الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَقْدُورٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ. فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّى وَالرِّبَا وَالْبَيْعِ " (1) .
أَرْكَانُ السَّلَمِ وَشُرُوطُ صِحَّتِهِ:
9 -
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ السَّلَمِ ثَلَاثَةٌ:
(1)
الصِّيغَةُ (وَهِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول) .
(2)
وَالْعَاقِدَانِ (وَهُمَا الْمُسْلِمُ، وَالْمُسْلَمُ إِلَيْهِ) .
(3)
وَالْمَحَل (وَهُوَ شَيْئَانِ: رَأْسُ الْمَال، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ اعْتَبَرُوا رُكْنَ السَّلَمِ هُوَ الصِّيغَةَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول الدَّالَّيْنِ عَلَى اتِّفَاقِ الإِْرَادَتَيْنِ وَتُوَافِقْهُمَا عَلَى إنْشَاءِ هَذَا الْعَقْدِ (2) .
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الصِّيغَةُ:
10 -
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الإِْيجَابِ بِلَفْظِ السَّلَمِ أَوِ السَّلَفِ، وَكُل مَا اشْتُقَّ مِنْهُمَا، كَأَسْلَفْتُكَ وَأَسْلَمْتُكَ، وَأَعْطَيْتُكَ كَذَا سَلَمًا أَوْ سَلَفًا فِي كَذَا. .؛ لأَِنَّهُمَا لَفْظَانِ بِمَعْنًى
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (مراجعة ط عبد الرؤوف سعد) 2 / 19.
(2)
انظر التعريفات للشريف الجرجاني (ط - الدار التونسية 1971 م) ص 59، 67.
وَاحِدٍ، وَكِلَاهُمَا اسْمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ. وَكَذَا عَلَى صِحَّةِ الْقَبُول بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا بِمَا أَوْجَبَهُ الأَْوَّل، مِثْل: قَبِلْتُ وَرَضِيتُ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
11 -
غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ انْعِقَادِ السَّلَمِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لأَِبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ السَّلَمُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ إِذَا بَيَّنَ فِيهِ إِرَادَةَ السَّلَمِ وَتَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ، كَأَنْ يَقُول رَبُّ السَّلَمِ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ خَمْسِينَ رِطْلاً زَيْتًا صِفَتُهُ كَذَا إِلَى أَجَل كَذَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ حَالَّةٍ، وَقَبِل الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ. أَوْ يَقُول الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ: بِعْتُكَ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ صِفَتُهُ كَذَا إِلَى أَجَل كَذَا، بِخَمْسِينَ دِينَارًا مُعَجَّلَةٍ فِي الْمَجْلِسِ. وَقَبِل الطَّرَفُ الآْخَرُ (2) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: " التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِنْ عَرَفَا الْمَقْصُودَ انْعَقَدَتْ، فَأَيُّ
(1) البدائع 5 / 201، شرح منتهى الإرادات 2 / 214، نهاية المحتاج وحاشية الرشيدي عليه 4 / 178، المهذب 1 / 304، منح الجليل 3 / 2.
(2)
شرح منتهى الإرادات 2 / 214، بدائع الصنائع 5 / 201، المهذب 1 / 304، روضة الطالبين 4 / 6، مواهب الجليل 4 / 538، الخرشي 5 / 223، منح الجليل 3 / 36، فتح العزيز 9 / 224، وبدائع الصنائع 5 / 201.
لَفْظٍ مِنَ الأَْلْفَاظِ عَرَفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا انْعَقَدَ بِهِ الْعَقْدُ. وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَحُدَّ أَلْفَاظَ الْعُقُودِ حَدًّا، بَل ذَكَرَهَا مُطْلَقَةً. فَكَمَا تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ بِمَا يَدُل عَلَيْهَا مِنَ الأَْلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْلْسُنِ الْعَجَمِيَّةِ، فَهِيَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُل عَلَيْهَا مِنَ الأَْلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَلِهَذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ " (1) .
(وَالثَّانِي) لِزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ صَحَّحَهُ الشَّيْخَانِ النَّوَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَنَّ السَّلَمَ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَحُجَّةُ زُفَرَ " أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ أَصْلاً؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إِلَاّ أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِجَوَازِهِ بِلَفْظِ السَّلَمِ (2) بِقَوْلِهِ: وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ (3) " فَوَجَبَ الاِقْتِصَارُ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ إجْزَاءِ سِوَاهُ.
أَمَّا حُجَّةُ أَصْحَابِ هَذَا الرَّأْيِ مِنَ
(1) القياس لابن تيمية ص 24، مجموع فتاوى ابن تيمية 20 / 533، وانظر إعلام الموقعين 2 / 23 (طبعة طه عبد الرؤوف سعد) .
(2)
بدائع الصنائع 5 / 201.
(3)
حديث: " رخص في السلم ". ذكر الزيلعي في نصب الراية (4 / 45 - ط المجلس العلمي) أنه مستنبط من حديث ابن عباس المتقدم في فقرة رقم (4) .
الشَّافِعِيَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ لَفْظُهُ، وَيَنْعَقِدُ بَيْعًا نَظَرًا لِلَّفْظِ وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ تَعْيِينُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَال فِي الْمَجْلِسِ لأَِنَّ السَّلَمَ غَيْرُ الْبَيْعِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِهِ (1) .
12 -
وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي صِيغَةِ السَّلَمِ أَنْ تَكُونَ بَاتَّةً لَا خِيَارَ فِيهَا لأَِيٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ عَقْدٌ لَا يَقْبَل خِيَارَ الشَّرْطِ، إِذْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ تَمْلِيكُ رَأْسِ الْمَال وَإِقْبَاضُهُ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَوُجُوبُ تَحَقُّقِهِمَا مَنَافٍ لِخِيَارِ الشَّرْطِ.
قَال الشَّافِعِيُّ فِي " الأُْمِّ ": لَا يَجُوزُ الْخِيَارُ فِي السَّلَفِ. لَوْ قَال رَجُلٌ لِرَجُلٍ: أَبْتَاعُ مِنْكَ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَنْقُدُكَهَا مِائَةَ صَاعٍ تَمْرًا إِلَى شَهْرٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ بَعْدَ تَفَرُّقِنَا مِنْ مَقَامِنَا الَّذِي تَبَايَعْنَا فِيهِ، أَوْ أَنْتَ بِالْخِيَارِ، أَوْ كِلَانَا بِالْخِيَارِ، لَمْ يَجُزْ فِيهِ الْبَيْعُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَشَارَطَا الْخِيَارَ ثَلَاثًا فِي بُيُوعِ الأَْعْيَانِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَال: أَبْتَاعُ مِنْكَ مِائَةَ صَاعٍ تَمْرًا بِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ يَوْمًا، إِنْ رَضِيتُ أَعْطَيْتُكَ الدَّنَانِيرَ، وَإِنْ لَمْ أَرْضَ
(1) المهذب 1 / 304، روضة الطالبين 4 / 6، فتح العزيز 9 / 224، أسنى المطالب 2 / 124.
فَالْبَيْعُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَفْسُوخٌ، لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ هَذَا بَيْعٌ مَوْصُوفٌ، وَالْبَيْعُ الْمَوْصُوفُ لَا يَجُوزُ إِلَاّ بِأَنْ يَقْبِضَ صَاحِبُهُ ثَمَنَهُ قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا؛ لأَِنَّ قَبْضَهُ مَا سَلَّفَ فِيهِ قَبْضُ مِلْكٍ، وَهُوَ لَوْ قَبَّضَهُ مَال الرَّجُل عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ لَمْ يَكُنْ قَبْضَ مِلْكٍ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَمْلِكِ الْبَائِعُ مَا دُفِعَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْبَائِعِ فَلَمْ يُمَلِّكْهُ الْبَائِعُ مَا بَاعَهُ؛ لأَِنَّهُ عَسَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِهِ ثُمَّ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهِ إِلَاّ مَقْطُوعًا بِلَا خِيَارٍ " (1) .
وَفِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: (يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاتًّا عَارِيًا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ لأَِحَدِهِمَا) ؛ لأَِنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الأَْصْل ثَبَتَ مَعْدُولاً بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْحَال، وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ.
وَمِثْل هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الأَْصْل، إِلَاّ أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى أَصْل الْقِيَاسِ، خُصُوصًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ،
(1) الأم 3 / 133 (بإشراف محمد زهري النجار) .
وَالسَّلَمُ لَيْسَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْعَيْنِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْخِيَارُ؛ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْغَبْنِ، وَالسَّلَمُ مَبْنَاهُ عَلَى الْغَبْنِ وَوَكْسِ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ، فَوُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ لَا يَكُونُ وُرُودًا هَاهُنَا دَلَالَةً، فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ لِلْقِيَاسِ.
وَلأَِنَّ قَبْضَهُ رَأْسَ الْمَال مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَبْضِ إِلَاّ فِي الْمِلْكِ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ، فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ. وَمِثْلُهُ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ (1) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا بِجَوَازِ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي السَّلَمِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ لأَِحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ، بِشَرْطِ أَلَاّ يَتِمَّ فَقْدُ رَأْسِ الْمَال، فَإِنْ فُقِدَ فَسَدَ الْعَقْدُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِتَرَدُّدِ رَأْسِ الْمَال بَيْنَ السَّلَفِيَّةِ وَالثَّمَنِيَّةِ (2) .
هَذَا هُوَ الرَّأْيُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ قَبْضِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا؛ لأَِنَّ هَذَا التَّأْخِيرَ الْيَسِيرُ فِي حُكْمِ التَّعْجِيل، فَيَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ؛ إِذِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ.
(1) بدائع الصنائع 5 / 201، وشرح منتهى الإرادات 2 / 169.
(2)
منح الجليل لعليش 3 / 5.