الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
مميزات هذا الدور
يعتبر القرن الرابع من أبرز قرون الدولة الإسلامية في السياسة والإجتماع والثقافة.
فالدولة العباسية كانت قد قطعت أكثر من مائة وسبعين سنة في مطالع هذا القرن، ويالتالي تكون تجربتها في السياسة والحكم والإدارة قد بلغت حد النضج، على الرغم من الفتن الداخلية ومنازعة الدول المنشقة عنها لها في أطراف العالم الإسلامي.
وتتبين خريطة العالم الإسلامي السياسية على وجه التقريب في هذه الحقبة الزمنية واضحة في انقسام الخلافة الإسلامية إلى ثلاث دول:
فنجد بلاد الأندلس قد خلصت للأمويين منذ الأيام الأولى التالية لسقوط دولتهم في المشرق، وقد استقلت استقلالًا تامًا عن بغداد، وتَسمَّى أميرها بأمير المؤمنين.
وتكونت دولة الفاطميين (العُبيديين) في تونس على أنقاض الأغالبة وأخذت تمتد في ناحية المشرق طامعة في الوصول إلى العاصمة العباسية، فامتدت على رقعة واسعة من المغرب الأقصى والجزائر ومصر والحرمين والشام، وزاحمت بني العباس حتى في العراق، وبني أمية في الأندلس التي كانت قد عظمت جدًا في آخر القرن الثالث والرابع.
فصارت الخلافة الإسلامية في القرن الرابع يدعيها ثلاث دول عظمى: بنو أمية في الأندلس، والفاطميون الروافض في المغرب ومصر والحجاز والشام، وبنو العباس فيما وراء ذلك (1).
وقد كانت سُلطة الدولة العباسية في هذا القرن قد انتقلت إلى بني بُوَيه بالفعل، وان كانت عباسية بالإسم، وهم جماعة من الفرس حكموا العراق وجنوي فارس زهاء قرن
(1) الفكر السامي 2/ 13.
ونيف، فكان من الطبعي أن يصاب العربي في عهدهم بنكسة، وأن تكون الغلبة للقومية الفارسية، وأن يسود المذهب الشيعي، ويتوغل في شرق الخلافة العباسية المفككة وغربها، وأن يؤدي ذلك إلى صراع عنيف بين السنِّيين الذين كان يساندهم الأتراك، ويين الروافض الذين كان يساندهم البويهيون.
وكان هؤلاء البويهيون على ما لهم من مزايا معروفين بالسطوة والجبروت والقسوة، حتى امتلأ تاريخهم بأخبار الويلات والمآسي التي حلت بالناس من جراء الفوضى التي سادت أيام حكمهم.
ويذكر كثير من المؤرخين أن الخلافة العباسية فقدت هيبتها، وضعف شأنها في العهد البويهي، وأن الخليفة أصبح عبارة عن رمز ديني ليس له من السلطة سوى الإسم فقط، أما السلطة الفعلية في الدولة فكانت في يد الأمير البويهي.
وفي الحقيقة لم يكن بنو بويه هم السبب المباشر لضعف الخلافة العباسية وفقدانها لهيبتها، فالأحداث التاريخية تثبت أن الخليفة العباسي والخلافة العباسية فقدا ما كان لهما من نفوذ وهيبة في عهد ازدياد نفوذ الأتراك قبل قيام الدولة البويهية، حيث أصبح القواد الأتراك، هم المسيطرين فعلًا على مقاليد الأمور في الدولة، وبلغ من نفوذهم المتزايد أن الخلفاء الأريعة الذين تعاقبوا على الخلافة بعد المتوكل على الله في الفترة ما بين (247 هـ) و (256 هـ) وهم المنتصر بالله، والمستعين بالله، والمعتز بالله، والمهتدي بالله، فقدوا جميعاً حياتهم بسبب ذلك النفوذ المتزايد يومًا بعد يوم. وكانت النتيجة الحتمية لذلك، هي أن الخليفة أصبح ألعوبة في يد القواد الأتراك، كما كان عاجزًا تمامًا عن عمل أي شيء يتعلق بالخلافة إلا بعد أخذ موافقتهم (1).
هذا من الناحية السياسية.
أما من الناحية الإجتماعية، فقد كان وضع المجتمع صورة منعكسة للحالة السياسية على مرآة الزمان والتاريخ، إذ لا ينفك المجتمع عن التأثر والتأثير في السياسة التي تحكمه وتقود زمام الأمور فيه.
(1) نظام الوزارة في الدولة العباسية (العهدان البويهي والسلجوقي)، الدكتور محمد مسفر الزهراني، ص 22، ط. مؤسسة الرسالة، 1986.
فقد كانت بغداد مسرحًا للفوض وفقدان الإستقرار، وكان من أبرز مظاهر هذا الاضطراب تباعد في الطبقات الشعبية، وفشو الإستغلال والترف والبذخ في الطبقات العليا على حساب الطبقات الدنيا حتى أصبح الناس كما يقول مسكويه:"بين هارب جال، إلى مظلوم صابر، إلى مستريح لتسليم ضيعته إلى المُقْطَع ليأمن شره ويوائقه"(1).
وقد ازداد الحال سوءًا لكثرة الضرائب واشتداد وطأة الإقطاعات، وفرض الرسوم، واشتطاط عمال البويهين من جند وقواد ومتصرفين في تحصيل الأموال، واحتكار قوت الفقراء، والإعتداء على الناس، ومصادرتهم حتى ثارت الطبقة الفقيرة أكثر من مرة وخاصة في عهدي عضد الدولة، وصمصام الدولة.
وقال المقدسي يصف حال العراق سنة (375 هـ):"إنه ييت الفتن والغلاء، وهو في كل يوم إلى الوراء، ومن الجور والضرائب في جهد وبلاء"(2).
وأما الناحية الثقافية، فقد كانت على العكس من ذلك، قد ازدهرت وذهبت بعيداً في الإنتاج والإبداع. فقد كان الوزراء البويهيون يعنون عناية واضحة بالعلم والأدب، بل كان كثير منهم من جملة العلماء والأدباء الكبار، وكانت مجالسهم تضم كبار العلماء والأدباء، فيحوطونهم بالرعاية مما يشجعهم على تأليف الكتب، ونظم الأشعار في مدحهم والإشادة بفضلهم.
وفد كانت الري وأصفهان من مراكز الثقافة والعلم في شرق الدولة الإسلامية، ويخاصة في عهد البويهين، وقد تقدمت الحركة العلمية في الري بعد أن استقر فيها الوزير البويهى أبو الفضل ابن العميد، الذي تشبه بالبرامكة أيام الرشيد، ففتح بابه للعلماء والأدباء والشعراء، وكان هو الآخر أديباً عالمًا يضرب به المثل في البلاغة حتى قيل: إن الكتابة بدئت بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وسمي بـ"الجاحظ الثاني"لمكانته الأدبية الرفيعة. وكان متبحراً في علوم الهندسة والمنطق والفلسفة. إلى جانب ذلك فقد أنشأ مكتبة عظيمة وعين أحد العلماء خازناً لها، وهو مسكويه (3).
(1) مقدمة تحقيق الدكتور إبراهيم الكيلاني. لكتاب "مثالب الوزيرين" لأبي حيان التوحيدي، ص (ج) نقلاً عن "تجارب الأمم" لمسكويه.
(2)
المصدر السابق ص (د).
(3)
نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 184.
والوزير الصاحب ابن عباد، هو الآخر يعد من أشهر رجال الأدب في عصره، فقد وصفه ابن النديم بأنه كان "أو حد زمانه وفريد عصره في البلاغة والفصاحة والشعر"(1). وقد تعمق في دراسة العلوم الشرعية واللسانية والأدبية. وكان كثير الإحسان إلى رجال العلم والأدب، دؤوياً على عقد مجالس علمية وأديية لهم، ويذكر ابن خلكان أنه اجتمع عنده من الشعراء مالم يجتمع عند الفقهاء والأدباء والعلماء، مما ساعد على انتعاش الحركة العلمية والأدبية (2).
وإذا راجعت كتب الوفيات من الفقهاء والمحدثين والأدباء ومشاهير الأعلام على مدى هذا القرن، فإنك تجد أكثرهم مراوزة أو رازيين أو أصفهانيين أو همذانيين، مما يدل على غزر العلوم هناك ونفاق سوقها في تلك البلدان.
ويصف الشيخ محمد بن الحسن الحجوي رحمه الله حالة الفقه العامة في هذا الطور. فيقول: "تطور الفقه في طور الكهولة من مبدأ المائة الثالثة إلى منتهى الرابعة، إذ وقف في قوته ولم يزد قوة، ومال إلى القهقرى، ولكن لم يسرع إليه الهرم، ولا وصل إلى طور الإنحلال، بل حفظ قوته الأصلية زمن قرنين بسبب ما ظهر فيه من الحفاظ والمجتهدين الكبار والتآليف العظام.
وفي هذا العصر اختلط فيه المجتهدون بغيرهم، فكان يوجد أهل الإجتهاد الطلق، ولكن غلب التقليد في العلماء، ورضحوا به خطة لهم، ولا يزال في هذا العصر يزيد التقليد وينقص الإجتهاد إلى المائة الرابعة، إذ أصبح كثير من علمائها راضين بخطة التقليد، عالة على فقه أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن خنبل، وأضرابهم ممن كانت مذاهبهم متداولة إذ ذاك. وانساقوا إلى اتخاذ أصول تلك المذاهب دوائر حصرت كل طائفة نفسها بداخلها لا تعدوها، وأصبحت أقوال هؤلاء الأئمة بمنزلة نصوص الكتاب والسنة لا يعدونها، ويذلك نشأت سدود بين الأمة ويين نصوص الشريعة، ضخمت شيئاً فشيئًا إلى أن تنوسيت السنة،
(1) الفهرست، ص 150.
(2)
نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 184، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، 1/ 172، تأليف آدم متز، ترجمة عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة.
ووقع البعد من الكتاب بازدياد تأخر اللغة، وأصبحت الشريعة هي نصوص الفقهاء وأقوالهم، لا أقوال النبي صلى الله عليه وسلم " (1).
وهذا الذي صوره الحجوي، وإن كان طابعاً عاماً، إلا أنه ليس كلياً، فقد ظهر في هذا القرن كوكبة من أعظم الفقهاء، وهم وإن صُنفوا في طبقات أحد المذاهب إلا أنهم كانوا يجتهدون ويأنفون من التقليد، كأبي القاسم الداركي الشافعي البغدادي وأحمد بن ميسر المالكي القرطبي، وأبي جعفر الطحاوي الحنفي.
فقد قال الخطيب البغدادي في ترجمة الداركي: "كان عبد العزيز بن عبد الله الداركي إذا جاءته مسألة يُستفتى فيها تفكر طويلاً ثم أفتى فيها، وربما كانت فتواه خلاف مذهب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما، فيقال له في ذلك، فيقول: ويحكم حدث فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -بكذا وكذا، والأخذ بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أولى من الأخذ بقول الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما إذا خالفاه"(2).
وقال ابن فرحون في ترجمة أحمد بن ميسر: "مشاور في الأحكام يميل إلى النظر والحجة، ربما أفتى بمذهب مالك حفظاً حسناً واعتنى بكتب الشافعي، وكان يميل إليه، وكان إذا استفتي ربما يقول: أما مذهب أهل بلدنا فكذا، وأما الذي أراه فكذا"(3).
وعلى الرغم من أن الفقه نزل من درجة الإجتهاد المطلق إلى درجة الإجتهاد المذهبي والتقليد البحت، فإن العلوم الإسلامية الأخرى قد ازدهرت وتكاملت، وبلغت حد النضج في هذا القرن على وجه الخصوص، وذلك كعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم اللغة، والأصول والجدل والمناظرة. كل تلك الفنون الخادمة للفقه، والمغذية لأدلته ورسم مناهجه وقواعده، كانت قد مهدت الطريق إلى التدوين
(1) الفكر السامي 2/ 5.
(2)
تاريخ بغداد 10/ 464. قال الذهبي في "السير"16/ 405: قلت: هذا جيد، لكن بشرط أن يكون قد قال بذلك الحديث إمام من نظراء هذين الإمامين مثل مالك، أو سفيان، أو الأوزاعي، وبأن يكون الحديث ثابتاً سالماً من علة، وبأن لا يكون حُجة أبي حنيفة والشافعي حديثاً صحيحاً معارضاً للآخر. أما من أخذ بحديث صحيح وقد تنكبه سائر أئمة الإجتهاد، فلا، كخبر "فإن شرب في الرابعة فاقتلوه" وكحديث "لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده". اهـ.
(3)
الديباج المذهب في أعيان المذهب، لإبن فرحون، ص 34، ط. الكتب العلمية.
والترتيب رالجمع والتنقيح، وتقسيم الفقه إلى أقسام متعددة، وجعل كل قسم يختص بجانب من جوانبه، كفقه الأدلة وفقه الخلاف وفقه الروايات والأقوال المتعددة المروية عن الإمام الواحد.
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد هو اكتشاف المسلمين لأوراق الكاغد أو الكاغيط في زمن الدولة العباسية على يد الفضل بن يحيى البرمكي، ولا ريب كان ذلك الاختراع من أعظم التسهيلات لنشر العلم وتدوينه، ولذلك كانت المائة الثالثة الهجرية متميزة بظهور الدواوين الكبار في الإسلام في مختلف العلوم والمعارف. وكانت قد اتخذت عدة مصانع للكاغد في بغداد والشام ومصر وفاس والأندلس في شاطبة وبلنسية وطليطلة، ومنها انتقلت صناعته إلى أوربا في حدود القرن الخامس الهجري (1).
(1) صبح الأعشى، للقلقشندي، 2/ 485 - 486، الفكر السامي 2/ 14 - 15، ضحى الإسلام، لأحمد أمين، 2/ 23.