الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَكَانِ الإِْيفَاءِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْكُرْهُ (1) فَدَل عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ. وَلأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ مَكَانِ الإِْيفَاءِ، كَبُيُوعِ الأَْعْيَانِ، إِلَاّ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ فِيهِ كَمَوْضِعٍ لِلْعَرَاءِ وَبَحْرٍ وَجَبَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ بَيَانُهُ لِتَعَذُّرِ الْوَفَاءِ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ مَحِل التَّسْلِيمِ مَجْهُولاً، فَاشْتُرِطَ تَعْيِينُهُ بِالْقَوْل كَالأَْجَل (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى السَّلَمِ وَالْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ:
أ -
انْتِقَال الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ:
29 -
إِذَا قَبَضَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَأْسَ الْمَال كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِكُل التَّصَرُّفَاتِ السَّائِغَةِ شَرْعًا؛ لأَِنَّهُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ يَدِهِ.
أَمَّا الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَرَغْمَ كَوْنِهِ أَصْبَحَ دَيْنًا لِلْمُسْلِمِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، إِلَاّ أَنَّ مَلَكِيَّتَهُ لَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ قَال السُّيُوطِيُّ فِي (الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ) : " جَمِيعُ الدُّيُونِ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ لُزُومِهَا وَقَبْضِ الْمُقَابِل لَهَا مُسْتَقِرَّةٌ إِلَاّ دَيْنًا وَاحِدًا، هُوَ دَيْنُ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَإِنَّمَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ؛ لأَِنَّهُ
(1) في حديثه " من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ".
(2)
كشاف القناع 3 / 292، شرح منتهى الإرادات 2 / 221، وانظر المغني 4 / 333.
بِصَدَدِ أَنْ يَطْرَأَ انْقِطَاعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ " (1) .
ب -
التَّصَرُّفُ فِي دَيْنِ السَّلَمِ قَبْل قَبْضِهِ:
30 -
بِنَاءً عَلَى كَوْنِ دَيْنِ السَّلَمِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوِ الاِسْتِبْدَال عَنْهُ، لأَِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فَسْخُ الْعَقْدِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَامْتِنَاعِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ، فَكَانَ كَالْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ. وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلَا يَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ (2) . قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَلَاّ يَبِيعَ الْمُسْلِمُ دَيْنَ السَّلَمِ لَا مِنْ صَاحِبٍ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ (3) ، هَذَا فِي الْبَيْعِ أَمَّا غَيْرُهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فَفِيهَا خِلَافٌ.
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 326.
(2)
حديث: " من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ". أخرجه ابن ماجه (2 / 766 - ط الحلبي) والدارقطني (3 / 45 - ط دار المحاسن) من حديث أبي سعيد واللفظ للدارقطني. وضعف ابن حجر راويه عن أبي سعيد، ونقل عن جمع من العلماء أنهم أعلوا الحديث بالضعف والاضطراب. كذا في التلخيص الحبير (3 / 25 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3)
رد المحتار 4 / 166، 209، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 118، أسنى المطالب 2 / 84، الأم (ط - زهري النجار) 3 / 133، نهاية المحتاج 4 / 87، المهذب 1 / 270، فتح العزيز 8 / 432، مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 500، 503، 506، المغني 4 / 334، المبدع 4 / 197، شرح منتهى الإرادات 2 / 222.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: " لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ لِرَبِّ السَّلَمِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ بِنَحْوِ بَيْعٍ وَشَرِكَةٍ وَمُرَابَحَةِ تَوْلِيَةٍ، وَلَوْ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ "(1) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: " لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَال الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، بِأَنْ يَأْخُذَ رَبُّ السَّلَمِ مَكَانَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَهُوَ مَبِيعٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُول قَبْل الْقَبْضِ. . وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ لِوُجُودِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ مَعَ شَرَائِطِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِهِ. . . وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ لأَِنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً، وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ - أَيُّ دَيْنٍ كَانَ - جَائِزٌ "(2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: " وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الاِسْتِبْدَال عَنْهُ، وَهَل تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِهِ بِأَنْ يُحِيل الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمَ بِحَقِّهِ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنُ قَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ، أَوِ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُحِيل الْمُسْلِمُ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنُ قَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لَا. وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ بِهِ "(3) .
(1) انظر رد المحتار 4 / 209، كشاف القناع 3 / 293.
(2)
بدائع الصنائع 5 / 214.
(3)
المجموع شرح المهذب 9 / 273.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: " لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ وَلَوْ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ. . . وَلَا يَصِحُّ أَخْذُ غَيْرِهِ، أَيْ: الْمُسْلَمِ فِيهِ مَكَانَهُ. . . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَهُ فِي الْقِيمَةِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ. وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ - أَيْ بِدَيْنِ السَّلَمِ - لأَِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، فَلَمْ تَجُزْ كَالْبَيْعِ. وَلَا الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَاّ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ، وَالسَّلَمُ عُرْضَةٌ لِلْفَسْخِ "(1) .
31 -
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ حَيْثُ أَجَازَا بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ بِثَمَنِ الْمِثْل أَوْ دُونَهُ لَا أَكْثَرَ مِنْهُ حَالًّا. وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: " إِذَا أَسْلَفْتَ فِي شَيْءٍ إِلَى أَجَلٍ، فَإِنْ أَخَذْتَ مَا أَسْلَفْتَ فِيهِ، وَإِلَاّ فَخُذْ عِوَضًا أَنْقَصَ مِنْهُ، وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ (3) .
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مِنَ الْمَدِينِ أَوِ
(1) كشاف القناع 3 / 293.
(2)
مختصر الفتاوى العصرية لابن تيمية ص 345، مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 503، 504، 518، 519 تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته لابن القيم 5 / 111 وما بعدها.
(3)
تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته 5 / 113.
الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِسِعْرِ الْمِثْل أَوْ دُونَهُ هُوَ عَدَمُ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، حَيْثُ إِنَّ حَدِيثَ مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ (1) . وَحَتَّى لَوْ ثَبَتَ فَمَعْنَى فَلَا يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ أَيْ: لَا يَصْرِفُهُ إِلَى سَلَمٍ آخَرَ، أَوْ لَا يَبِعْهُ بِمُعَيَّنٍ مُؤَجَّلٍ. . وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَل النِّزَاعِ. قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: " فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي التَّحْرِيمِ وَلَا إِجْمَاعَ وَلَا قِيَاسَ، وَأَنَّ النَّصَّ وَالْقِيَاسَ يَقْتَضِيَانِ الإِْبَاحَةَ (2) .
أَمَّا دَلِيلُهُمْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ فَلأَِنَّ دَيْنَ السَّلَمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَنْتَقِل إِلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِزِيَادَةٍ، فَقَدْ رَبِحَ رَبُّ السَّلَمِ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ (3) .
32 -
وَنَهَجَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَضِيَّةِ مَسْلَكًا
(1) قال الحافظ ابن حجر: " وفيه عطية بن سعد العوفي، وهو ضعيف. وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان بالضعف والاضطراب ". (التلخيص الحبير 3 / 25) .
(2)
تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته 5 / 117.
(3)
حديث: " نهى عن ربح ما لم يضمن ". ورد ذلك من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: " لا يحل سلف ولا بيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ". أخرجه الترمذي (3 / 527 - ط الحلبي) . وقال: " حديث حسن صحيح ".
وَسَطًا، إِذْ أَجَازُوا بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِغَيْرِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ طَعَامًا فَقَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ:" وَأَمَّا بَيْعُ السَّلَمِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فَيَجُوزُ بِكُل شَيْءٍ يَجُوزُ بِهِ التَّبَايُعُ، مَا لَمْ يَكُنْ طَعَامًا؛ لأَِنَّهُ يَدْخُلُهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ "(1) .
أَمَّا الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، أَوْ بَيْعُهُ مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فَقَدْ أَجَازُوهُ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ، بَيَّنَهَا الْخَرَشِيُّ بِقَوْلِهِ: " يَجُوزُ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ السَّلَمَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، سَوَاءٌ حَل الأَْجَل أَمْ لَا بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يُبَاعُ قَبْل قَبْضِهِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي حَيَوَانٍ، فَأَخَذَ عَنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ دَرَاهِمَ؛ إِذْ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَوَانِ قَبْل قَبْضِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يُبَاعُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبٍ مَثَلاً، فَأَخَذَ عَنْهُ طَسْتَ نُحَاسٍ؛ إِذْ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّسْتِ بِالثَّوْبِ يَدًا بِيَدٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُسْلَمَ فِيهِ رَأْسُ الْمَال. كَمَا لَوْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ فِي حَيَوَانٍ، فَأَخَذَ عَنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ ثَوْبًا، فَإِنَّ
(1) بداية المجتهد 2 / 231.