقه من الأجرة خشية أن يكون ابنه أنفق على الدار مما يصل إليه من مال الخليفة.

(2)

المناقب، ص 297، السير 11/ 205.

(3)

المناقب، ص 316، وفيه وصف بقية بيته وأثاثه المنزلي، والشاذكونة: ثياب غلاظٌ مضرَّبة تُعمل باليمن، والبردعة: كساء يُبسط في البيت.

ص: 55

• صور من حياته التعليمية في بغداد:

سبق القول: إن الإمام الشافعي كان قد دخل بغداد معلمًا مربيًا فيما بين 195 و 197 هـ، فكان أحمد يجلس إليه ويحرص على دروسه العامة والخاصة إلى أن غادر بغداد في أواخر 198 هـ بعد الزيارة الأخيرة التي وقعت له هناك.

وكانت هذه الفترة فترة اضطراب وفتن متكررة بين الأمين والمأمون، فقد بدأ الخلاف بينهما منذ تولي الأمين الخلافة سنة 193 هـ ثم تفاقم ذلك في سنة 194 هـ وفي سنة 195 هـ بدأت المواجهات المسلحة وظهرت آثار الخلاف في جميع الأمصار. وفي سنة 196 هـ خلع أهل بغداد بيعة الأمين وأخذوا البيعة لأخيه المأمون. وفي سنة 197 هـ تم حصار بغداد على الأمين، وكانت الوقاح والمشادات تترى بين جيش المأمون بقيادة طاهر بن الحسين وبين أنصار الأمين، وانتهت الأحداث بقتل الأمين سنة 198 هـ واستقر الأمر من ذلك التاريخ لأخيه.

وقد وصف ابن كثير صورة من تلك الحوادث والمدلهمات، فقال: "استهلت أي سنة 197 هـ وقد ألح طاهر بن الحسين وهَرْثَمة بن أعين، ومن معهما من الجنود في حصار بغداد، والتضييق على محمد الأمين، وهرب القاسم بن الرشيد، وعمه منصور بن المهدي إلى المأمون فأكرمهما، وولّى أخاه القاسم جرجان، واشتد الحصار ببغداد، ونصبت عليها المجانيق والعرَّادات، وضاق الأمين بهم ذرعًا، ولم يبق معه ما ينفق في الجند، فاضطر إلى ضرب آنية الفضة والذهب دراهم ودنانير، وهرب كثير من جنده إلى طاهر، وقُتل من أهل البلد خلق كثير، وأخذت أموال كثيرة من التجار، وبعث محمد الأمين إلى قصور كثيرة، ودور شهيرة، وأماكن ومحالَّ كثيرة فحرقها لما رأى في ذلك من المصلحة، فعل كل هذا فرارًا من الموت، ولتدوم الخلافة له، فلم تدم، وقتل، وخُربت دياره، وفعل طاهر مثل ما فعل الأمين حتى كادت بغداد تخرب بكمالها، فقال بعض الشعراء ذلك:

من ذا أصابك يا بغداد بالعين

ألم تكوني زمانًا قرة العين؟

ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم

وكان قربهم زينًا من الزين؟ (1)

(1) البداية والنهاية 14/ 94، تاريخ الطبري 8/ 446 - 447.

ص: 56

فهذه الحوادث لم تكن لتترك بغداد هنيئة بالعلم والمعارف والإزدهار الثقافي الذي بكون من وراء الإستقرار السياسي والاجتماعي.

ثم إن الأمور لم تتحسن بعد ما أفضت الخلافة للمأمون، ففي سنة 201 هـ امتلأت بغداد بالشغب والفساد بسبب فساق الحربية (1) والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ، فآذوا الناس أذى شديدًا، وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق. نخرج المتطوعون للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك (2).

وكان الإمام أحمد رحمه الله يعيش تلك الأيام العجاف، ويذكر لنا المؤرخون أنه لم يجلس للناس يحدث ويعلم ويفتي إلا بعد تصرّم الأربعين من عمره، أي بعد سنة 204 هـ.

قال ابن الجوزي: "اعلم أن أحمد رضي الله عنه كان يفتي في شبابه في بعض الأوقات ويحدث إذا سئل ولا يعتبر سن نفسه .. فقد قال القومسي: رأيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل في مسجد الخيف بمكة في سنة 198 هـ مستندًا الى المنارة، وجاءه أصحاب الحديث فجعل يعلمهم الفقه والحديث ويفتي الناس في المناسك ..

قال: إلا أن الإمام أحمد رضي الله عنه لم يتصدر للحديث والفتوى، ولم ينصب نفسه لهما حتى تم له أربعون سنة" (3).

ولا نعلم الأسباب التي جعلته يتحامى أن يتصدر إلى هذا السن، وقد حاول الشيخ أبو زهرة رحمه الله أن يعلل ذلك بالإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: وعندي أن أحمد كان متبعًا للسنة لا يحيد عنها، كان يفعل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، ولا يفعل ما لم يفعله، حتى إنه كان اذا احتجم أعطى الحجام دينارًا؛ لأنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة دينارًا (4)، وأنه تسرى مع عدم رغبة الطبيعة فيه، بل تسرى؛ لأنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم تسرى، وقد استأذن زوجته في ذلك، فأذنت له لتعينه على الإتباع. إذا كان أحمد حريصًا على الإتباع في هذه الأمور التي تضمن صغار الأعمال، فأولى أن يكون متبعًا في

(1) وهم جند من المرتزقة كانوا ببغداد.

(2)

تاريخ الطبري 8/ 552، واين كثير 14/ 118.

(3)

المناقب، ص 243 - 244.

(4)

الحديث أخرجه البخاري في الطب، باب (13) الحجامة في الداء، حديث (5696)، ومسلم في المساقاة، باب (11)، حلّ أجر الحجامة، حديث (1477)، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 57

ذلك الأمر الجليل الذي لا يوجد عمل أخطر منه في نظر أحمد وغيره، وهو عمل النبيين - صلوات الله وسلامه عليهم -، ألا وهو الدرس والتحديث والإفتاء.

لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في الأربعين، وبلغ رسالة ربه في هذه السن، ولم يرسله الله رحمة للناس إلا فيها، فلابد أن أحمد المتبع المقتدي استحيا أن يجلس للفتيا والحديث إلا بعد أن بلغ الأربعين، وبعد أن تكامل نموه في الجسم والروح.

هذا ما نراه تعليلًا لامتناعه عن الجلوس للحديث والفتوى قبل أن يبلغ هذه السن، وهو تعليل ملتمس من جملة أحواله، كان لم نجد نصًا عليه فيما تحت أيدينا من مصادر (1).

أقول: قوله: تسرَّى وقد استأذن زوجته في ذلك

إلخ. هذا مخالف لما في بعض المصادر، فقد ذكر ابن الجوزي في الباب الثالث والستين في ذكر سراريه أنه اشترى جارية واحدة فقط، وهي حُسنُ التيْ ذكرناها في أسرته، وأنه اشتراها بعد ما غابت آخر زوجاته عن الحياة.

نعم ذكر ابن الجوزي الإستئذان المشار إليه في "المناقب"(ص 229) ولكن الرواية بذلك ضعيفة على ما يبدو، لأنه رواها بلاغًا، والدليل على ضعفها أنه لم يذكرها في إحصاء سراريه.

• وصف مجلسه:

كان مجلس الإمام أحمد مجلسًا جليلًا خلدت ذكره الأخبار، وسارت به الركبان في الأنجاد والأغوار، كان مجلس علم ومجلس حلم ومجلس وقار، فيه السمت وفيه الأدب وفيه الورع، فلا جرم كان بعض الطلاب يقصدون الحديث، فيكتبون، ويعضهم يقصدون أخذ الأدب والسمت، والنظر إلى وقار الإمام أحمد واحترامه للحديث والعلم.

قال المروذي: لم أر المفقير في مجلس أعز منه في مجلس أحمد، كان مائلًا إليهم، مقصرًا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، تَعلوهُ

(1) ابن حنبل، ص 36 - 37.

ص: 58

السكينة والوقار، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر (1).

وعن الحسين بن إسماعيل عن أبيه، قال: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت (2).

ويظهر أنه كان له مجلسان للدرس والتحديث: أحدهما: في منزله يحدث فيه خاصة تلاميذه وأولاده. والثاني: في السجد يحضر إليه العامة والتلاميذ، وقدْ رأينا كيف كان يذكر بعضهم أن درسه يبلغ من يحضره خمسة آلاف، وأن خمسمائة فقط هم الذين يكتبون، أي: نحو عُشر الحاضرين الذين ينقلون عنه الحديث، ويروونه، وهم الخاصة من تلاميذه والمستمعين إليه، وخاصة الخاصة من تلاميذه هم الذين كانوا يذهبون إلى بيته، ويتلقون عنه مع أولاده وأهله.

وقد كان وقت درسه في المسجد بعد العصر ولعله كان يختار ذلك الوقت؛ لأنه قبل عتمة الليل، وبعد وهج النهار، ولأنه وقت راحة لأكثر الناس فيتيسر لهم أن يحضروا، ولأنه وقت صفاء النفس، وفراغها من تشاغل الحياة واضطرابها، فيكون الحديث أو الإفتاء والنفس مستجمة مقبلة، لا كليلة مدبرة، والدرس عند إقبال النفس أعمق أثرًا فيها وأكثر شيوعًا في نواحيها (3).

• وصف عام للكتب التي كان يقرؤها على الناس:

وكان الإمام أحمد رحمه الله، كسائر معاصريه من المحدثين، قد جمع الأحاديث التي رواها عن الأئمة من طبقة شيوخه في دواوين، ومسموعات مصنفة على الشيوخ، فحديث هشيم بن بشير في كتاب، وحديث يزيد بن هارون في كتاب، وحديث وكيع في كتاب، وهكذا، ولكنه لم يضع تراجم الشيوخ وأسماءهم على

(1) السير 11/ 218، المناقب ص. 28.

(2)

السير 11/ 316، المناقب ص 271.

(3)

ابن حنبل، لأبي زهرة ص 39.

ص: 59

ظهور تلك المسموعات، ومع ذلك لا يختلط عليه الحديث، ولا تلتبس عليه النسخ والمرويات والمسموعات، حتى كان أبو زرعة الرازي يعجب من ذلك، ويذعن بعدم القدرة على بلوغه ذلك الشأو. فقد قال البردعي يومًا لأبي زرعة: يا أبا زرعة، أنت أحفظ أم أحمد بن حنبل؟ قال: بل أحمد بن حنبل. قال: وكليف علمت ذاك؟ قال: وجدت كتب أحمد بن حنبل، ليس في أوائل الأجزاء ترجمة أسماء المحدثين الذين سمع منهم، فكان يحفظ كل جزء ممن سمع، وأنا، فلا أقدر على هذا (1).

كان الإمام أحمد يحدث بتلك الأحاديث، وهي على تلك الحال، وكان يحدث من تلك الصحف ولا يعتمد على حفظه تورعًا وتواضعًا. فقد قال علي بن المديني: "ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة حسنة (2).

بالإضافة إلى هذا كان الإمام أحمد قد صنف جملة من الكتب والمؤلفات، وجعل يقرؤها على الناس، فهذه من جملة ما كان يلقي في دروسه، فقد صنف "المسند" و"فضائل الصحابة" و"العلل وصرفة الرجال" و"الأسامي والكنى" و"الزهد" و"الرد على الزنادقة والجهمية" و"الإيمان" و"الناسخ والمنسوخ" و"الأشربة" وغير ذلك من التصانيف.

ولكن لا نجزم أنه كان يقرأ هذه الكتب، أو قد قرأها جميعًا على الناس، على أن بعض تلك الكتب كان يقرؤها حسبما تفيد الروايات والأخبار، فقد قال أبو حاتم الرازي رحمه الله:"أتيت أحمد بن حنبل في أول ما التقيت معه سنة 213 هـ، فإذا قد أخرج معه إلى الصلاة كتاب "الأشربة" وكتاب "الأيمان" فصلى، ولم يسأله أحد فرده إلى بيته. وأتيته يومًا آخر فإذا قد أخرج الكتابين فظننت أنه يحتسب في إخراج ذلك، لأن كتاب "الإيمان" أصل الدين، وكتاب "الأشربة" صرف الناس عن الشر، فإن أصل كل شر من السكر"(3).

(1) تقدمة الجرح والتعديل ص 296، السير 11/ 188، والمناقب ص 86.

(2)

المصدر السابق ص 295.

(3)

المصدر السابق ص 303، المناقب ص 246.

ص: 60

• نهي الإمام أحمد عن كتابة فتاويه وسبب ذلك:

كان الإمام أحمد رحمه الله يكره تأليف الكتب التي تحتوي على الرأي والتفريعات الفقهية ويحب التمسك بالأثر، وكان ينصح طلابه وتلامذته بذلك. فقد أخرج ابن الجوزي عن عثمان بن سعيد قال: قال لي أحمد بن حنبل: لا تنظر في كتب أبي عبيد، ولا فيما وضع اسحاق، ولا سفيان، ولا الشافعي، ولا مالك، وعليك بالأصل (1).

وإذا كان الإمام أحمد يوجه أصحابه الى الإشتغال بالحديث الذي هو أصل تلك الإجتهادات المدونة في زمنه ومنبعها، فشيء واضح أنه لا يسمح لأولئك التلاميذ أن يدونوا فتاويه ويكتبوا أجوبته عن المسائل التي يُسأل عنها، وإن كان يعرف عنه أنه كان يجيب بما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة وفتاوي الصحابة، وقد كان حافظًا لذلك لا يفوته إلا القليل النادر.

قال حنبل بن اسحاق: رأيت أبا عبد الله يكره أن يكتب شيء من رأيه أو فتواه. ويلغه أن إسحاق بن منصور الكوسج قد صار يروي مسائله وفتاويه للناس بخراسان، فأشهد الناس أنه رجع عن ذلك (2)، وذلك ليكف إسحاق عن نشر الفتاوي، وليس معناه أنه رجع بالفعل، لأننا لو حملنا كلامه على ظاهره للزم من ذلك أن تكون تلك المسائل كلها غلطًا صدر منه، ثم استدركه على نفسه، وهذه النتيجة تتنافى مع ما كان عليه من الورع والإقتفاء للسنن والآثار الثابتة عن الصحابة، وأن ذلك كان دأبه منذ النشأة الأولى، بل ما زالت تلك المسائل التي رواها اسحاق الكوسج محفوظة الى يومنا هذا، قد أوردها أو عامتها الإمام الترمذي في "جامعه" في تعليقاته على أحاديث الأبواب، وهي تدل على صدق ما قلناه.

بل ذكر ابن الفراء في ترجمة اسحاق المذكور، أنه لما بلغه رجوع الإمام أحمد عن تلك المسائل جمعها في جراب، وقدم اليه بها، فأقر بها ثانية، وأعجب بذلك أحمد من شأنه.

(1) المناقب ص 249.

(2)

المناقب ص 251.

ص: 61

وقال أبو عبد الله الحسن بن حامد (403 هـ): وقد رأيت بعض من يزعم أنه منتسب إلى الفقه يُلَيِّن القول في كتاب إسحاق بن منصور، ويقول: إنه يقال: إن أبا عبد الله رجع عنه، وهذا قول من لا ثقة له بالمذهب، إذ لا أعلم أن أحدًا من أصحابنا قال بما ذكره، ولا أشار إليه (1).

ولماذا كان الإمام المبجل يكره الإشتغال بكتب الرأي ويتدوين مسائله وفتاويه وأقواله؟ هل هو مجرد التواضع لله سبحانه كما قال ابن الجوزي؟ أو هو شيء آخر بالإضافة إلى ذلك؟ فلو كان التواضع فقط لما كان هناك من داع إلى كراهته الإشتغال بما كتبه غيره، فالظاهر أنه رحمه الله كان يريد أن يرد الناس إلى السنة والأثر الذي رأى أنه قد ضاع في بغداد بين الفقهاء والمتكلمين، وأن الناس أقبلت على أقوال الناس ومؤلفاتهم في الفقه والإجتهاد؛ تحفظها وترويها كما تحفظ الحديث وترويه، فكان الواجب يقتضيه أن يحث الناس على حفظ الحديث والعناية به بقدرما كان غيره يحث على النظر والتفريع والبحث.

والذي يؤيد هذا ما رواه عنه ابنه عبد الله في "مسائله" أنه لما ذكر وضع الكتب عنده قال: أكرهها، هذا أبو حنيفة وضع كتابًا، فجاء أبو يوسف فوضع كتابًا، وجاء محمد بن الحسن فوضع كتابًا، فهذا لا انقضاء له، كل ما جاء رجل وضع كتابًا، وهذا مالك وضع كتابًا، وجاء الشافعي أيضًا، وجاء هذا، يعني أبا ثور، وهذه الكتب وضعها بدعة، كلَّ ما جاء رجل وضع كتابًا وترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه (2).

(1) الطبقات 2/ 174.

(2)

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل، للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد 1/ 351. ط. دار العاصمة، 1997.

ص: 62