المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأولفي فنون الفقه التي توزعتها التصانيف - المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته - جـ ١

[عبد الله بن عبد المحسن التركي]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَة

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌أولًا - كلمة "مذهب

- ‌1 - المذهب لغة:

- ‌2 - المذهب عرفًا:

- ‌3 - المذهب اصطلاحًا:

- ‌ثانيًا - نشأة المذاهب الفقهية وسببها:

- ‌ثالثًا - أهمية المذاهب الفقهية في خدمة الشريعة الإسلامية:

- ‌الفصل الأولفي سيرة الإمام أحمد وعلمه

- ‌المبحث الأولالحياة السياسية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الثانيالحياة الثقافية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الثالثالحياة الإجتماعية في عصر الإمام أحمد

- ‌المبحث الرابعسيرة الإمام أحمد

- ‌الطور الأولالنشأة والطفولة

- ‌الطور الثانىطلبه للعلم والرحلة فيه

- ‌الطور الثالثحياة الإمام أحمد في بغداد إلى بداية المحنة

- ‌الطور الرابعالمحنة أسبابها. مراحلها. نتائجها

- ‌أسباب المحنة

- ‌مراحل المحنة

- ‌المرحلة الأولىالمحنة في زمن المأمون

- ‌المرحلة الثانيةالمحنة في زمن المعتصم

- ‌المرحلة الثالثةالمحنة في زمن الواثق

- ‌نتائج المحنة

- ‌المبحث الخامس‌‌وفاة الإمام أحمدومجمل مناقبه وعلمه

- ‌وفاة الإمام أحمد

- ‌مجمل مناقب الإمام أحمد وصفاته:

- ‌علم الإمام أحمد

- ‌أولاً: شهادة الناس له بالعلم:

- ‌ثانياً. في الرواية عنه:

- ‌ثالثاً: في مؤلفاته:

- ‌ما نسب إلى الإمام أحمد من كتب:

- ‌رسائل الإمام أحمد

- ‌المسندديوان السنة النبوية

- ‌ تاريخ تأليف المسند:

- ‌ وصف المسند:

- ‌ رواية المسند:

- ‌ منزلة المسند بين كتب الحديث:

- ‌ الأعمال التي تمت على المسند:

- ‌1 - غريب الحديث، لغلام ثعلب (261 هـ - 345 ه

- ‌2 - ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج لهم أحمد بن حنبل في "المسند" لإبن عساكر (499 هـ - 571 ه

- ‌3 - خصائص المسند، للحافظ أبي موسى المديني (501 هـ -581 ه

- ‌5 - التذكرة في رجال العشرة، لإبن حمزة الحسيني (715 هـ - 765 ه

- ‌6 - الإكمال في ذكر من له رواية في مسند الإمام أحمد من الرجال سوى من ذُكر في تهذيب الكمال:

- ‌8 - ترتيب المسند، لأبي بكر بن المحب (712 هـ - 789 ه

- ‌9 - ترتيب المسند، لإبن زريق (ت 803 ه

- ‌10 - إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لإبن الملقن (723 هـ -804 ه

- ‌11 - مختصر المسند

- ‌12 - غاية المقصد في زوائد المسند، للهيثمي (735 هـ - 807 ه

- ‌13 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:

- ‌14 - جزء للحافظ الهيثمي:

- ‌15 - ترتيب مسند أحمد على حروف المعجم، للمقدسي (ت 820 ه

- ‌16 - ذيل الكاشف، لإبن العراقي (762 هـ - 826 ه

- ‌17 - المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد، للحافظ ابن الجزري (751 هـ - 833 ه

- ‌18 - المقصد الأحمد في رجال أحمد

- ‌19 - المسند الأحمد فيما يتعلق بمسند أحمد

- ‌20 - ترتيب المسند المسمى "الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري"، لإبن زكنون (758 هـ - 837 ه

- ‌21 - زوائد المسانيد المسمى بـ: "إتحاف السادة المهرة بزوائد العشرة" للبوصيري (762 هـ - 840 ه

- ‌22 - القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد، للحافظ ابن حجر العسقلاني (773 هـ - 852 ه

- ‌23 - إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي:

- ‌24 - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة:

- ‌25 - التعريف الأجود بأوهام من جمع رجال السند:

- ‌26 - الذيل الممهد على القول المسدد، للسيوطي (ت 911 ه

- ‌27 - عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد:

- ‌29 - شرح المسند، للشيخ أبي الحسن السندي (ت 1139 ه

- ‌30 - نفثات الصدر المُكْمَد وقرّة عين السعد بشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، للسفاريني (1114 هـ - 1189 ه

- ‌31 - ذيل القول المسدد، لمحمد صبغة الله المدراسي:

- ‌32 - الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للساعاتي (ت 1378 ه

- ‌33 - بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني:

- ‌34 - تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر للمسند:

- ‌35 - الموسوعة الحديثية الكبرى:

- ‌دعوى كون الإمام أحمد محدثًا غير فقيهٍ والرَّد عليها:

- ‌الفصل الثانيفي أدوار المذهب ومواطن انتشاره

- ‌الدور الأولالنشأة والتأسيس

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولوصف عام لأصحاب الإمام أحمد

- ‌المبحث الثانيفي التعريف بأصحابه الذين سمعوا منه ورووا فقهه

- ‌تصنيف رواة المسائل عن الإمام أحمد:

- ‌التعريف بأشهر أصحاب الإمام أحمد

- ‌1 - إبراهيم الحَرْبي (198 هـ - 285 ه

- ‌2 - إسحاق بن إبراهيم بن هانئ (218 هـ - 285 ه

- ‌3 - أحمد بن حُميد (أبو طالب) (؟ - 244 ه

- ‌4 - أحمد المرّوذي (؟ - 275 ه

- ‌5 - أحمد الأثرم (؟ - 273 ه

- ‌6 - إسحاق الكَوْسَج (170 هـ - 251 ه

- ‌7 - حرب الكرماني (؟ - 280 ه

- ‌8 - حنبل بن إسحاق (؟ - 273 ه

- ‌9 - سليمان بن الاشعث أبو داود (202 هـ - 275 ه

- ‌10 - صالح بن الإمام أحمد (203 هـ - 266 ه

- ‌11 - عبد الله بن الإمام أحمد (213 هـ - 290 ه

- ‌12 - عبد لله بن محمد (فوران) (- 256 ه

- ‌13 - عبد الملك الميموني (- 274 ه

- ‌14 - مُهَنّا بن يحيى الشامي:

- ‌الدور الثانيالنقل والنمو

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولمميزات هذا الدور

- ‌المبحث الثاني‌‌أشهر علماء هذا الدوروأبرز أعمالهم

- ‌أشهر علماء هذا الدور

- ‌1 - الخلال (311 ه

- ‌2 - ابن المنادي (256 هـ - 336 ه

- ‌3 - أبو بكر النجاد (253 هـ - 348 ه

- ‌4 - الخِرَقي (334 ه

- ‌5 - الآجُرّي (360 ه

- ‌6 - غلام الخلَّال (285 هـ - 3763 ه

- ‌7 - ابن بَطة العُكْبَري (304 هـ - 387 ه

- ‌8 - ابن المُسْلِم (387 ه

- ‌9 - الحسن بن حامد (403 ه

- ‌أبرز أعمال علماء هذا الدور

- ‌أولاً - الجمع للمسائل

- ‌ثانياً - الإختصار الفقهي

- ‌ثالثا - شروح المختصرات

- ‌رابعاً - التآليف الجزئية المفردة

- ‌خامساً - الكتابة في أصول الفقه الحنبلي

- ‌الدور الثالثالإنتشار - الإزدهار - الإستقرار

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولالمذهب في العراق

- ‌1 - القاضي أبو يَعْلى (380 - 458 ه

- ‌2 - أبو الخَطّاب (432 - 510 ه

- ‌3 - ابن المَنِّي (501 - 583 ه

- ‌المبحث الثانيالمذهب في حَرَّان

- ‌آل تيمية وجهودهم في خدمة المذهب الحنبلي:

- ‌المبحث الثالثالمذهب في بلاد الشام

- ‌المقادسة وجهودهم

- ‌نتائج جهود المقادسة

- ‌أشهر الفقهاء الشاميين الذين خدموا المذهب:

- ‌ موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي (541 - 620 ه

- ‌ شمس الدين ابن مفلح (712 - 763 ه

- ‌ علاء الدين المرداوي (817 - 885 ه

- ‌حالة المذهب الحنبلي بعد المقادسة

- ‌الشيخ عبد القادر ابن بدران (1280 - 1346 ه

- ‌المبحث الرابعالمذهب في مصر

- ‌1 - ابن النجار الفُتُوحي (898 هـ - 972 ه

- ‌2 - منصور بن يونس البُهُوتي (1000 - 1051 ه

- ‌المبحث الخامسالمذهب في الجزيرة العربية

- ‌ الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة (948 ه

- ‌ الشيخ عبد الله بن محمد بن ذهلان (1099 ه

- ‌الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته

- ‌نتائج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌1 - الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1165 - 1244 ه

- ‌2 - الشيخ عبد لله بن عبد الرحمن الملقب بـ "أبا بُطين" (1194 - 1282 ه

- ‌3 - الشيخ عبد الرحمن بن حسن أل آلشيخ (1193 - 1285 ه

- ‌أثر الملكة العربية السعودية في ازدهار الفقه الحنبلي

- ‌خلاصة ما تمّ في المملكة العربية السعودية من جهود في خدمة المذهب الحنبلي

- ‌1 - الشيخ سعد بن حمد بن علي ابن عتيق (1267 - 1349 ه

- ‌2 - الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الرحمن العنقري (1290 - 1373 ه

- ‌3 - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (1307 - 1376 ه

- ‌4 - الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع (1300 - 1385 ه

- ‌5 - الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (1311 - 1386 ه

- ‌الفصل الثالثسمات الحنابلة

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولأثر سيرة الإمام أحمد على الحنابلة

- ‌المبحث الثانيالإعتناء بعلوم الحديث الشريف

- ‌المبحث الثالثالحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌المبحث الرابعالإتباع للسلف ومناهضة البدع

- ‌المبحث الخامسالحنابلة والسلطة السياسية

- ‌المبحث السادسأضواء على الإجتهاد عند فقهاء الحنابلة

- ‌ تعريف "الإختيارات

- ‌ التأليف في الإختيارات:

- ‌ اختيارات ابن تيمية ومميزاتها:

- ‌ الأسس التي ترتكز عليها اختيارات شيخ الإسلام:

- ‌ مرتبة ابن تيمية في طبقات المجتهدين:

- ‌ منهج ابن تيمية في الفتوى والإجتهاد:

- ‌الفصل الرابعأبرز مؤلفات المذهب الحنبلي

- ‌تَمْهِيدْ

- ‌المبحث الأولفي فنون الفقه التي توزعتها التصانيف

- ‌المبحث الثانيفي ترتيب المكتبة الفقهية الحنبلية

- ‌كيفية التعرف على كتاب من الكتب الفقهية

- ‌كيفية ترتيب المكتبة الفقهية الحنبلية

- ‌المبحث الثالثفي التعريف بأشهر الكتب المعتمدة في المذهب

- ‌ الجامع للخلال:

- ‌ مختصر الخرقي:

- ‌ الإرشاد إلى سبيل الرشاد:

- ‌ الخلاف الكبير للقاضي أبي يعلى:

- ‌ كتاب الروايتين والوجهين:

- ‌ شرح مختصر الخرقي للقاضي أبي يعلى:

- ‌ الانتصار في المسائل الكبار:

- ‌ المستوعب:

- ‌ المغني:

- ‌ العمدة

- ‌ المقنع

- ‌الكافي

- ‌ المحرر:

- ‌ الفروع:

- ‌الإنصاف

- ‌الإقناع

- ‌ منتهى الإرادات:

الفصل: ‌المبحث الأولفي فنون الفقه التي توزعتها التصانيف

‌المبحث الأول

في فنون الفقه التي توزعتها التصانيف

كانت مراحل تدوين الفقه الإسلامي شبيهة بمراحل تدوين السنة وعلومها، فقد كان الفقه في نشأته المبكرة مدوناً في جوامع لمسائله الروية عن أئمته بالسند المتصل، ثم أفرغت تلك الجوامع في مصنفات مبوبة ومرتبة ترتيباً أكثر منهجية، وأوضح تبويباً، وأدق ترتيباً، وهكذا شيئاً فشيئاً، حتى تشعب إلى شعب وفنون مختلفة سواء من الناحية الشكلية أو من الناحية الموضوعية.

ويمكن أن نضبط تلك الفنون والشعب التي توزعتها التصنيفات، وتناولتها البحوث والتأليفات، بعشرة أنواع:

1 -

التأليف في الفقه العام الشامل للموضوعات.

2 -

التأليف في موضوعات فقهية مفردة.

3 -

التأليف في فقه الخلاف أو الفقه المقارن.

4 -

التأليف في القواعد والفروق والضوابط والكليات.

5 -

التأليف في أصول الفقه وأدب الفتوى.

6 -

التأليف في لغة الفقهاء أو المعاجم الفقهية أو فقه المصطلحات.

7 -

التأليف في المفردات والغرائب والنوادر.

8 -

التأليف في الإختيارات الفقهية.

9 -

التأليف في الفتاوي.

10 -

التأليف في الألغاز.

التأليف في الفقه الشامل للموضوعات:

نقصد بالفقه العام، أو الفقه الشامل للموضوعات، مجموع الأحكام التكليفية والوضعية، وما يتصل بها ويتبعها، والتي تنتظم الحياة الإنسانية في حالتيها الفردية والجماعية.

ص: 393

وقد درج الفقهاء على تقسيم موضوعات الفقه الإسلامي إلى عبادات ومعاملات، وذلك أن الإنسان لا يخلو في نشاطه الدنيوي المسؤول من أن يكون مخاطباً أو مشغولاً بعبادة ربه سبحانه وتعالى، أو مخاطباً أو مشغولاً بعاملة من المعاملات التي لها علاقة بنفسه أو بغيره. وفي ذلك كله فِقْهٌ يحدد الأركان والواجبات، والسنن والآداب والمستحبات، والشروط والموانع والمفسدات، كما يحدد الحقوق والواجبات، والحلال والحرام، والمكروه والمباح.

فإذا تبين هذا، فإننا عندما نرجع إلى جدول الترتيب الموضوعي للفقه في كتب الحنابلة، نجدهم درجوا على هذا التسلسل:

أولاً: قسم العبادات: وفيه كتاب الطهارة. كتاب الصلاة. كتاب الجنائز. كتاب الزكاة. كتاب الصيام. كتاب المناسك (الحج والعمرة).

ثانياً: قسم المعاملات المالية: وفيه: كتاب البيوع، وتوابعه من: القرض، والسلم، والحوالة، والكفالة، والصلح، والوكالة، والمضاربة، والشركة، والإجارة، والعارية، والغصب، والوديعة، والشفعة، وإحياء الموات، والوقف، واللقطة، والهبة.

ثالثاً: قسم الأحوال الشخصية: وفيه كتاب الوصايا. كتاب الفرائض. كتاب العتق. كتاب النكاح. كتاب الصداق. كتاب الطلاق. كتاب الرجعة. كتاب الإيلاء. كتاب الظهار. كتاب القذف واللعان. كتاب العِدَد. كتاب الرضاع. كتاب النفقات.

رابعاً: قسم العقوبات: وفيه كتاب الجراح وما يتبعها من قصاص وديات. كتاب الحدود. كتاب الجهاد.

خامساً: قسم الحظر والإباحة: وفيه: كتاب الأطعمة وما يتبعها من الذكاة والصيد. كتاب الأيمان والنذور.

سادساً: قسم الأحكام: وفيه: كتاب الأقضية. كتاب الشهادات. كتاب الإقرار.

وقد صنف الحنابلة عدداً كبيراً من الكتب الجامعة التي استوعبت الموضوعات السابقة، من مطولات ومختصرات، مما سنعرِّف ببعضه فيما بعد إن شاء الله. وقد روعي الترتيب السابق في جل التصنيفات الجامعة، وهو المنهج الذي استقر عليه المتأخرون من بعد المجد ابن تيمية في "محرره " وابن قدامة في "المقنع" و"الكافي" و"العمدة".

ص: 394

أما في "المغني" فقد اتبع ترتيب الأصل، وهو"مختصر الخرقي"، وهو يختلف شيئًا قليلاً في الترتيب وفي تسمية بعض العناوين، فنجده يدرج كتاب الإقرار في ضمن المعاملات المالية، كما يؤخر الوديعة عن المعاملات المالية، ويدرجها فيما بين الميراث والنكاح، ويجعل العتق آخر الكتب، ويجعل كتاب السبق والرمي بين الصيد والأيمان، وهو من المعاملات المالية. كما أننا نجد فيه كتاب قسم الغنيمة والفيء والصدقة، وهو كتاب وزعه المتأخرون على الجهاد والزكاة. وكتاب الأضاحي، وهو يندرج عند المتأخرين ضمن كتاب الحج لمناسبته للهدي، كالعقيقة. وكتاب الكفارات وهو يتوزع عند المتأخرين على عدة كتب، كالصيام، والقتل، والأيمان، والظهار.

وفي الجملة نجد المتقدمين يختلفون بعض الإختلاف مع المتأخرين في الترتيب، وفي العناوين، كما نلاحظ ذلك في "مسائل عبد الله" وفي كتاب "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى، "والإرشاد" للشريف أبي علي بن أبي موسى.

التأليف في موضوعات فقهية مفردة:

وذلك، كأن يجرد المؤلف كتاباً من الكتب الفقهية التي سبقت الإشارة إليها، ويصنف فيه تصنيفاً مستقلاً، أو يصنف في باب من أبواب ذلك الكتاب، أو في فصل، أو في مسألة. وقد يكون عنوان الموضوع المفرد في التأليف غير معروف في فهارس الموضوعات للكتب الفقهية الجامعة، وذلك مثل: أحكام النساء، وأحكام الخواتيم، والأقسام التي أقسم بها النبي صلى الله عليه وسلم

إلخ

والتأليف في الموضوعات المفردة عند الحنابلة سُنَّة سنها الإمام أحمد نفسه في التصنيف الفقهي وغيره. فقد سبق التعريف بكتبه التي ألفها، وإذا لاحظنا عناوينها الدالة على محتوياتها نجد أكثرها مفردات في علوم مختلفة، وذلك كـ:"فضائل الصحابة" و"الناسخ والمنسوخ" و"الفرائض" و"الإمامة" و"نفي التشبيه" و"المناسك" الكبير والصغير، و"الأشربة" و"الوقوف والوصايا" و"أحكام النساء" و"الترجل" و"الإرجاء". وغير ذلك.

وقد طَبَعت هذه المصنفات في نفوس أصحاب الإمام أحمد فكرة التصنيف في الموضوعات المفردة المستقلة، وعلى وجه أخص فإننا نجد في طبقات المتقدمين منهم اهتمامًا كبيرًا بهذا اللون من التأليف، لشدة تأثرهم بسيرة الإمام المبجل في العلم والعمل، حتى إنهم ألفوا كتباً كثيرة تحت نفس العناوين التي سبقت الإشارة إليها.

ص: 395

فنجد "الناسخ والمنسوخ" لأبي داود، ولأبي جعفر ابن النحاس، ولمحمد الموصلي. ونجد "الفرائض" لعبد الله العكبري. ونجد "نفي التشبيه" لإبن عقيل، ونجد "المناسك" لعبد الله العكبري، وإبراهيم الحربي، ولأبي الخطاب الكلوذاني، ولجعفر السراج، ولعلي الزاغوني، ولابن قدامة المقدسي، ولعبد الوهاب النابلسي.

ونجد "أحكام النساء" للآجري، والعكبري، وابن رجب، والخلال، وابن الجوزي.

ولا يخفى ما في التآليف المفردة من فوائد، فإنها تدل على الإهتمام بالموضوع المؤلف فيه، والإستقصاء في جمع شتاته ولَمِّ شعثاته، وقد يجد المؤلف بالنَّاس حاجةً ماسةً يراها من فريضة العصر وواجب الوقت، ليبين لهم ما أنزل الله لهم من الحق، وما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في ذلك من الكتاب والحكمة. قال أبو حاتم الرازي: أتيت أحمد بن حنبل في أول ما التقيت معه سنة 213 هـ، فإذا قد أخرج معه إلى الصلاةكتاب "الأشربة" وكتاب "الإيمان"، فصلَّى، ولم يسأله أحد، فرده إلى بيته. وأتيته يوماً آخر، فإذا قد أخرج الكتابين فظننت أنه يحتسب في إخراج ذلك، لأن كتاب "الإيمان" أصل الدين، وكتاب "الأشربة" صرف الناس عن الشر، فإن أصل كل شر من السكر (1).

فنلاحظ كيف تنبه الإمام أبو حاتم إلى أهمية الكتابين، وضرورتهما للناس، ونزيد على ذلك، فنقول: إنه ما من شك يمكن أن يحوم بالأذهان أن بغداد في زمن الإمام أحمد كانت مرتعاً لنشر البدع والفقه الشاذ، فقد كانت بدع المعتزلة والقدرية والمرجئة تفعل فعلها في الناس كبارًا وصغاراً، فكان الإمام أحمد يرى تأليف مثل كتاب "الإيمان" فريضة الوقت في الرد على تلك البدع المضلة بأبلغ جواب، وذلك ببيان ما في كتاب الله وسنة رسوله من الحق الذي لا يمتري فيه مسلم.

والى جانب ذلك، فقد درج بعض الخلفاء العباسيين على استحلال النبيذ وتناوله، مصيراً منهم إلى تقليد بعض فقهاء الكوفة الذين أباحوا الأنبذة المتخذة من غير العنب، ولو كانت مسكرة، ما دام القدر المشروب منها لم يصل بالشارب إلى حد الثمول. وتلك بلية تستحق تأليف كتاب مثل "الأشربة" لبيان ما ثبت في السنة مما يخالف ذلك الإجتهاد مخالفة صريحة.

(1) تقدمة الجرح والتعديل ص 295.

ص: 396

ولا ينبغي أن نمتري في أن التأليف في الموضوعات المفردة في العقائد والفقه وعلوم القرآن والسنة، كانت ميزة القرن الثاني والثالث والرابع، لدى أئمة المذاهب وأصحابهم، إلا أن الحنابلة فاقوا غيرهم، وحازوا قصب السبق في ذلك، فلله دَرُّهم، كما قال ابن بدران في "العقد الثامن" من كتابه:

أعلم أن أصحابنا تفننوا في علومهم الفقهية فنوناً، وجعلوا لشجرتها المثمرة بأنواع الثمرات غصوناً، وشعبوا من نهرها جداول تروي الصادي، ويحمد سيرها الساري في سبيل الهدى، وطريق الاقتدا، ففرعوا الفقه إلى المسائل الفرعية، وألفوا فيها كتباً قد اطلعت على بعض منها (1).

التأليف في فقه الخلاف، أو الفقه المقارن:

وذلك بتجريد المسائل الفقهية الشهيرة التي اختلف فيها الأئمة، وانقسموا على مذهبين فأكثر، وهي المسماة في كتب المتقدمين بـ "مسائل الخلاف" أو"رؤوس المسائل" أو"عيون المسائل" أو غير ذلك من التسميات المقارية.

فقد جرد الفقهاء الذين اعتنوا بالإجماع والخلاف، كإبن المنذر والطبري وابن عبد البر، وغيرهم، جردوا تلك المسائل، ونصوا على الخلاف فيها بين العلماء، ثم جاء فقهاء النظر من المنتسبين إلى المذاهب، فتناولوا تلك المسائل بالإحتجاج، كلُّ فريق يحتج لمذهبه، ويرد على خصمه بحجج من النقل والعقل. وفي ذلك يقول ابن خلدون:

وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم، ومران المطالعين له على الإستدلال فيما يرومون الإستدلال عليه. وتآليف الحنفية فيه والشافعية أكثر من تآليف المالكية، لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم، كما عرفت، فهم لذلك أهل النظر والبحث. أما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم، وليسوا بأهل نظر. وأيضًا فأكثرهم أهل المغرب، وهم بادية غُفَّل من الصنائع إلا في الأقل، وللغزالي فيه "المآخذ" ولأبي بكر ابن العربي من المالكية كتاب "التلخيص" جلبه من المشرق، ولأبي زيد الدبوسي كتاب "التعليقة" ولابن القصار من شيوخ المالكية "عيون الأدلة"، وقد جمع ابن الساعاتي

(1) المدخل ص 451.

ص: 397

في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبغي عليها من الفقه الخلافي، مدرجاً كل مسألة منه ما ينبغي عليها من الخلافيات (1).

ويلاحظ من كلام ابن خلدون السابق أنه أهمل الحنابلة، وأقصاهم من الحلبة، كما أنه حط على المالكية حطا لا يتفق مع ما هو عليه الواقع التاريخي والمعرفي لهذا المذهب الجليل.

وإذا استعرضنا كشَّاف المؤلفات الحنبلية في الخلاف أو الفقه المقارن، فإننا نجدهم من السابقين الأولى في هذا الفن، أو أنهم أتقنوا الصنعة فيه، وأحكموا مسالكه وموارده ومصادره، خصوصاً في القرن الخامس والسادس، ومما ساعدهم على ذلك أنهم كانوا مستوطنين لبغداد التي كانت عاصمة العلم، يرحل الناس إليها من أقصى المشرق وأقصى المغرب، فلا جرم أنها كانت جامعة لأكبر الفقهاء من كافة المذاهب، وكان يعقد فيها من مجالس المناظرة مالا يعقد في غيرها على الإطلاق. ومن ثَم فقد برع الحنابلة في فقه الخلاف أو الفقه المقارن، براعة لا تزال تشهد بها كتبهم إلى اليوم.

ومن جملة ما ألف الحنابلة في الخلاف:

"اختلاف الصحابة والتابعين في الفقه" لإبن أبي حاتم الرازي (327 هـ).

"كتاب في الفقه والإختلاف" لأبي بكر النجاد (348 هـ).

"الخلاف مع الشافعي" لغلام الخلال (363 هـ).

" الخلاف" لعبد العزيز بن الحارث التميمي (371 هـ).

"رؤوس المسائل" له أيضًا.

"التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة"(2) للقاضي أبي يعلى (458 هـ) شيخ المذهب.

وله عدة تسميات أخرى، لكن المسمى واحد، والسبب في ذلك أن أصحاب التراجم لا يوردون أسماء الكتب بالعناوين التي وضعها مؤلفوها، فيلتبس الأمر على من لا يعرف الحقيقة، فيظن الكتاب الواحد كتباً عديدة.

"رؤوس المسائل" للشريف أبي جعفر (470 هـ).

(1) المقدمة لإبن خلدون 2/ 555 - 556.

(2)

تكلم ابن بدران على هذا الكتاب بشيء من التفصيل في كتابه "المدخل" ص 450.

ص: 398

"نزهة الطالب في تجريد المذاهب" للبناء (471 هـ).

"الإنتصار في المسائل الكبار" لأبي الخطاب (510 هـ).

"رؤوس المسائل" له أيضًا. وهو مختصر من السابق.

وغير ذلك كثير، ولسنا بسبيل استقصاء المؤلفات، ولكن ذكرنا هذه الجملة ليتنبه الغافل، ويتعلم الجاهل أن الحنابلة أخذوا من هذا الفن بالحظ الوافر.

وتعتبر كتب الخلاف عند الحنابلة مادة غزيرة في جمع روايات المذهب في الخلاف داخل المذهب، وبيان الراجح من المرجوح منها. وفي هذا الصدد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجواب عن سؤال يتعلق بكيفية التعرف على الأصح والأرجح مما هو غير منصوص في المتون المعتمدة كـ "الكافي" و"المحرر" و"المقنع"، يقول في ذلك:

"فطالب العلم يمكنه معرفة ذلك من كتب أخرى؛ مثل "التعليق" للقاضي أبي يعلى، و"الإنتصار" لأبي الخطاب، و"عمد الأدلة" لإبن عقيل، وتعليق القاضي يعقوب البرزبيني، وأبي الحسن بن الزاغوني، وغير ذلك من الكتب الكبار التي يذكر فيها مسائل الخلاف، ويذكر فيها الراجح.

وقد اختصرت رؤوس مسائل هذه الكتب في كتب مختصرة مثل "رؤوس المسائل" للقاضي أبي الحسين، وقد نقل عن الشيخ أبي البركات صاحب "المحرر" أنه كان يقول لمن يسأله عن ظاهر مذهب أحمد: إنه ما رجحه أبو الخطاب في رؤوس مسائله" (1).

التأليف في القواعد والفروق والضوابط والكليات:

والقواعد: هي الكليات التي تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه على مآخذ الفقه، وتنظم له منثور المسائل في سلك واحد، وتقيد له الشوارد، وتقرب عليه كل متباعد.

ويمكن تعريف القاعدة بالتعبير الإصطلاحي بأنها: حكم شرعي في قضية أغلبية يتعرف منها أحكام ما دخل تحتها (2).

ومثال ذلك: القاعدة (158) من قواعد ابن رجب، ونصها: إذا تعارض معنا أصلان عُمل بالأرجح منهما، لإعتضاده بما يرجحه، فإن تساويا خُرج في المسألة وجهان غالبًا.

(1) مجموع الفتاوى 20/ 227.

(2)

القواعد الفقهية، لعلي أحمد الندوي، ص 43، ط دار القلم، 1986.

ص: 399

ونظرًا لما تتسم به القواعد من المعاني الكلية الضابطة للفقه وأصوله، فإنها تعد من دون مرية ذخيرة الفقيه وميزانه الذي يزن به، كما توفر عليه كثيرًا من المعارف الجزئية التي يقضي العمر ولا يدرك مرامها، وفي ذلك يقول القرافي:

"وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه، ويشرف، ويظهر رونق الفقه وَيعرف (1)، وتتضح مناهج الفتوى وتكشف. فيها تنافس العلماء، وتفاضل الفضلاء، وبرز القارح على الجذع، وحاز قصب السبق من فيها برع، ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية، دون القواعد الكلية، تناقضت عليه الفروع، واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها، واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر، ولم تقض نفسه من طلب منَاها. ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات، لاندراجها في الكليات"(2).

وأمَّا الفروق فهي البيانات التي تكشف عن الإختلاف في الأحكام بين المسائل المتشابهة في الصورة والظاهر، وما يتبع ذلك من تبيين مآخذ أحكامها وأدلتها وعللها، ليتضح للفقيه طرق الأحكام، ويكون قياسه للفروع على الأصول متسق النظام، ولا يلتبس عليه طرق القياس، فيبني حكمه على غير أساس (3).

ومن أمثلة الفروق:

إذا أحرم مبهمًا، نظرنا، فإن كان في أشهر الحج، فله صرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة، أو قران، والأفضل صرفه إلى التمتع، وإن كان في غير أشهر الحج، انعقد إحرامه بعمرة.

والفرق بينهما: أن الإحرام بالحج في غير أشهره مكروه، فلهذا لم يقع موقعاً موقوفًا، وانصرف إلى غير المكروه. ويفارق إذا كان ذلك في أشهر الحج، لأنه وقت للإحرام بالحج، فلهذا وقع موقوفًا (4).

(1) بكسر الراء، من العَرْف الذي هو الرائحة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن دم الحيض أسود يَعرف". وقال: " .... لا يجدن عَرْف الجنة" أي ريحها كما في الرواية الأخرى.

(2)

الفروق، للقرافي، 1/ 3، ط. عالم الكتب، بيروت.

(3)

الفروق للسامرّي، 1/ 115، ت. محمد بن إبراهيم بن محمد اليحيى، ط. دار الصميعي. المدخل لإبن بدران، ص 457،449.

(4)

الفروق، للسامرّي، 1/ 312.

ص: 400

وأمَّا الضوابط والكليات، فهي تنظيمات ثانوية للفقه الإسلامي، بحيث يكون عمومها لا يتعدى الباب الواحد (1).

وقد ألف الحنابلة رحمهم الله في القواعد والفروق تأليفات متقنة محررة، وإن كانت متأخرة في الجمع، وقد شهد القرن الثامن في ذلك نشاطاً خاصًا على أيدي ثلة من الأعلام، كالطوفي، وابن تيمية، وابن رجب.

فمن ذلك:

"القواعد الكبرى" للطوفي، سليمان بن عبد القوي الصرصري (716 هـ). وهذا يعني أن له "القواعد الصغرى" وهو كذلك، كما في ترجمته من "ذيل الطبقات"، وله أيضًا:"الرياض النواضر في الأشباه والنظائر".

"القواعد الفقهية" لإبن قاضي الجبل (771 هـ).

"القواعد الفقهية" لإبن رجب (795 هـ). واسمه الكامل: "تقرير القواعد وتحرير الفوائد".

ويعدُّ كتاب المذهب في هذا الشأن، فإنَّه يدل على معرفة تامة بالمذهب، حتى قال حاجي خليفة في "كشف الظنون": هو كتاب نافع، من عجائب الدهر، حتى إنه استُكْثرَ عليه، وزعم بعضهم أن ابن رجب وجد قواعد مبددة لشيخ الإسلام ابن تيمية، فجمعها، وليس الأمر كذلك، بل كان رحمه الله فوق ذلك (2).

"القواعد والفوائد الأصولية" لإبن اللحام (803 هـ).

وهي قواعد أصولية لا فقهية، كما يدل عليها العنوان، لكن فرع عليها أمثلة وفروعاً فقهية. فكان الكتاب معدوداً في جملة المصنفات التي صُنفت في تخريج الفروع على الأصول، بمعنى تطبيق القواعد والمسائل الأصولية على فروع الفقه.

(1) القواعد الفقهية للندوي، ص 49، ومقدمة تحقيق كتاب القواعد، للحصني، للدكتور الشعلان، 1/ 28، ط. مكتبة الرشد،1997.

(2)

المدخل، لإبن بدران، ص 457.

ص: 401

وقد ألف في ذلك الإسنوي والزنجاني الشافعيان، وأبو عبد الله محمد الشريف التلمساني المالكي (1).

هذا، وتكاد مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، سواء منها الرسائل، أو الفتاوي، أو المصنفات المفردة، تكاد تكون مصوغة صياغة القواعد الكلية العامة في الشريعة، أو ما يسمى بـ "النظريات الفقهية" فإننا كثيراً ما نجده يصدر فتاويه ورسائله بعنوان "قاعدة في كذا".

التأليف في أصول الفقه وأدب الفتوى:

تُعرَّف أصول الفقه بأنها: العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام

الشرعيّة الفرعية من أدلتها التفصيلية (2).

وهذا يفيد أنها قواعد متعلقة بالفقه، لكن تعلقًا يختلف عن "القواعد الفقهية"، وذلك أن القواعد الفقهية تكونت بعد الفقه ونشأت من داخله، وهي تنظيم الفقه في صيغ كلية، فهي إذن عملية داخلية مستفادة من الإستقراء العام للجزئيات.

أما أصول الفقه فهي قواعد نشأت خارج الفقه، لأنها هي الطريق الممهد للوصول إلى استنباط الفقه؛ واستخراج الفروع، فباتت بهذا أساساً للبناء الفقهي، والأساس يختلف عن البنيان الناشيء فوقه.

قال القاضي أبو يعلى: وأما أصول الفقه فهو: عبارة عما تبنى عليه مسائل الفقه، وتعلم أحكامها به، لأن أصل الشيء ما تعلق به وعرف منه، إما باستخراج أوتنبيه. فسميت هذه الأصول بهذا الإسم، لأن بها يتوصل إلى العلم بغيرها، فتكون أصلًا له (3).

وهذا العلم مستمد من عدة علوم أخرى، كالقرآن الكريم وعلومه، والسنة الشريفة وعلومها، واجتهادات الصحابة وأقضيتهم وتصرفاتهم بشأن الفتوى، وعلوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وغريب، وغير ذلك.

(1) فأما كتاب جمال الدين الإسنوي، فيسمى:"التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" حققه الدكتور حسن هيتو، وأما كتاب الزنجاني فيسمى:"تخريج الفروع على الأصول" حققه الدكتور محمد أديب الصالح. وأما كتاب الشريف التلمساني فيسمى: "مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول". حققه الدكتور محمد علي فركوس (جامعة الجزائر).

(2)

مختصر الروضة مع شرحه للطوفي، 1/ 120.

(3)

العدة في أصول الفقه 1/ 70.

ص: 402

وأما أدب الفتوى، فهو جملة من الشروط والصفات الضرورية والكمالية التي تطلب من المفتي والمستفتي، هذا في القيام بالفتوى، وذاك في تلقي الفتوى والعمل بها.

وفي جملة شروط المفتي وما يلزمه، قال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح عنه:

"ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالمًا بوجوه القرآن، عالمًا بالأسانيد الصحيحة، عالماً بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف، لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها"(1).

وقال في رواية ابنه عبد الله:

"إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلاف الصحابة والتابعين، فلا يجوز أن يعمل بما شاء، ويتخير، فيقضي به، ويعمل به، حتى يسأل أهل العلم: ما يؤخذ به، فيكون يعمل على أمر صحيح (1).

وروى الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(2) عن الشافعي أنه قال:

"لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلًا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، ويمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذاك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، ويما يحتاج إليه للعلم والقرآن (3)، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا، فله أن يتكلم، ويفتي في الحلال والحرام، لماذا لم يكن هكذا، فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي".

وقد ألف العلماء من مختلف المذاهب في كل من "أصول الفقه" و"أدب الفتوى" فأما تآليفهم في أصول الفقه فإنها تستعصي على العد، فمنها البسيط ومنها الوسيط ومنها الوجيز، وسلكوا في ذلك أحد مسلكين:

(1) إعلام الموقعين 1/ 49.

(2)

2/ 157. ط. دار الكتب العلمية، 1975.

(3)

كذا، ويبدو أن صواب العبارة: للعلم بالقرآن. ومعناه: أن يكون لديه من المعرفة بلغة العرب وأشعارهم ما يكفيه للإستشهاد في فهم القرآن الكريم في ألفاظه وتراكيبه.

ص: 403

إما طريقة المتكلمين، أو طريقة الشَّافعية التي رسمها الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة" الذي يعد أول كتاب صنف في أصول الفقه. وأما طريقة الفقهاء أو طريقة الحنفية التي رسمها الكرخي والجصاص وأبو زيد الدبوسي وأمثالهم. وظل الوضع على هاتين الطريقتين حتى القرن السابع، فظهرت طريقة جديدة ألَّفت بين الطريقتين ومزجت بين المنهجين، ويعتبر ابن الساعاتي الحنفي (694 هـ) صاحب الفضل والسبق في ذلك في كتابه "بديع النظام" الذي جمع فيه بين "الإحكام" للآمدي الشافعي و"أصول البزدوي" الحنفي (1).

وأما الحنابلة فقد نهجوا نهج الشافعية في غالب تصنيفاتهم، وأثْروا المكتبة الأصولية إثراء ملحوظاً.

ومع الأسف فإن كثيراً من الناس كان -ولا يزال- يعتقد أنه ليس للحنابلة كتب أصول مستقلة الوجهة واضحة النزعة، والحقيقة غير ذلك، فإني لما أتممت جمع المصادر لكتاب "أصول مذهب الإمام أحمد" من مكتبات المملكة العربية السعودية، ومكتبات مصر، والشام، وتركيا، والعراق، وغير ذلك؛ لما تم مسح الفهارس والإطلاع على ما للحنابلة من مصنفات في هذا الشأن، وَضُح أن مخطوطاتهم في أصول الفقه تعدّ بالمئات (2).

ومن أشهر الكتب المؤلفة في الأصول الفقهية الحنبلية:

"العُدة في أصول الفقه" للقاضي أبي يعلى (458 هـ). وقد اختصره في مختصر لطيف.

"التمهيد في أصول الفقه" لأبي الخطاب الكلوذاني (510 هـ).

"الواضح في أصول الفقه" لأبي الوفاء ابن عقيل (513 هـ).

وكلا الرجلين تلميذٌ للقاضي أبي يعلى، إلا أن أبا الخطاب تتبع أبا يعلى في إيراد الأقوال، والإستدلال والمناقشة، بخلاف ابن عقيل، فإنه سلك مسلكاً بديعاً وطريقة متميزة مستقلة.

(1) مقدمة ابن خلدون 2/ 554.

(2)

أصول مذهب الإمام احمد ص 21.

ص: 404

"روضة الناظر وجنة المناظر" لموفق الدين ابن قدامة المقدسي (620 هـ) صاحب "المغني" وغيره. وقد اختصره الطوفي في "البلبل" ثم شرحه.

"المسودة" لآل تيمية، وهم المجد عبد السلام (652 هـ) وابنه عبد العليم (682 هـ) وحفيده أحمد، شيخ الإسلام (728 هـ). بيضها ورتبها شهاب الدين أحمد بن محمد الحراني الدمشقي (745 هـ). وهو عبارة عن مجموعة نقول عن القاضي وأبي الخطاب وابن عقيل، وغيرهم، ممن سبق آل تيمية، مع بعض الإختيارات والتعقبات.

"شرح مختصر الروضة" للطوفي (716 هـ).

"التحرير" للمرداوي (885 هـ) وقد اختصره الفُتوحي الشهور بابن النجار (972 هـ) في كتاب سماه "الكوكب المنير باختصار التحرير" ثم شرحه في كتاب بعنوان "شرح الكوكب المنير".

ويعتبر ابن تيمية من المشاركين بغزارة في أصول الحنابلة، ومؤلفاته في هذا الفن توجد إما في رسائل مستقلة، وإما في "الفتاوي الكبرى"، وإما في "مجموع الفتاوي"، وابن تيمية معروف بين أئمة الحنابلة بقوته العلمية، واختياراته الجيدة (1).

وأما كتب أدب الفتوى:

فمن أشهرها:

"صفة الفتوى والمفتي والمستفتي" لإبن حمدان (695 هـ)

"إعلام الموقعين عن رب العالمين" لإبن قيم الجوزية (751 هـ).

وتوجد آداب المفتي والمستفتي ضمن المجاميع، ومن ذلك كتاب "الآداب الشرعية" لإبن مفلح، فقد ضمن الجزء الثاني كلاماً مطولاً على آداب العالم والمتعلم والمفتي والمستفتي. كما توسع الشيخ أحمد المنقور في مجموعه الفقهي المسمى "بالفواكه العديدة في المسائل المفيدة" في مباحث الفتوى والإجتهاد والتقليد في كتاب القضاء.

التأليف في لغة الفقهاء، أو المعاجم الفقهية، أو فقه المصطلحات:

لغة الفقهاء تعني: تلك المصطلحات الفقهية الداخلية التي تداولها الفقهاء على ألسنتهم وفي كتبهم، بحيث تختلف دلالتها عندهم عن دلالتها اللغوية المجردة، وقد لا

(1) أصول مذهب الإمام أحمد ص 24.

ص: 405

تختلف إلا أن الفقيه استعملها استعمالاً خاصًا، وذلك مثل كلمة:"المسيس" التي تعني مس الشيء ولمسه باليد وغيرها، ولكنها في لغة الفقهاء تعني الجماع غالباً.

فنجد في "المطلع على أبواب المقنع"(1) قوله: "قبل المسيس". المسيس: اللمس، قاله الجوهري. وأصل اللمس باليد، ثم استعير للجماع، لأنه مستلزم للمسلى غالبًا، وكذا استعير للأخذ والضرب والجنون.

ونظراً لكثرة المصطلحات الفقهية وتزايدها في الكتب والمصنفات عبر الزمن عمد بعض العلماء إلى وضع معاجم فقهية أو كتب تعنى بفقه المصطلحات، وهي شبيهة بكتب غريب الحديث الموضوعة في شرح الألفاظ النبوية وما يتعلق بها.

ومن أشهر المؤلفات في هذا الفن:

عند الحنفية:

• طَلِبة الطَّلَبة في الاصطلاحات الفقهية، للشيخ نجم الدين أبي حفص عمر بن محمد النسفي (537 هـ).

• التعريفات للسيد الشريف علي بن محمد الجرجاني.

• المغرب في ترتيب المعرب، لأبي الفتح ناصر بن السيد بن عدي المطرزي الخوارزمي. وعند الشافعية:

• تهذيب الأسماء واللغات، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي.

• المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للرافعي، لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي.

وعند المالكية:

• الحدود، لمحمد بن عَرْفة الوَرْغَمِي التونسي، وهو عبارة عن تعاريف للموضوعات الفقهية، كالييع والإجارة. وقد شرحه الرصاع التلمساني شرحاً جيداً.

وهناك "كشاف مصطلحات الفنون" للتهانوي، و"التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي، و"القاموس الفقهي" للأستاذ سعدي أبو حبيب. و"دليل الألفاظ والمصطلحات الفقهية" الذي وضعته كلية الشريعة بجامعة دمشق.

وأما الحنابلة فلهم الباع الطويل واليد البيضاء في هذا الفن، فمن ذلك:

(1) ص 348.

ص: 406

"مختصر في الحدود، للشيرازي الدمشقي: عبد الواحد بن محمد (486 هـ).

"لغة الفقهاء" لإبن الجوزي (597 هـ).

"شرح لغة الفقهاء" لأبي البقاء العكبري (616 هـ).

"المطلع على أبواب المقنع" للإمام أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي (709 هـ) وهو يختص يحل ألفاظ "المقنع" لإبن قدامة المقدسي.

التأليف في المفردات والغرائب والنوادر:

المفردات جمع مفردة، والمقصود بهذه الكلمة: المسألة الفقهية، التي تفرد بها أحد الفقهاء عن الجمهور، فذهب إلى خلاف ما ذهبوا إليه، فكان بذلك منفردًا عن أقرانه وطبقته وأهل فنه في الرأي والإختيار، وفي معنى ذلك الغرائب والنوادر.

وكثيراً ما نجد، في ذيول التراجم من كتب الطبقات عند الحنابلة، قولهم: له تفردات في المذهب، أو نحو هذه العبارة.

ففي ترجمة أبي الخطاب يقول ابن رجب: كان أبو الخطاب رضي الله عنه فقيهاً عظيمًا، كثير التحقيق، وله من التحقيق والتدقيق الحسن في مسائل الفقه وأصوله شيء كثير جداً. وله مسائل ينفرد بها عن الأصحاب (1).

ويقول في ترجمة ابن عقيل: وله مسائل كثيرة ينفرد بها، ويخالف فيها المذهب. وقد يخالفه في بعض تصانيفه، ويوافقه في بعضها، فإن نظره كثيرًا يختلف، واجتهاده يتنوع (2).

وفي الخلاف الكبير أو الخلاف العالي، وهو الخلاف بين أئمة المذاهب نجد الإمام أحمد قد تفرد بعدة مسائل عن بقية الأئمة.

وفي هذا النوع من التفردات صنف الأصحاب:

- المفردات المطلقة، وهي التي لا تتقيد بالإنفراد عن إمام معين.

- المفرادات المقيدة، وهي في غالبها المسائل التي خالف فيها الإمامُ أحمد الإمامَ الشافعي.

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 120.

(2)

المصدر السابق 1/ 157.

ص: 407

وقد صنف الإمام أبو محمد علي بن حزم الأندلسي (456 هـ) كتابًا في تفردات الأئمة الثلاثة: مالك وأبو حنيفة والشافعي (1).

قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" تعليقاً على الكتاب المذكور: ولا ريب أن الأئمة الكبار تقع لهم مسائل ينفرد المجتهد بها، ولا يعلم أحد سبقه إلى القول بتلك المسألة، قد تمسك فيها بعموم، أو بقياس، أو بحديث صحيح عنده. والله أعلم.

ومما ألف الحنابلة في هذا الفن:

• الخلاف بين أحمد ومالك، لعمر بن إبراهيم العكبري، المعروف بابن المسلم (387 هـ). وفيه بيان مفردات أحمد عن الإمام مالك.

• الخلاف مع الشافعي، لأبي بكر عبد العزيز المعروف بغلام الخلّال (363 هـ). وفيه بيان مفردات الإمام أحمد عن الإمام الشافعي.

"المفردات" لأبي الخطاب (510 هـ)، ومثله لإبن عقيل (513 هـ)، ومثله لإبن الزاغوني (527 هـ)، ومثله لعبد الوهاب الشيرازي (536 هـ)، وللوزير ابن هبيرة (560 هـ)، ولأبي يعلى الصغير، محمد بن أبي خازم ابن أبي يعلى المتوفى سنة (560 هـ).

وقد توهم بعض المصنفين ومنهم الشيخ ابن بدران فجعل القاضي أبا الحسين ابن أبي يعلى الشهيد هو نفس أبا يعلى الصغير. والصّواب أنه محمد بن أبي خازم الحفيد.

"الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني". للشيخ أحمد بن عبد المنعم

الدمنهوري (1192 هـ).

وهو خاص بتفردات أحمد عن الشافعي على خلاف ظاهر عنوان الكتاب، ويتبين ذلك من مقدمة المصنف نفسه.

وفي الأخير لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل الحنابلة دون غيرهم يؤلفون في مفردات إمامهم؟

(1) ذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ"(3/ 1152) و"السير"(18/ 194)، وأشار إليه ابن حزم في "المحلى" (9/ 273) فقال: وقد أفردنا أجزاء ضخمة فيما خالف فيه أبو حنيفة ومالك والشافعي جمهور العلماء

إلخ.

ص: 408

والجواب فيما نظن -والله أعلم- يكمن في رد دعوى كون المذهب الحنبلي داخلاً في المذهب الشافعي وتابع له، وقد بحثنا هذه الدعوى عند الكلام على العلاقة بين أحمد والشافعي في الفصل الأول.

ويبدو أن أبا الحسين علي بن محمد الطبري المعروف بـ "إِلْكيا الهرّاسي"، الشافعي (504 هـ) كان من النقاد لمفردات الإمام أحمد، يُقَلِّل من عددها وقيمتها؛ ليسلم به عَدُّ أحمد من أصحاب الشافعي ورواة مذهبه، فانبرت طائفة من معاصريه ومن جاء بعدهم من فقهاء الحنابلة فردوا عليه، منهم: ابن الجوزي، وابن عبد الهادي، وابن قاضي الجبل. وكان علي بن عقيل البغدادي معاصراً لإلكيا الهرّاسي، وكان كثير المناظرة له، فكان الكيا ينشده ويقول (1):

ارفق بعبدك إن فيه فهاهة

جبلية ولك العراق وماؤها

التأليف في الإختيارات الفقهية:

وقد سبق الكلام عليها في "خصائص الحنبلية والحنابلة"(2) فلتراجع من هناك.

التأليف في الفتاوي:

الفتاوي -بكسر الواو أفصح مع صحة فتحها في اللغة (3) - جمع فتوى، وهي: الكشف عن الحكم الشرعي لا على سبيل الإلزام. ومعنى ذلك أن الحكم الشرعي يكشفه الفقيه تارة على سبيل الإلزام لمن كشف له، وتنفيذه عليه جبرًا، وهذا ما يسمى بـ "القضاء" أو"الحكم" وتارة يكشفه لصاحب الحاجة دون أن يلزمه به ويجبره على تنفيذه، مع أن العامي المقلد يجب عليه شرعاً وديانة أن يعمل بفتوى العالم حيث لا سبيل له إلى تعديها، وذلك حين لا يجد من يفتيه غيره، وتكون حاجته إلى العمل بالفتوى عاجلة ومتعينة.

فالقضاء والفتوى صنوان في كون كل منهما ممارسة للاجتهاد في الميدان الواقعي، وذلك في الإجابة على الأسئلة والفصل في الخصومات بطريق الحكم بين المتخاصمين إذا ترافعا إلى القاضي.

(1)"ذيل طبقات الحنابلة" لإبن رجب 1/ 147.

(2)

في الصفحة 378.

(3)

قال الفيومي في "المصباح"(الفتي): الفتاوي، بكسر الواو على الأصل، وقيل يجوز الفتح للتخفيف.

ص: 409

فالمجتهد إذا كان حاكماً فهو يفتي باجتهاده، ويحكم باجتهاده، فالإخباران صادران عن اجتهاد، إلا أن الفرق بين الحالتين، هو أنه في الفتيا يخبر عن مقتضى الدليل الراجح عنده، فهو كالمترجم عن الله تعالى فيما وجده في الأدلة، كترجمان الحاكم يخبر الناس بما يجده في كلام الحاكم أو خطه، وهو في الحكم يُنشئ إلزاماً أو إطلاقاً للمحكوم عليه بحسب ما يظهر له من الدليل الراجح والسبب الواقع في تلك القضية الواقعة (1).

ويعتبر منصب الفتوى منصباً كبيراً في الإسلام، باعتبار أنه منصب التوقيع عن الله عز وجل في بيان أحكامه للناس، فمن لم يكن أهلاً لذلك وإن غاشًا للناس في الدين، مفترياً على الله ورسوله، فيكون مَنْ هذه حاله واقفاً على شفير جهنم.

ففي سنن أبي داود (2) من حديث مسلم بن يسار، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أُفْتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه".

وقال الخطيب البغدادي: "ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها، أو وعده بالعقولة إن لم ينته عنها، وقد كان الخلفاء من بني أميَّة ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قومًا يُعَيِّنونهم، ويأمرون بأن لا يستفتى غيرهم"(3).

ولهذا لم يزل العلماء يؤلفون الكتب والرسائل والأبحاث في بيان عظم شأن الفتوى، وما هي الشروط المطلوية فيمن تصدى للفتوى، وماهي الآداب التي ينبغي أن يلتزم بها.

وقد بُلي عصرنا الحاضر برؤوس جهال، وأئمة مضلين يفتون بغير علم، ويتسارعون في الفتوى، على عكس ما كان عليه سلفنا الأبرار، إذ أنهم كانوا يتدافعون الفتوى حتى تعود إلى اللأول.

(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي، ص 84.

(2)

في كتاب العلم، باب: التوقي في الفتيا، الحديث (3657).

(3)

الفقيه والمتفقه 2/ 154.

ص: 410

ومن البلاوي أن هؤلاء الجهال ينتقون من رخص الفقهاء ما يحلُو لهم، ويتفق مع أهوائهم، مما تنبو عنه الشريعة الغراء، وتتجافى عنه الحنيفية السمحاء، التي جاءت من أجل إخراج الناس من دواعي الأهواء والشهوات إلى داعية الحق والعبودية لله.

وبعد: فإن فقهاءنا رحمهم الله نشروا هذا العلم تارة عن طريق التأليف المتتابع والتصنيف المتناسق، وتارة عن طريق الأجوبة عن الأسئلة المتنوعة المتناثرة في الواقعات أو الحوادث أو النوازل (1).

ومن هنا تكوَّن "فقه الواقع" الذي يعتبر مادة المفتين وعمدتهم ومرشدهم.

وهناك من دون فتاويه بنفسه، وهناك من دون فتاويه غيره من تلامذته وأصحابه من العلماء، كما أننا نجد من علمائنا من اهتم بجمع الفتاوي لعدة فقهاء في كتاب واحد، كما فعل الونشريسي المالكي في "المعيار المعرب" الذي جمع فيه فتاوي تونس والأندلس والمغرب، فكان بذلك مدونة الفتوى وموسوعتها عند المالكية.

وممن ألف أو جمع أو دون الفتاوي من الحنابلة:

"جوابات المسائل" للقاضي أبي يعلى (458 هـ) بعضها ورد من الحرم، وبعضها ورد من تِنيِس (قرية مصرية) وبعضها من مَيافارقين (مدينة بديار بكر)، وبعضها من أصفهان.

"فتاوى ابن عقيل"(513 هـ). اعتمد عليها ابن القيم في بعض كتبه.

"فتاوى ابن الزاغوني"(527 هـ). أفاد منها المنقور في "الفواكه العديدة" في موضعين.

"فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"(728 هـ). قام بجمعها الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (1392 هـ).

وفي ذلك يقول صاحب "علماء نجد":

"عمد إلى رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وفتاويه ومختصرات كتبه في العقائد والتوحيد والتفسير والحديث والفقه وعلم السير والسلوك وأصول التفسير وأصول

(1) دونت فتاوى الحنفية القديمة تحت عنوان "الواقعات" و"الحوادث" ثم دونت بعد ذلك تحت عنوان "الفتاوي" ولا تزال أكثر الكتب التي دونت فتاوي المالكية ترسم بعناوين "النوازل" جمع نازلة على معنى القضية المستجدة، ومن ذلك "نوازل مازونة" للمازوني، و"النوازل الكبرى" و"الصغرى" كلاهما لمحمد المهدي الوزاني المغربي.

ص: 411

الحديث وأصول الفقه، عمد إلى هذا التراث الكبير الكثير المطبوع منه والمخطوط، فحققه وبوبه ورتبه، وفهرسه فهارس مقربة موضحة، حتى صار منه موسوعة إسلامية كبرى، تقع في (37) مجلداً ثم أمر بطبعها وتوزيعها على العلماء في داخل البلاد وخارجها جلالة الملك سعود بن عبد العزيز، -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-" (1).

"الأجوبة النُّجدية عن الأسئلة النَّجدية". للسفاريني (1188 هـ).

"الفواكة العديدة في المسائل المفيدة" المسماة أيضاً بـ "المجموع الفقهي"، لأحمد بن محمد المنقور التميمي (1125 هـ).

وهو عبارة عن فتاوٍ وفوائد وأبحاث فقهيات وأصوليات متنوعة مما قيده من مجالس شيخيه عبد الله بن محمد بن ذهلان، والشيخ شهاب الدين ابن عطوة، ووثقها بنصوص من كتب مختلفة الفنون والمذاهب.

"الدرر السنية في الأجوبة النجدية" وهي عبارة عن ديوان فتاوى علماء نجد ورسائلهم ونصائحهم التي كانت مبعثرة مفرقة، جمعها الشيخ عبد الرحمن ابن قاسم المتقدم ذكره، ثم حققها ورتبها حسب التأليف المعروفة، حتى صارت عدة أجزاء في التوحيد والردود والنصائح والفتاوي. عمل في ذلك كما عمل في جمع فتاوى ابن تيمية.

التأليف في الألغاز:

والألغاز جمع لُغُز، ومعناه في اللغة: تعمية المراد، يقال ألغز في كلامه، إذا عمّى مراده (2).

والمقصود هنا: الألغاز الفقهية التي تسمى مسائل الامتحان أو المعاياة (3)، وهي ما يتطارحه الفقهاء في المجالس والمناقشات من المسائل بشكل يخفى فيه الجواب على البديهة، ويتوقف على الذكاء والنباهة الفقهية، نظير ما يجري من المسامرات والمنادمات والنوادر بين الشعراء والأدباء.

(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون 3/ 205.

(2)

الكليات لأبي البقاء الكفوي، ص 310، ط. الرسالة.

(3)

وهو معنى قول المرداوي في "الإنصاف" 1/ 15 (طبعة هجر التي في هامش المقنع والشرح الكبير): وربما تكون المسألة غريبة أو كالغربية، فأنبه عليها بقولي:"فَيُعَايَى بها".

ص: 412

والألغاز الفقهية، وإن كانت من الترف الفقهي، والملح التي قد لا تستحسن عند البعض، إلا أن لها أثراً في تنمية الملكة الفقهية، وتدريب القريحة، والتسلية العلمية الهادفة، خاصة وأنها كثيراً ما تصاغ في أبيات شعرية لطيفة.

وقد ألف الحنابلة في ذلك عدة تآليف، منها:

"مسائل الامتحان" لعبد الواحد الشيرازي الدمشقي (486 هـ).

"حلية الطراز في حل مسائل الألغاز" للجُراعي (883 هـ).

"الألغاز الفقهية" لعبد الله بن فايز أبا الخيل. (1251 هـ).

ص: 413