الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّانِي إِن المطلوبين لَهُم وَأَن فرضوا اضعافهم فأغراضهم متباينة وتخاذلهم من خوف الْمَوْت حَاصِل فَلَا يقاومونهم ألبته وغن كاثروهم قُوَّة وعددا
تَصْدِيق بواقعين
أَحدهمَا مَا وَقع للْعَرَب صدر الْإِسْلَام كَانَت جيوش الْمُسلمين بالقادسية واليرموك بضعا وَثَلَاثِينَ ألفا فِي كل معسكر وجموع فَارس مائَة وَعشْرين ألفا بالقادسية وجموع هِرقل أَرْبَعمِائَة ألف فِيمَا ذكر الْوَاقِدِيّ فَلم يقف لَهُم أحد من الْجَانِبَيْنِ بل هزموهم وغلبوهم على مَا بِأَيْدِيهِم
الثَّانِي مَا اتّفق مِنْهُ للملثمين بالمغرب لما نزعوا غلى الْملك ملكوا من عصبيتهم فَمَا وقف لَهُم أحد
قَالَ وَاعْتبر ذَلِك إِذا حَالَتْ صبغة الدّين وفسدت كَيفَ ينْتَقض الْأَمر وَيصير الغلب على نِسْبَة العصبية فَقَط دون زِيَادَة الدّين فالموحدون يشف عَلَيْهِم عددا وعصبية إِلَّا أَن الِاجْتِمَاع الديني ضاعف قُوَّة لما قدمُوا بدعوة دينية غلبوا على زناتة وَأَن كَانُوا اشد مِنْهُم قُوَّة وبداوة فَلَمَّا حادوا عَن تِلْكَ الصبغة الدِّينِيَّة انْقَضتْ عَلَيْهِم زناتة من كل جَانب وانتزعوا مِنْهُم مَا ملكوه وَالله غَالب على أمره
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة أَن الْعَرَب لَا يحصل لَهُم الْملك أَلا بصبغة دينية وَذَلِكَ
لآنفة نُفُوسهم المتوحشة أبعد المم فِيمَا بَينهم وقلما تَجْتَمِع أهوائهم فَإِذا وجدوا الدّين بنبوة أَو ولَايَة سهل انقيادهم وَأمكن اجْتِمَاعهم لذهاب مَا يصد عَن ذَلِك فَيحصل لَهُم الْملك والتغلب وَلَا بعد فِي ذَلِك إِذْ هم أسْرع النَّاس قبولا للحق وَالْهدى لِسَلَامَةِ طبائعهم من ذميم الْأَخْلَاق كَمَا تقدم إِلَّا مَا كَانَ من خلق التوحش الْغَرِيب المعاناة بِبَقَائِهِ على الْفطْرَة الأولى وَبعدهَا عَن كل مَا يتطبع فِي النَّفس من قَبِيح العوائد وَسُوء الملكات كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة
الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة إِن الدعْوَة الدِّينِيَّة لَا تتمّ إِلَّا بالعصبية لما سبقت الْإِشَارَة إِلَيْهِ أَن كل أَمر يحمل النَّاس عَلَيْهِ لَا يتم إِلَّا بِالْقِتَالِ الْمَوْقُوف على العصبية وَفِي الصَّحِيح مَا بعث الله نَبيا إِلَّا فِي مَنْعَة من قومه وَإِذا كَانَ هَذَا فِي الْأَنْبِيَاء فَمَا الظَّن بغيرهم وَمَعَ وضوحه فقد وَقع الْغَلَط بالذهول عَنهُ لصنفين من النَّاس الصِّنْف الأول طلاب الْملك لمُجَرّد الدّين كَمَا اتّفق لِابْنِ قسي صَاحب خلع النَّعْلَيْنِ فِي التصوف ثار بغرب
الأندلس دَاعيا بدعمه إِلَى الْحق وَسمي أَصْحَابه بالمرابطين فاستتب لَهُ الْأَمر قَلِيلا لشغل لمتونة بِمَا دهمهم من أَمر الْمُوَحِّدين لأوّل اسْتِيلَاء الْمُوَحِّدين على الْمغرب ثمَّ بَادر بِالدُّخُولِ إِلَى دعوتهم وَكَانَ أول دَاعِيَة لَهُم بالأندلس لفقد العصبية الحامية عَن المطالب
قلت وَمن هَذَا الصِّنْف الرجل الْمَعْرُوف بِيُوسُف المدجن الْقَائِم بدعوته أهل ربض البيازين صدر هَذِه الْمِائَة التَّاسِعَة توهما مِنْهُم أَنه يُقيم دَعْوَة حق ويحي رسم الدّين فَقتل لأمد قريب من ظُهُور فتْنَة وَمضى لسبيله وأمثالهم من الغافلين عَن اعْتِبَار العصبية فِي مثل مَا طمع فِيهِ كثير
قَالَ وَمَا إِن كَانَ ملبسا فأحرى أَن لَا يتم لَهُ أَمر وَأَن يبوء بإثمه وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين
الصِّنْف الثَّانِي
القائمون بتغيير الْمُنكر على أُمَرَاء الْجور من الْفُقَهَاء والمتعبدين اغْتِرَارًا بِمن تَبِعَهُمْ من الغوغاء والدهماء فيهلكون فِي سَبِيل ذَلِك مأزورين غير مَأْجُورِينَ لِأَن الْأَمر بِهِ مَشْرُوط بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالْملك الراسخ الْبناء لَا يهدمه إِلَّا الْمُطَالبَة بالعصبية الْغَالِبَة كَمَا سلف
قَالَ فَاعْتبر حَال الْأَنْبِيَاء عليهم السلام فِي الدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى
بالعصائب والعشائر وَلَو شَاءَ الله تَعَالَى ليدهم بالكون كُله لَكِن أجْرى الْأُمُور على مُسْتَقر الْعَادة وَالله عَلَيْهِم حَكِيم هَذَا وَأَن صدقُوا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من ذَلِك فَإِن لبسوا بِهِ فِي طلب الرياسة فأجدر أَن تَنْقَطِع بهم المهالك لِأَنَّهُ أَمر الله لَا يتم إِلَّا بِرِضَاهُ وإعانته وَالْإِخْلَاص لَهُ فِي النَّصِيحَة للْمُسلمين
قَالَ وَأول من ابْتَدَأَ هَذِه النزعة بِبَغْدَاد حِين وَقعت فتْنَة طَاهِر وَقتل الْأمين وَأَبْطَأ الْمَأْمُون بخراسان عَن مقدم الْعرَاق ثمَّ عهد لعَلي بن مُوسَى الرضى من آل الْحُسَيْن فكشف بَنو الْعَبَّاس وَجه النكير
عَلَيْهِ وتداعوا للْقِيَام وخلع طَاعَة الْمَأْمُون وبويع إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فَوَقع الْهَرج بِبَغْدَاد وَانْطَلَقت أَيدي الزعرة بهَا على أهل الْعَافِيَة والصون وَقَطعُوا السبل وامتلأت أَيْديهم من نهب النَّاس وباعوها عَلَانيَة فِي الْأَسْوَاق واستعدى أَهلهَا الْحُكَّام فَلم يعدوهم فتوافر أهل الدّين وَالصَّلَاح على منع الْفُسَّاق وكف عاديتهم وَقَامَ بِبَغْدَاد رجل يعرف بِخَالِد الدريدس ودعا النَّاس إِلَى الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر فَأَجَابَهُ خلق وَقَاتل أهل الدعارة وغلبهم وَأطلق يَده فيهم بِالضَّرْبِ والتنكيل ثمَّ قَامَ من بعده رجل آخر من سَواد أهل بَغْدَاد يعرف بسهل بن سَلامَة الْأنْصَارِيّ ويكنى أَبَا حَاتِم وعلق مُصحفا فِي عُنُقه ودعا إِلَى الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْعَمَل بِكِتَاب الله وَسنة نبيه فاتبعته كَافَّة النَّاس من بَين شرِيف ووضيع من بني هَاشم فَمن دونهم وَنزل قصر طَاهِر وَاتخذ الدِّيوَان وَطَاف بِبَغْدَاد وَمنع كل من أَخَاف الْمَارَّة وَمنع الخفارة لأولئك الشطار وَقَالَ لَهُ خَالِد الدريدس أَنا لَا أعيب على السُّلْطَان وَقَالَ لَهُ سهل لكني أقَاتل كل من خَالف الْكتاب وَالسّنة كَائِنا من كَانَ وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وجهز إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي إِلَيْهِ العساكر فغلبه وأسره وانحل أمره سَرِيعا وَنَجَا بِذَات نَفسه