الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس
أضواء على الإجتهاد عند فقهاء الحنابلة
يتميز مذهب الإمام أحمد عن بقية المذاهب الأخرى بأنه دُوِّنَ، وحُرِّرَ، ونُقّحَ، في فترة زمنية شملت عدة طبقات من أصحابه، لذلك نجد هذا المذهب غنيًا بالمجتهدين الذين عاشوا في القرون: السادس والسابع والثامن، فضلاً عن المتقدمين، وذلك من أمثال: أبي الخطاب، وابن عقيل، وابن الجوزي، وموفق الدين ابن قدامة المقدسي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، وغيرهم (1).
فهؤلاء أثروا المذهب بالتأليف والترجيح للروايات، والإستدلال عليها، والتفريع والتخريج.
والسبب في تمدد عمل التدوين والتحرير والتنقيح على مدى تلك الفترة الطويلة التي كان لها فضلٌ كبير في توفر عدد كبير من المجتهدين في هذا المذهب الجليل، السبب في ذلك يعود إلى نشأة المذهب في ذاته، وكيفية تكوّنه في أيامه الأولى.
وفحوى ذلك: أن الإمام أحمد كان لا يرضى لنفسه ولا لأحدٍ من تلامذته أن يُدوّن كلامه، بل كان يفضّل أن لا تُدون آراء الرجال، وأن الإكتفاء بتدوين السنة بما فيها من المرفوع والآثار الموقوفة على الصحابة، بالإضافة إلى اجتهادات التابعين، كان يرى أن ذلك يُغني عن آراء الرجال الذين جاءوا من بعدهم. فكان من شأن موقف الإمام أحمد هذا أن اختلفت الرواية في نقل فتاويه واجتهاداته وسائر آرائه اختلافاً أدى إلى تميز هذا المذهب بتعدد الأقوال المنصوصة، ونما المذهب فيما بعد في طي هذا التعدد، بالإضافة إلى الوجوه المخرجة للأصحاب، الأمر الذي أتاح لمجتهدي الترجيح والإختيار مجالاً رحباً في توظيف آلة الإجتهاد وإعمال النظر والتحقيق. وتلك كانت سمة من سمات المذهب الحنبلي وفّرت مساحة اجتهادية أمام فقهاء المذهب في مختلف طبقاتهم.
(1) أصول مذهب الإمام أحمد ص 793 وما بعدها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الأقوال القديمة للإمام أحمد، وهي الأقوال المرجوع عنها، لم يكن الأصحاب ليتصرفوا بشأنها بالطرح والنسيان، ولم يعاملوها معاملة المنسوخ، بل وضعوها على بساط البحث والنظر، لتشكل آراء أخرى منسوبة إلى مَن قال بها من أصحاب الوجوه، وفي ذلك يقول الطوفي:
قيل: قد كان القياس أن لا تُدون تلك الأقوال -يعني الأقوال القديمة المرجوع عنها- وهو أقرب إلى ضبط الشرع، إذ ما لا عمل عليه لا حاجة إليه، فتدوينه تعب محض، لكنها دُونت لفائدة أخرى، وهي التنبيه على مدارك الأحكام واختلاف القرائح والآراء، وأن تلك الأقوال قد أدى إليها اجتهاد المجتهدين في وقت من الأوقات، وذلك مؤثر في تقريب الترقي إلى رتبة الإجتهاد المطلق أو المقيد، فإن المتأخر إذا نظر إلى مآخذ المتقدمين نظر فيها، وقابل بينها، فاستخرج منها فوائد، وربما ظهر له من مجموعها ترجيح بعضها، وذلك من المطالب المهمة، فهذه فائدة تدوين الأقوال القديمة عن الأئمة، وهي عامة.
وَثَمَّ فائدة خاصة بمذهب أحمد، وما كان مثله، وذلك أن بعض الأئمة، كالشافعي ونحوه نصُّوا على الصحيح من مذهبهم، إذ العمل من مذهب الشافعي على القول الجديد، وهو الذي قاله بمصر، وصنف فيه كتاب الأم ونحوه. ويقال: إنه لم يبقَ من مذهبه شيء لم ينص على الصحيح منه إلا سبع عشرة مسألة، تعارضت فيها الأدلة، واختُرم قبل أن يحقق النظر فيها، بخلاف الإمام أحمد ونحوه، فإنه كان لا يرى تدوين الرأي، بل همه الحديث وجمعه، وما يتعلق به، وإنما نَقَلَ المنصوصَ عنه أصحابُه تلقياً من فيه، من أجوبته في سؤالاته وفتاويه، فكل من روى منهم عنه شيئاً دونه، وعُرِف به، كمسائل أبي داود، وحرب الكرماني، ومسائل حنبل، وابنيه صالح، وعبد الله، وإسحاق بن منصور، والَمرُّوذِي، وغيرهم ممن ذكرهم أبو بكر في أول "زاد المسافر" وهم كثير، وروى عنه أكثر منهم، ثم انتدب لجمع ذلك أبو بكر الخلَّال في "جامعه الكبير"، ثم تلميذه أبو بكر في "زاد المسافر"، فحوى الكتابان علماً جمّاً من علم الإمام أحمد رضي الله عنه، من غير أن يُعلم منه في آخر حياته الإخبار بصحيح مذهبه في تلك الفروع، غير أن الخلَّال يقول في بعض المسائل: هذا قولٌ قديمٌ
لأحمد رجع عنه، لكن ذلك يسير بالنسبة إلى ما لم يُعلم حاله منها، ونحن لا يصح لنا أن نَجْزم بمذهب إمام حتى نعلم أنه آخر ما دونه من تصانيفه ومات عنه، أو أنه نص عليه ساعة موت، ولا سبيل لنا إلى ذلك في مذهب أحمد، والتصحيح الذي فيه، إنما هو من اجتهاد أصحابه بعده، كإبن حامد، والقاضي وأصحابه، ومن المتأخرين الشيخ أبو محمد المقدسي -رحمة الله عليهم أجمعين-، لكن هؤلاء بالغين ما بلغوا، لا يحصل الوثوق من تصحيحهم لذهب أحمد، كما يحصل من تصحيحه هو لمذهبه قطعاً، فمن فرضناه جاء بعد هؤلاء، وبلغ من العلم درجتهم أو قاربهم، جاز له أن يتصرف في الأقوال المنقولة عن صاحب المذهب كتصرفهم، ويُصحح منها ما أدى اجتهاده إليه، وافقهم أو خالفهم، وعمل بذلك وأفتى. وفي عصرنا من هذا القبيل شيخنا الإمام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية الحرّاني حرسه الله تعالى، فإنه لا يتوقف في الفُتيا على ما صححه الأصحاب في المذهب، بل يعمل ويفتي بما قام عليه الدليل عنده، فتكون هذه فائدة خاصة بمذهب أحمد، وما كان مثله لتدوين النصوص ونقلها، والله تعالى أعلم بالصواب (1). اهـ.
فهذه السعة الإجتهادية انعكست صورتها على آراء المجتهد شيخ الإسلام أحمد ابن عبد الحليم ابن تيمية الحرّاني (728 هـ) فيما عُرف بـ "اختيارات ابن تيمية".
(1) شرح مختصر الروضة 3/ 626 - 628.