الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدِ احْتَجَّ الْكَاسَانِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ " أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ " فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ، لِمَا رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ (1) ، سُمِّيَ السَّلَمُ بَيْعًا، فَكَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعًا، وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً، فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا " (2) .
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَعُدُّونَ الْمَذْرُوعَاتِ الْمُتَمَاثِلَةَ الآْحَادِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةَ أَوِ الْمُتَسَاوِيَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي تَقْبَل الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا فِي عَقْدِ السَّلَمِ، وَيَصِحُّ كَوْنُهَا مُسْلَمًا فِيهَا قِيَاسًا عَلَى الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِيهَا؛ لِلْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا وَهِيَ رَفْعُ الْجَهَالَةِ بِالْمِقْدَارِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّقْدِيرِ هُوَ رَفْعُ الْجَهَالَةِ وَإِمْكَانُ
(1) حديث: " نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم ". قال الزيلعي في نصب الراية (4 / 45 - ط المجلس العلمي) : " غريب بهذا اللفظ ". ثم ذكر أنه مركب من معنى حديثين، وقد تقدما في هذا البحث.
(2)
بدائع الصنائع 5 / 212.
التَّسْلِيمِ بِلَا نِزَاعٍ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِالْعَدِّ وَالذَّرْعِ فِيمَا يُقَدَّرُ بِالْوَحَدَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ الطُّولِيَّةِ أَوْ بِالْعَدَدِ كَمَا هُوَ حَاصِلٌ بِالْوَزْنِ أَوْ بِالْحَجْمِ فِيمَا يُقَدَّرُ بِالْوَزْنِ أَوِ الْكَيْل. قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: فَإِنْ قِيل: لِمَ خَصَّ فِي الْحَدِيثِ الْكَيْل وَالْوَزْنَ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِغَلَبَتِهِمَا وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَيْرِهِمَا (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْلُومًا:
22 -
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْلُومًا مُبَيَّنًا بِمَا يَرْفَعُ الْجَهَالَةَ عَنْهُ وَيَسُدُّ الأَْبْوَابَ إِلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ تَسْلِيمِهِ، لأَِنَّهُ بَدَلٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُبَادَلَاتِ الْمَالِيَّةِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِذَاتِهِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَنُصَّ فِي عَقْدِ السَّلَمِ عَلَى جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ أَوْ تَمْرٌ أَوْ زَيْتٌ. . وَعَلَى نَوْعِهِ إِنْ كَانَ لِلْجِنْسِ الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعٍ، بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الرُّزَّ مِنَ النَّوْعِ الأَْمْرِيكِيِّ أَوِ الْبِشَاوَرِيِّ وَنَحْوِ
(1) مغني المحتاج 1 / 108.
ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ لِلْجِنْسِ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ النَّوْعِ (1) .
كَمَا اشْتَرَطُوا بَيَانَ قَدْرِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ (2) . . وَبَيَانُ الْقَدْرِ يَتَحَقَّقُ بِكُل وَسِيلَةٍ تَرْفَعُ الْجَهَالَةَ عَنِ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ تَسْلِيمُهُ، وَتُضْبَطُ الْكَمِّيَّةُ الثَّابِتَةُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا بِصُورَةٍ لَا تَدَعُ مَجَالاً لِلْمُنَازَعَةِ عِنْدَ الْوَفَاءِ (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي (الْمُغْنِي) : (وَيَجِبُ أَنْ يُقَدِّرَهُ بِمِكْيَالٍ أَوْ أَرْطَالٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ) .
فَإِنْ قَدَّرَهُ بِإِنَاءٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ أَوْ صَنْجَةٍ مُعَيَّنَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَهْلِكُ فَيَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَهَذَا غَرَرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَقْدُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: " أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ فِي
(1) البدائع 5 / 207، شرح منتهى الإرادات 2 / 216، الخرشي 5 / 213، بداية المجتهد 2 / 230، المغني 4 / 310.
(2)
حديث: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم ". تقدم تخريجه ف6.
(3)
(المغني 4 / 318، نهاية المحتاج 4 / 190، شرح منتهى الإرادات 2 / 218، بداية المجتهد 2 / 229.
الطَّعَامِ لَا يَجُوزُ بِقَفِيزٍ لَا يُعْلَمُ عِيَارُهُ، وَلَا فِي ثَوْبٍ بِذَرْعِ فُلَانٍ؛ لأَِنَّ الْمِعْيَارَ لَوْ تَلِفَ أَوْ مَاتَ فُلَانٌ بَطَل السَّلَمُ.
وَإِنْ عَيَّنَ مِكْيَال رَجُلٍ أَوْ مِيزَانَهُ، وَكَانَا مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ جَازَ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِمَا. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفَا لَمْ يَجُزْ " (1) .
هَذَا وَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ رَجَّحَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) لَا يَرَوْنَ بَأْسًا فِي اتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَحْدِيدِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِأَيَّةِ وَحْدَةٍ قِيَاسِيَّةٍ عُرْفِيَّةٍ تَضْبِطُهُ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِتَحْدِيدِهِ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ بِمَا يَنْفِي عَنْهُ الْجَهَالَةَ وَالْغَرَرَ، وَإِمْكَانُ تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ، وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ يُمْكِنُ حُصُولُهُ بِأَيَّةِ وَحْدَةٍ قِيَاسِيَّةٍ عُرْفِيَّةٍ مُنْضَبِطَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَدَّرَاهُ بِأَيِّ قَدْرٍ جَازَ " (3) ، وَيُفَارِقُ بَيْعَ الرِّبَوِيَّاتِ، فَإِنَّ التَّمَاثُل فِيهَا فِي الْمَكِيل كَيْلاً وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا شَرْطٌ، وَلَا يُعْلَمُ هَذَا الشَّرْطُ إِذَا قَدَّرَهَا بِغَيْرِ مِقْدَارِهَا الأَْصْلِيِّ (4) .
(1) المغني 4 / 318، وبدائع الصنائع 5 / 207.
(2)
اختار هذه الرواية من الحنابلة موفق الدين ابن قدامة في المغني وابن عبدوس في تذكرته وجزم بها في الوجيز والمنور ومنتخب الأزجي. (انظر كشاف القناع 3 / 285، المغني 4 / 318) .
(3)
نهاية المحتاج 4 / 191، بدائع الصنائع 5 / 208، المغني 4 / 318، المهذب 1 / 306.
(4)
المغني 4 / 319.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَقَالُوا: لَا يَصِحُّ سَلَمٌ فِي مَكِيلٍ وَزْنًا، وَلَا فِي مَوْزُونٍ كَيْلاً، " لأَِنَّهُ مَبِيعٌ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ فِي الأَْصْل، كَبَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَلأَِنَّهُ قَدَّرَهُ بِغَيْرِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ فِي الأَْصْل، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي مَذْرُوعٍ وَزْنًا "(1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْعِبْرَةُ بِعُرْفِ أَهْل الْبَلَدِ الَّذِي جَرَى فِيهِ السَّلَمُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُضْبَطَ الْمُسْلَمُ فِيهِ بِالْوَحْدَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي تَعَارَفَ أَهْل الْبَلَدِ وَقْتَ الْعَقْدِ عَلَى تَقْدِيرِهِ بِهَا؛ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ فِي تَقْدِيرِهِ عِنْدَ الْوَفَاءِ. قَال الْخَرَشِيُّ:" يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ مَضْبُوطًا بِعَادَةِ بَلَدِ الْعَقْدِ، مِنْ كَيْلٍ فِيمَا يُكَال كَالْحِنْطَةِ، أَوْ وَزْنٍ كَاللَّحْمِ وَنَحْوِهِ، أَوْ عَدَدٍ كَالرُّمَّانِ وَالتُّفَّاحِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ "(2) .
وَبَيَانُ مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ إِنَّمَا يَجْرِي فِي الْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي تَخْضَعُ أَنْوَاعُهَا لِلْوَحَدَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَهِيَ الْوَزْنُ أَوِ
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 218، وانظر كشاف القناع 3 / 285.
(2)
التاج والإكليل 4 / 530، الخرشي على خليل 5 / 212.
الْحَجْمُ أَوِ الطُّول أَوِ الْعَدُّ. . أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ آحَادُهَا وَتَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهَا بِحَيْثُ لَا تَقْبَل التَّقْدِيرَ بِتِلْكَ الْوَحَدَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتُهَا قَابِلَةً لِلاِنْضِبَاطِ، فَعِنْدَئِذٍ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا بِشَرْطِ بَيَانِ صِفَاتِهَا الَّتِي تَتَفَاوَتُ فِيهَا الرَّغَبَاتُ وَيَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِتَفَاوُتِهَا اخْتِلَافًا ظَاهِرًا. قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ:" وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي السَّلَمِ يَكُونُ بِالْوَزْنِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْوَزْنُ وَبِالْكَيْل فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَيْل، وَبِالذَّرْعِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الذَّرْعُ، وَبِالْعَدَدِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْعَدَدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ انْضَبَطَ بِالصِّفَاتِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْجِنْسِ، مَعَ ذِكْرِ النَّوْعِ إِنْ كَانَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، أَوْ مَعَ تَرْكِهِ إِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا "(1) .
وَلَا يَجِبُ اسْتِقْصَاءُ كُل الصِّفَاتِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ، وَقَدْ يَنْتَهِي الْحَال فِيهَا إِلَى أَمْرٍ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ. إِذْ يَبْعُدُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحِل بِتِلْكَ الصِّفَاتِ كُلِّهَا، فَيَجِبُ الاِكْتِفَاءُ بِالأَْوْصَافِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهَا غَالِبًا. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْخَرَشِيُّ بِقَوْلِهِ: " أَنْ تُبَيَّنَ أَوْصَافُ الْمُسْلَمِ فِيهِ
(1) بداية المجتهد 2 / 230.