الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حالة المذهب الحنبلي بعد المقادسة
لقد تألق نجم النشاط العلمي والعملي الذي عرفته الشام على أيدي المقادسة نحو أربعة قرون متتالية، ثم إن المذهب الحنبلي أخذ في التناقص والتراجع في تلك البلاد، وبدأ مساره في الإنحدار في مطلع القرن العاشر، واستمر يتناقص إلى يومنا هذا، حيث لم يبق من البيوتات الحنبلية التي تعنى بهذا المذهب الجليل في دمشق وضواحيها -فيما نعلم- إلا بيت الشيخ أحمد الشامي الدوماني المتوفى سنة 1413 هـ.
وقد وصف الشيخ عبد القادر ابن بدران تلك الحالة التي آل إليها المذهب الحنبلي في الشام في زمانه بعبارة رقيقة تثير الأشجان، وتقشعر منها الأبدان، فقال:"تعلم أيها الفاضل الألمعي أن الخوض في هذا البحر (1) الزاخر صعب المسلك، بعيدُ المرمى، خصوصًا في هذا الزمان المعاند للعلم وأهله، حتى رماهم في سوق الكساد، ونادى عليهم بالحرمان، فأنى لمثلي أن يجول في هذا الميدان، ويناضل أولئك الفرسان؟ مع أنه تمضي علي الشهور، بل الأعوام، ولا أرى أحدًا يسألني عن مسألة في مذهب الإمام أحمد، لإنقراض أهله في بلادنا، وتقلص ظله منها، فلذلك أصبح اشتغالي بغير الفقه من العلوم، وإن اشتغلت به، فاشتغالي إما على طريقة الإستنباط، وإما بمراجعة كتب الأئمة على اختلاف مذاهبهم"(2).
ويصف لنا حالة المدرسة الشيخية العمرية الشهيرة، وماآلت إليه من الخراب، بعد أن كانت عامرة بنفائس المخطوطات ونوادر الكتب، فضلًا عن المشهورات، فيقول في كتابه "منادمة الأطلال":
"هي موجودة بالصالحية مشهورة معمورة بالجدران، لا ظل فيها للعلم ولا أثر،
= وقُدّمت رسالة جامعية، في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، عن الحانظ ابن رجب بعنوان: ابن رجب وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف، قدمها عبد الله بن سليمان الغفيلي، وقدمت رسالة أخرى في الأزهر عنه أيضًا، بعنوان: ابن رجب فقيهًا، قدمها محمد بن حمود الوائلي.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد كتب عنه من لا يحصي كثرة، ويعد كتاب "ابن تيمية" للشيخ أبو زهرة من أجمع وأوسع الدراسات في هذا الموضوع.
(1)
الإشارة إلى موضوع العقد السابع من كتابه "المدخل" وهو: ذكر الكتب المشهورة في المذهب.
(2)
المدخل ص 423.
يسكنها قوم من ذوي المتربة، ويمر بها نهر يزيد، وداخلها مدرسة لطيفة، ويها ما يقرب من تسعين خلوة، وقد كان بها خزانة كتب لا نظير لها، فلعبت بها أيدي المختلسين .... وكذلك لعبت أيدي المختلسين في أوقافها فابتلعوها، هذه حالتها اليوم" (1).
وهذه سنة الله في خلقه، فإن دوام الأحوال من المحال، ولا يكمل شيء في هذه الدنيا الفانية، إلا وفي كماله إيذان ببداية النقص، وكما يقول أبو البَقَاء الرَّنْدي في رثاء الأندلس بعد سقوطها في أيدي الصليبيين (2):
لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ
…
فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتُها دولٌ
…
من سرَّه زمنٌ ساءته أزمانُ
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن القيام بالتدريس والتأليف والفتوى في هذا المذهب قد تسلسل في الأسر الحنبلية؛ كبني مفلح الرامينيين، وآل الحجاوي، وآل المرداوي وغيرهم، إلى عهود متأخرة.
كما أننا نجد تألقًا لعدد من كبار الحنابلة عرفتهم الشام خلال الأربعة قرون المتأخرة من أمثال:
الجمال يوسف بن حسن بن عبد الهادي المقدسي الصالحي (841 هـ - 909 هـ) الشهير "بابن المِبْرَد"؛ الذي كان جبلًا في العلم، وفردًا من أفراد العالم، عديم النظير في التحرير والتقوير (3). والذي اشتهر كعصريَّه سميِّه الجلال السيوطي (911 هـ) بكثرة التصنيف والتأليف، فقد فاقت مؤلفاته الخمس مئة ما بين رسالة صغيرة وكتاب كبير، في فنون كثيرة: الحديث، والفقه، والأصول، والتراجم، وغير ذلك (4).
ومن أشهر مؤلفاته في الفقه الحنبلي:
- مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة الأحكام.
- الدر النقي في حلّ ألفاظ الخرقي.
(1) منادمة الأطلال ص 244.
(2)
نفح الطيب 4/ 487.
(3)
النعت الأكمل ص 68.
(4)
مقدمة تحقيق كتابه "ثمار المقاصد في ذكر المساجد"، لمحمد أسعد طلس، ص 17 وما بعدها.
ومنهم:
شرف الدين موسى بن أحمد الحجاوي المقدسي ثم الدمشقي الصالحي (1)(895 هـ - 960 هـ) الذي تفرد في عصره بتحقيق مذهب الإمام أحمد وصار إليه المرجع، ورحل إليه الطلاب من مختلف الأصقاع، وممن رحل إليه وتتلمذ على يديه من علماء نجد:
الشيخ أحمد بن محمد بن مشرّف (2)(1012 هـ)، والشيخ زامل بن سلطان (توفي في أواخر القرن العاشر) الذي كان قاضي الرياض آنذاك (3)، والشيخ محمد بن إبراهيم بن أبي حميدان المشهور "بأبي جَدّه"(توفي في أواخر القرن العاشر" (4).
كما أن مؤلفاته: "الإقناع لطالب الإنتفاع" و"زاد المستقنع في اختصار المقنع" و"حاشية التنقيح" شاعت وانتشرت بين الحنابلة منذ ذلك الوقت، لكثرة ما فيها من الفوائد وحسن السبك، وكان عليها المعول أكثر من غيرها في البلاد النجدية.
وفي القرن الحادي عشر للهجرة تألق عدة مشاهير توالوا على التفقيه في المذهب الحنبلي، منهم:
شمس الدين محمد البلباني (5)(1006 - 1083 هـ) الذي تتلمذ على يد أحمد بن أبي الوفاء المفلحي الصالحي (1038 هـ) الذي كانت سيرته في الشام تذكِّر بسيرة الحسن البصري في زمانه بالبصرة، وهو تلميذ الحجاوي، ومن بيت مفلح المشهور بالعلم الكثير، المعروف بالتصنيف والتأليف بين الكبير والصغير.
ومنهم:
المؤرخ عبد الحي ابن العماد (6)(1032 - 1089 هـ) الدمشقي الصالحي الذي كان معروفًا بكثرة التفتيش والبحث في الخزائن والمكتبات، شارح "غاية المنتهى" للشيخ مرعي ومؤلف "شذرات الذهب في أخبار من ذهب".
(1) النعت الأكمل ص 124، السحب الوابلة 3/ 1134.
(2)
علماء نجد خلال ثمانية قرون 1/ 540.
(3)
المصدر السابق 2/ 198.
(4)
المصدر السابق 5/ 481.
(5)
النعت الأكمل ص 231.
(6)
النعت الأكمل ص 240.