الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرُّكْن الْخَامِس
تَكْثِير الْعِمَارَة
وَفِيه مقدمتان وَثَلَاثَة مَقَاصِد
الْمُقدمَة الأولى اتّفق الْأَولونَ وَالْآخرُونَ من المتشرعين وعيرهم على اعْتِبَاره فِي مناني الْملك وشروط الِاجْتِمَاع الإنساني
قَالَ ابْن حزم يَأْخُذ السُّلْطَان النَّاس بالعمارة وَكَثْرَة الْغِرَاس ويقطعهم الإقطاعات فِي الأَرْض الْموَات وَيجْعَل لكل أحد ملك مَا عمره ويعنيه على ذَلِك فِيهِ لترخص الأسعار بعيش النَّاس وَالْحَيَوَان ويعظم الْأجر وَيكثر الْأَغْنِيَاء وَمَا تجب فِيهِ الزَّكَاة
قلت وتكرر عَن الْحُكَمَاء الْملك بالجند والجند - بِالْمَالِ وَالْمَال بالعمارة
الْمُقدمَة الثَّانِيَة مُوجب هَذَا الِاعْتِبَار على مَا قرر ابْن خلدون أَن الدولة الْملك للعمران بِمَنْزِلَة الصُّورَة للمادة وَهُوَ الشكل الْحَافِظ لنوعه بِوُجُود وإنفكاك أَحدهمَا عَن الْأُخَر عير مُمكن على مَا تقرر فِي المحكمة فالدولة دون الْعمرَان لَا تتَصَوَّر والعمران دونهَا مُتَعَذر كَمَا تقدم وَحِينَئِذٍ فاحتلال أَحدهمَا مُسْتَلْزم لاختلال الآخر كَمَا أَن عَدمه مُؤثر فِي عَدمه
تَعْرِيف قَالَ والخلل الْعَظِيم إِنَّمَا يكون من هلل الدولة الْكُلية كدولة الْفرس أَو الرّوم أَو الْعَرَب عُمُوما أَو بني أُميَّة أَو بَين الْعَبَّاس كَذَلِك وَأما الشخصية كدولة أنو شرْوَان وهرقل وَعبد الْملك بن مَرْوَان والرشيد فأشخاصها متعاقبة على الْعمرَان حافظة لوُجُود قريبَة الشّبَه بَعْضهَا من
بعض فر تُؤثر كثير اختلال وَالله قَادر على مَا يَشَاء إِ يَشَأْ يذهبكم وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد
الْقَصْد الأول فِي بَيَان وفور المَال على الْجُمْلَة بِكَثْرَة الْعِمَارَة وَبِالْعَكْسِ وَذَلِكَ فِي موضِعين
الْموضع الأول القطار لِأَن تعدد الْأَعْمَال بهَا الَّتِي هِيَ سَبَب الْكسْب مُقْتَض لحُصُول الثروة بِمَا يفضل عَنْهَا بعد الضروريات من الفضلة الزَّائِدَة وينشأ عَن ذَلِك شماخة الْملك بنمو الجباية وَصرف مَا يفضل مِنْهَا إِلَى اتِّخَاذ المعاقل والحصون واختطاط المدن والأقطار
برهَان وجود قَالَ ابْن خلدون وَاعْتبر ذَلِك بأقطار الْمشرق كمصر وَالشَّام وعراق الْعَجم والهند والصين وناحية الشمَال كلهَا وَرَاء الْبَحْر الرُّومِي لما كثر عمرانها كثر مَالهَا وعظمت دولتها وتعددت مدنها وحواضرها
قَالَ فَالَّذِي نشاهد من تجار الْأُمَم النَّصْرَانِيَّة الواردين على الْمُسلمين بالمغرب فِي الرفه واتساع الْأَحْوَال أَكثر من أَن يُحِيط بِهِ الْوَصْف وَكَذَا تجار أهل الْمشرق فِيمَا يبلغ عَنْهُم
قَالَ وأبغ من ذَلِك أهل الْمشرق الْأَقْصَى من عراق الْعَجم والصين فَإِنَّهُ يبلغنَا عَنْهُم فِي بَاب الْغنى والرفه غرائب يسير بهَا الركْبَان وَرُبمَا تتلقى بالإنكار فِي غال لأمر انْتهى المُرَاد مِنْهُ
الْموضع الثَّانِي الْأَمْصَار لذَلِك السَّبَب بِعَيْنِه وَعنهُ ترسخ فِيهَا عوائد الترف فِي التأنق فِي المساكن والملابس وإستجادة الْآنِية والماعون واتخاذ الخدم ولمراكب وكل ذَلِك مستدع لنفاق الْأَعْمَال والصنائع لموجب كسبها لمزيد كَثْرَة المَال ونمو الجباية بِسَبَبِهِ وبحسب تفَاوت
الْأَمْصَار فِي الْعمرَان يظهربون مَا بَين أَهلهَا فِي ذَلِك القَاضِي مَعَ القَاضِي والتاجر مَعَ التَّاجِر والصانع مَعَ الصَّانِع والسوقي مَعَ السوقي والأمير مَعَ الْأَمِير والشرطي مَعَ الشرطي
تَصْدِيق وَاقع قَالَ ابْن خلدون وَاعْتبر ذَلِك فِي الْمغرب هُنَا بِحَال فاس ون غَيرهَا من أَمْصَار هـ فتجد بَينهمَا بونا كثيرا على الْجُمْلَة وَالْخُصُوص فحال القَاضِي بفاس أوسع من حَال القَاضِي بتلمسان وَكَذَا وَكَذَا كل صنف مَعَ صنفه
وَاعْتبر ذَلِك حَتَّى فِي الْفُقَرَاء وَالسُّؤَال فَلَقَد شاهدتهم بفاس يسْأَلُون أَيَّام الْأَضَاحِي أَثمَان ضحاياهم وَكَثِيرًا من أَحْوَال الترف واقتراح المآكل وعلاج طبخها وَلَو سَأَلَ سَائل مثل هَذَا فِي غَيرهَا لعنف وزجر
قَالَ وبلغنا لهَذَا الْعَهْد عَن أَحْوَالهم بِمصْر مَا يقْضِي مِنْهُ الْعجب حَتَّى أَن كثيرا من فُقَرَاء الْمغرب ينزعون إِلَى النقلَة إِلَيْهَا لما يبلغهم من ذَلِك
شَاهد الْعَكْس حَيْثُ بقل الْعِمَارَة فَفِي الْموضع الأول فطر إفريقية وبرقة مثلا قَالَ لما تناقص عمرانها تلاشت أَحْوَال أَهلهَا وانتهوا إِلَى الْفقر والخصاصة وضعفت جبايتها وَقلت أَحْوَال دولها بعد أَن كَانَت دوَل الشِّيعَة وصنهاجة بهَا على مَا بلغك من الرفه وَكَثْرَة الجباية واتساع الْحَال فِي النَّفَقَة وَالعطَاء
قَالَ وقطر الْمغرب وَإِن كَانَ فِي الْقَدِيم دون إفريقية فَلم يكن بِالْقَلِيلِ فِي ذَلِك لَا سِيمَا فِي دوَل الْمُوَحِّدين وَهُوَ لهَذَا الْعَهْد قد أقصر عَن ذَلِك التَّنَاقُض عمرانيا بعد أَن كَانَ مُتَّصِلا من الْبَحْر الرُّومِي إِلَى بِلَاد السودَان فِي طول مَا بَين السوس الْأَقْصَى وبرقة وَهِي الْيَوْم كلهَا أَو أَكثر قفار أَو صحارى إِلَّا مَا هُوَ بِسيف الْبَحْر أَو مَا يُقَارِبه من التلول وَالله وَارِث
الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين وَفِي الْموضع الثَّانِي الْأَمْصَار الصَّغِيرَة الَّتِي لَا تفي أَعمالهَا بضرورتها قَالَ فتجد لذَلِك أَهلهَا ضعفاء الْأَحْوَال متقاربين فِي الْفقر والخاصة إِلَّا فِي النَّادِر إِذْ لَا فضل لَهُم يتأثلون بِهِ كسبا
الْمَقْصد الثَّانِي فِيمَا تحفظ بِهِ الْعِمَارَة وَذَلِكَ الْعدْل الَّذِي قَامَت بِهِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَأُمَّهَات الْوَصِيَّة بِهِ أَمْرَانِ
أَحدهمَا مُطلق الْعِمَارَة قَالُوا لَا جباية إِلَّا بعمارة وَلَا عمَارَة إِلَّا بِعدْل وَفِي السياسة بِالْعَدْلِ عمرت الأَرْض وَقَامَت الممالك الثَّانِي المزارعون يُقَال أَحْسنُوا إِلَى المزارعين فأنكم لم تزالوا سمانا مَا سمنوا
تَنْبِيه قَالَ ابْن خلدون أقوى الْأَسْبَاب فِي الاعتمار تقليل مِقْدَار الْوَظَائِف على المعتمرين مَا أمكن فبذلك تنشط النُّفُوس إِلَيْهِ ليقينها بادراك الْمَنْفَعَة فِيهِ وَالله مَالك الْأُمُور
تَمْثِيل فِي العهود اليونانية مَا حَاصِلَة أَنه منا لَا يحسن من مَالك دَار أَن يكون كَسبه من بيع أنقاضها كَذَلِك لَا يحسن من الْملك أَن يكون اكتسابه من تخريب بلدانه وَأخذ مَا ل رعينه ونصله قَول أبي مَنْصُور الثعالبي أَن الْملك إِذا كثرت أَمْوَاله بِمَا يَأْخُذ من رَعيته كَانَ كمن يعمر سطح بَيته بِمَا يقتلع من قَوَاعِد بُنْيَانه
الْمَقْصد الثَّالِث فِيمَا يخل بِحِفْظ الْعِمَارَة وَهُوَ الظُّلم الْمُؤَذّن بخرابها وَفِيه مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى فِي حِكَايَة الموبذان فِي ذَلِك واعظا بهَا من خرج عَن
سنَن الْعدْل من مُلُوك الْفرس إِذْ كَانَ صَاحب الدّين عِنْدهم يضْرب بِهِ الْمثل فيذلك على لِسَان البوم حِين سمع الْملك أصواتها وَسَأَلَهُ عَن فهم كَلَامهَا فَقَالَ أَن بوما ذكرا يروم نِكَاح بوم أُنْثَى وَأَنَّهَا شرطت عَلَيْهِ عشْرين قَرْيَة من الخراب فِي أَيَّامه لتنوح فِيهَا فَقبل شَرطهَا وَقَالَ لَهَا إِن دَامَت أَيَّام الْملك أقطعتك ألف فِرْيَة وَهَذَا أسهل مرام
فتنبيه الْملك من فقلته وهلا بالموذبان وَسَأَلَهُ عَن مُرَاده فَقَالَ لَهُ أَيهَا الْملك إِن الْملك لَا يتم عزه إِلَّا بالشريعة وَالْقِيَام لله بِطَاعَتِهِ وَالتَّصَرُّف تَحت أمره وَنَهْيه وَلَا قوام للشريعة إِلَّا بِالْملكِ وَلَا عز للْملك إِلَّا بِالرِّجَالِ وَلَا قوام للرِّجَال إِلَّا بِالْمَالِ وَلَا سَبِيل إِلَى المَال إِلَّا بالعمارة وَلَا سَبِيل للعمارة إِلَّا بِالْعَدْلِ وَالْعدْل الْمِيزَان الْمَنْصُوب بَين الخليقة نَصبه الرب وَجعل لَهُ قيمًا وَهُوَ الْملك
وَأَنَّك أَيهَا الْملك عَمَدت إِلَى الضّيَاع فانتزعتها من أَرْبَابهَا وعمارها وهم أَرْبَاب الْخراج وَمن تُؤْخَذ مِنْهُم الْأَمْوَال وأقطعتها الْحَاشِيَة والخدم وأرباب البطالة فتركوا الْعِمَارَة وَالنَّظَر فِي العواقب وَمَا يصلح الضّيَاع وسومحوا فِي الْخراج لقربهم من الْملك وَوَقع الحبف على من بَقِي من أَرْبَاب الْخراج وعمار الضّيَاع فانجلوا عَن ضياعهم وخلوا دِيَارهمْ وآووا إِلَى مَا بعد أَو تعذر من الضّيَاع فسكنوها فَقلت الْعِمَارَة وهربت الضّيَاع وَقلت الْأَمْوَال وَهَلَكت الْجنُود والرعية وطمع فِي ملك فَارس الضّيَاع وَقلت الْأَمْوَال وَهَلَكت الْجنُود والرعية وطمع فِي ملك فَارس من جاورهم من الْمُلُوك لعلمهم بِانْقِطَاع الْموَاد الَّتِي لَا يَسْتَقِيم دعائم الْملك إِلَّا بهَا
فَلَمَّا سمع الْملك ذَلِك أقبل على النّظر فِي ملكه وانتزعت الضّيَاع من أَيدي الْخَاصَّة وَردت إِلَى أَرْبَابهَا وَحملهَا على رسومهم السالفة وَأخذُوا بالعمارة وقوى من ضعف مِنْهُم فعمرت الأَرْض وأخصبت الْبِلَاد وَكَثُرت الموال عِنْد جباة الْخراج وقويت الْجنُود وَقطعت مواد الْأَعْدَاء
وأشحنت الثغور وَأَقْبل على مُبَاشرَة أمره بِنَفسِهِ فحسنت أَيَّامه وانتظم ملكه
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي وَجه افضاء الظُّلم لخراب الْعمرَان وَبَيَانه أَن وفوره إِنَّمَا هُوَ بالعمال العائدة بِفضل المكاسب النافقة الْأَسْوَاق والعدوان على النَّاس فِي أَمْوَالهم ذَاهِب بِأَمْوَالِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَعْمَال لمصير كستها بأيدي المنتهبين لَهُ وَعند ذَلِك يَقْعُدُونَ عَن المعاش وتنقبض أَيْديهم عَن المكاسب فتكسد أسواق الْعمرَان ويخف سَاكن قطره فِرَارًا عَنهُ لتَحْصِيل الوزق فِي غير أيالته فتخرب أمصاره وتقفر دياره وتختل بإخلاله الدولة وَالسُّلْطَان لما تقدم أه صورته فَيفْسد لفساد مادتها ضَرُورَة
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي أَن ذَلِك هُوَ الْحِكْمَة الْمَقْصُودَة للشارع فِي تَحْرِيم الظُّلم لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ من انْقِطَاع النَّوْع البشري وَهُوَ الْحِكْمَة الْعَامَّة والمراعاة لَهُ فِي جَمِيع مقاصده الضرورية على مَا سبق من همستها الْمُتَّفق على حفظهَا فِي الشَّرَائِع وَهِي الدّين النَّفس وَالْعقل والنسل وَالْمَال وَالْعرض على رَأْي وَلذَلِك كَانَ تَحْرِيمه أَي الظُّلم مهما وأدلته فِي الْكتاب والسنه لَا تخْتَص بِزَمَان
قَالَ ابْن خلدون وَلَو قدر عَلَيْهِ كل أحد لوضع بازائه من الْعقُوبَة الزاجرة مَا وضع بازاء غَيره من المفسدات للنوع الْقَادِر علنها كل أحد كَالزِّنَا وَالْقَتْل وَالسكر لَكِن لما لم يقدر عَلَيْهِ إِلَّا من لَا يقدر على غَيره من ذَوي قدرَة أَو سُلْطَان بولغ فِي ذمَّة بتكرير الْوَعيد عَسى أَن يكون الْوَازِع فِيهِ للقادر عَلَيْهِ من نَفسه
لَا يُقَال قد وضعت الْعقُوبَة بازاء الْحِرَابَة وَهِي من ظلم الْقَادِر إِذْ الْمُحَارب فِي زَمَاننَا قَادر لأَنا نقُول الْعقُوبَة الْمَوْضُوعَة هِيَ بأزاء مَا يقترفه من جِنَايَته فِي نفس أَو مَال على مَا ذهب إِلَيْهِ كثير وَلم تكن إِلَّا بعد الْقُدْرَة عَلَيْهِ والمطالبة بِجِنَايَتِهِ وَنَفس الْحِرَابَة خلو من الْعقُوبَة وَأَيْضًا لَا نسلم وصف الْمُحَارب بِالْقُدْرَةِ لن الْمَعْنى بقدرة الظَّالِم الْيَد المبسوطة الَّتِي لَا نعارض وَهِي المؤذنة بالخراب وقدرة الْمُحَارب غايتها إخافة يتوسل بهَا إِلَى أَخذ المَال والمدافعة عَنْهَا بيد الْكل مَوْجُود شرعا وسياسة فَلَيْسَتْ من الْقُدْرَة المؤذنة بالخراب
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة فِي أَن نقص الْعمرَان لَا لظلم إِنَّمَا يَقع بالتدريج وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد يُوجد بالأمصار الْعَظِيمَة من أهل دولها وَلَا يَقع فِيهَا خراب وَسَببه من قبل الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين حَال الْمصر لعظمه واستبحار عمرانه لَا يظْهر فِيهِ من شُؤْم الظُّلم كَبِير أثر وَإِنَّمَا يظْهر بالتدريج بعد حِين وَقد تذْهب تِلْكَ الدولة الظالمة قبل خرابه وَيَجِيء غَيرهَا يجْبر مَا خفى من النَّقْص فَلَا يكَاد يشْعر بِهِ إِلَّا أَن ذَلِك نَادِر لِأَن حُصُوله فِي الْعمرَان عَن الاعتداء لابد مِنْهُ لما تقدم ووباله عَائِد على الدولة الله غَالب على أمره
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة فِي المُرَاد بالظلم الْمُؤَذّن بالخراب وَذَلِكَ أَنه لَا يَعْنِي بِهِ أَخذ المَال أَو الْملك من غير عوض وَلَا سَبَب فَقَط على مَا هُوَ الْمَشْهُور لِأَنَّهُ أعلم من ذَلِك فَكل من أَخذ ملك أحد أَو غصبه فِي عمله أَو طَالبه بِغَيْر حَتَّى أَو فرض عَلَيْهِ مَا لم يفرضه الشَّارِع فقد ظلمه
قَالَ ابْن خلدون فجباة الْأَمْوَال بِغَيْر حَقّهَا ظلمَة والممعتدون علنها
ظلمه والمنتهبون لَهَا ظلمَة والمانعون لحقوق النَّاس ظلمَة وغصاب الْملاك على الْعُمُوم ظلمَة ووبال ذَلِك عَائِد الدولة بخراب الْعمرَان الَّذِي هُوَ مادتها لذهاب الْأَمْوَال من أَهله
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فِي تَقْسِيم هَذَا الظُّلم وَهُوَ أَولا على ضبين
الضَّرْب الأول مَا يَقع عِنْد خراب دفْعَة وانتقاض الدولة سَرِيعا وَهُوَ أَخذ أَمْوَال النَّاس مجَّانا والعدوان عَلَيْهِم فِي الْحرم والدماء والإبشار والإعراض لما ينشأ عَن ذَلِك من الْهَرج المفضي لذَلِك قلت فِي سياسة أرسطو لم يكن سَبَب خراب ملك هُنَا نيج إِلَّا أَن همتهم شفت على جباياهم فامتدوا إِلَى أَمْوَال النَّاس فَقَامَتْ الْجَمَاعَة عَلَيْهِم فَكَانَ فِي ذَلِك فَسَاد ملكهم
قَالَ هَذَا أَمر لَازم لِأَن المَال عِلّة الْبَقَاء للنَّفس الحيوانية فَهُوَ جُزْء مِنْهَا وَلَا بَقَاء للنَّفس بِفساد الْجُزْء انْتهى
الضَّرْب الثَّانِي مَا يَقع الخراب بالتدريج كَمَا سلف وَمن مراتبه الْوَاقِعَة ثَلَاث
أَحدهَا ذرائعه المتوسل بهَا إِلَى أَخذ المَال كالوظائف الْبَاطِلَة والمكوس الْمُحرمَة وَهِي أدنى ظلما وعدوانا
الثَّانِيَة وَهِي من أَشد أَنْوَاعه العائدة بِفساد الْعمرَان تَكْلِيف الْعمَّال وتسخير الرعايا بهَا لِأَنَّهَا من قبيل التمولات الَّتِي بهَا المعاش فَإِذا كلفوا عملا فيغير شَأْنهمْ وَاتَّخذُوا سخريا فبغير معاشهم أبطل كسبهم واغتصبوا
قيمَة عَمَلهم وَذهب معاشهم بِالْجُمْلَةِ وَأَن تكَرر عَلَيْهِم أفسد آمالهم فِي الْعِمَارَة وقعدوا عَن السَّعْي فِيهَا جملَة فتأدى إِلَى خرابها لامحالة
الثَّالِثَة وَهِي أعظم من ذَلِك فِيمَا ذكر التسلط على النَّاس فِي شِرَاء مَا بِأَيْدِيهِم بأبخس ثمن ثمَّ فَرْضه عَلَيْهِم بأرفع قيمَة وَرُبمَا كَانَ الْفَرْض على التَّرَاخِي فيتعللون فبالخسارة بِمَا يطْمع فِيهِ من جبرها بحوالة السواق فيطالبون بِالْقيمَةِ مُعجلَة فيضطرون إِلَى البيع بأبخس الثّمن وَيعود خسارة مَا بَين الصفتين على رُؤُوس أَمْوَالهم تَعْمِيم فَسَاد قَالَ ابْن خلدون وَقد يعم ذَلِك تجار الْمَدِينَة وَمن يرد علنها من لآفاق وَسَائِر السوقة وَأهل الصَّنَائِع فتشمل الخسارة جَمِيع الطَّبَقَات وتجحف برؤوس أمولهم فيقعدون عَن السواق ويتناقل ذَلِك الواردون فَيقطع ترددهم وَعند ذَلِك يَقع الكساد وَيبْطل المعاش وتنقص الجباية وتفسد ويؤول إِلَى تلاشي الدولة وَفَسَاد عمرَان الْمَدِينَة
الْمَسْأَلَة السَّابِعَة فِي أَن نِيَّة الظُّلم كَافِيَة فِي نقص بَرَكَات الْعِمَارَة فَعَن وهب بن مُنَبّه إِذا هم الْوَلِيّ بِالْعَدْلِ أَدخل الله البركات فِي أهل مَمْلَكَته حَتَّى فِي الْأَسْوَاق والأرزاق وَإِذا هم بالجور أَدخل الله النَّقْص فِي مَمْلَكَته حَتَّى فِي الْأَسْوَاق والأرزاق
حكايات فِي تَصْدِيق ذَلِك وقوعا
الْحِكَايَة الأولى قَالَ الطرطوشي من الْمَشْهُور فِي الْمغرب أَن السُّلْطَان بلغَة أَن امْرَأَة لَهَا حديقة فِيهَا الْقصب الحلو وَأَن قَصَبَة مِنْهَا تعصر قدحا فعزم على أَخذهَا مِنْهَا ثمَّ أَتَاهَا وسألها عَن ذَلِك فَقَالَت نعم ثمَّ أَنَّهَا عصرت قَصَبَة فَلم يبلغ نصف الْقدح فَقَالَ لَهَا أَيْن الَّذِي كَانَ يُقَال فَقَالَت هُوَ الَّذِي بلغك إِلَّا أَن يكون السُّلْطَان عزم على أَخذهَا مني فارتفعت
بركتها فَتَابَ السُّلْطَان وأخلص لله نِيَّته أَن لَا يَأْخُذهَا أبدا فعصرت قَصَبَة فَجَاءَت ملْء قدح
قلت قَالَ ابْن رضوَان وَقد حكى مُحَمَّد بن عبد الْملك الْهَمدَانِي أَن واعظا دخل على أبي الْفَتْح ملك شاه بن البارسلان فوعظه بِمثل هَذِه الْحِكَايَة مَنْسُوبا إِلَى أحد الأكاسرة وَالله اعْلَم بِحَقِيقَة ذَلِك