الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقَاعِدَة الثَّامِنَة
الْعَفو
وَفِيه مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى عد الطرطوشي هَذَا الْوَصْف لموقعه من خِصَال الْكَمَال قَاعِدَة جمال السُّلْطَان وعمدة رتبته وَجعله الْغَزالِيّ من الْوَظَائِف الَّتِي بالمحافظة عَلَيْهَا يَدُوم اسْتِحْقَاق الْملك والإمامة وَمثل ذَلِك مشهود بِهِ الْغَيْر وَاحِد لظُهُوره فِي تَأَكد الْعِنَايَة فقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء حسن الظفر يقبح الإنتقام وَخير مَنَاقِب الْمُلُوك الْعَفو
وَقَالَ لَا شَيْء أقوى للْملك من الْعَفو فَإِن الْملك وثقت مِنْهُ رَعيته بِحسن الْعَفو لم يرجفها الذَّنب وَإِن أعظم وَإِذا خشيت مِنْهُ الْعقُوبَة أرجفها الذَّنب وَإِن صغر ذَلِك إِلَى الْمعْصِيَة
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة حَقِيقَته إِسْقَاط حق ثَابت مَعَ الْقُدْرَة على الإنتقام قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فَكل من ترك مَا وَجب لَهُ فَهُوَ عاف وَإِذا كثر ذَلِك مِنْهُ فَهُوَ عَفْو على
قَالَ الْغَزالِيّ وَهُوَ غير الْحلم وكظم الغيظ
قلت لِأَنَّهُ ثَمَرَتهَا والأثمار غير المثمر لَا محَالة
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من فضيلته الجامعة بَين خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَوَائِد
الْفَائِدَة الأولى تحقق الْمَدْح لَهُ من الله مَقْرُونا بالأعلام بمحبة من اتّصف بِهِ لأجل الْإِحْسَان الَّذِي أثنى بِهِ
قلت وعَلى ذَلِك السَّبِيل فالعفو أفضل مِنْهُ وَهِي
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة كَمَا صرح بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهو خير للصابرين}
قَالَ الطرطوشي وَهُوَ نَص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل
قلت وَيظْهر ذَلِك مُنْضَمًّا بِاعْتِبَار
الْمقَام الأول بِحَسب مَا يعم السُّلْطَان وَغَيره وَذَلِكَ من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن الْعَافِي أجره على الله تَعَالَى والمنتصر قد استوفى حَقه قَالَ الله تَعَالَى {فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله} قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ قَوْله فَأَجره على الله كلمة لَا يوازيها شَيْء لِأَن الَّذِي للْعَبد عهد الله وَمن الله وَبِاللَّهِ خير لَهُ مِمَّا يَأْخُذهُ بِنَفسِهِ ويفعله بِاخْتِيَارِهِ
الثَّانِي أَن المتخلق بِالْعَفو مقتد بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وسلك على نهج الإنباع لَهُ وَكفى بِهِ أُسْوَة
قَالَت عَائِشَة رضي الله عنها مَا رَأَيْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم منتصرا من مظْلمَة ظلمها قطّ غير أَنه إِذا أنتهك شَيْء من محارم الله تَعَالَى فَلَا يقوم لغضبه شَيْء صلى الله عليه وسلم
الْمقَام الثَّانِي من جِهَة مَا يخص السُّلْطَان من حَيْثُ الْفَائِدَة المحتملة وَذَلِكَ أَيْضا من وَجْهَيْن
أَحدهمَا استخلاص قُلُوب ذَوي الْجِنَايَة لَهُ وإيناس نُفُوسهم من وَحْشَة الْعِصْيَان وَلَا يخفى مَا فِي ذَلِك من السياسة العائدة على الدولة بالنفع الْعَظِيم
قَالَ الْمَأْمُون لَيْسَ على فِي الْحلم مُؤنَة ولوددت أَن أهل الجرائم علمُوا مذهبي فِي الْعَفو فَيذْهب الْخَوْف عَنْهُم فتخلص لي قُلُوبهم
الثَّانِي رفع الهمة بِهِ عَن تعاظم الذُّنُوب وَفِي ذَلِك من تبجيل الْملك وإجلاله مَالا يسع عدم الإنبعاث إِلَيْهِ
قَالَ رضي الله عنه أَنِّي لَا رفع نَفسِي أَن يكون ذَنْب أعظم من عفوي وَجَهل أَكثر من حلمي وعورة لَا يواريها ميزري
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة يصير الإنتقام مَطْلُوبا فِي موضِعين
الْموضع الأول حَيْثُ يكون عَجزا ومهانة نفس وَذَلِكَ هُوَ الذل الَّذِي تأنف مِنْهُ ذَوُو الهمم الْعلية وَقد قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} كَانُوا يكْرهُونَ أَن يذلوا فَإِذا قدرُوا عفوا فمدحوا على الْعَفو بعد قدرَة لَا على عَفْو بعد ذل ومهانة
قَالَ ابْن قيم الجوزية وَهَذَا هُوَ الْكَمَال الَّذِي مدح الله بِهِ نَفسه فِي قَوْله تَعَالَى وَكَانَ الله عفوا قَدِيرًا وَالله غَفُور رَحِيم
الْموضع الثَّانِي حَيْثُ يَتَرَتَّب على الْعَفو مفْسدَة تربي على مصلحَة شرعا أَو سياسة معتبره وَمن أمثلته عِقَاب من استخف بالسلطان كَمَا يرْوى أَن رجلا جَاءَ إِلَى أبي بكر الصّديق رضي الله عنه فَقَالَ احملني وَالله لانا أَفرس مِنْك وَمن أَبِيك وَعِنْده الْمُغيرَة بن شعة فحسر عَن ذراعه وصك بِهِ أنف الرجل فَسَالَ الدَّم فجَاء قومه إِلَى أبي بكر الصّديق رضي الله عنه ولاموه فَقَالُوا أقدنا من الْمُغيرَة فَقَالَ أَنا أقيدكم من وزعة الله أَنا لَا أقيدكم مِنْهُ قَالَ ابْن قيم الجوزية فَرَأى أَبُو بكر رضي الله عنه أَن ذَلِك انتصار من الْمُغيرَة لله وَلِرَسُولِهِ وللعز الَّذِي وعد الله الْمُؤمنِينَ
الْمَسْأَلَة السَّابِعَة من النَّاس من يعْتَمد فِي الإنتقام على نصْرَة الله تَعَالَى لَهُ
وَيظْهر ذَلِك بِمَا قَرَّرَهُ الشَّيْخ تَاج الدّين رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ فِي لطائف المنن من عرف الله تَعَالَى يَأْبَى الإنتصار لنَفسِهِ إِذْ الْعَارِف لَا يشْهد فعلا لغير معروفه وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} وَقَالَ {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} قَالَ وَكَانَ ذَلِك لَهُم لأَنهم جَعَلُوهُ تَعَالَى مَكَان همومهم فَدفع عَنْهُم الأغيار وَقَامَ لَهُم بِوُجُوب الإنتصار انْتهى مُلَخصا
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة من الحكم فِي هَذَا الْبَاب مَا قرن شَيْء إِلَى شَيْء أفضل من حلم إِلَى علم وَمن عَفْو إِلَى مقدرَة
أحب الْأَشْيَاء إِلَى الله تَعَالَى أَرْبَعَة الْقَصْد عِنْد الْجدّة وَالْعَفو عِنْد الْمقدرَة والحلم عِنْد الْغَضَب والرفق بعباد الله
لَا سؤدد مَعَ انتقام وَلَا رياسة مَعَ عزازة نفس لَيْسَ الإفراط فِي شَيْء أَجود مِنْهُ فِي الْعَفو وَلَا هُوَ فِي شَيْء أقبح مِنْهُ فِي الْعقُوبَة الْعَفو يفْسد من الخسيس بِقدر مَا يصلح من الرفيع
إِذا عَفا الْملك الْبعيد الهمة أنف من الإعتذار
الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من الْمَنْقُول فِي أَخْبَار ذَوي الْعَفو وخصوصا عِنْد استعطافهم بِمَا يرغبهم فِيهِ حكايتان
الْحِكَايَة الأولى قَالَ الْمُبَارك بن فضَالة وفدت على أبي جَعْفَر الْمَنْصُور فَلبث عِنْده إِذْ أَتَى بِرَجُل فَأمر بقتْله
فَقلت يقتل رجل من الْمُسلمين وَأَنا حَاضر فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَلا أحَدثك بِحَدِيث سمعته من الْحسن قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ سمعته يَقُول إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة جمع الله النَّاس فِي صَعِيد وَاحِد حَيْثُ يسمعهم الدَّاعِي وَينْفذهُمْ الْبَصَر فَيقوم مُنَاد وَيَقُول من لَهُ عِنْد الله تبارك وتعالى يَد فَليقمْ فَلَا يقوم إِلَّا من عَفا فَقَالَ وَالله لسمعته من الْحسن فَقلت لَهُ وَالله لسمعته مِنْهُ فَقَالَ خلوا عَنهُ
الْحِكَايَة الثَّانِيَة قيل أَتَى عبد الْملك بن مَرْوَان بِأسَارَى ابْن الْأَشْعَث الْقَائِم عَلَيْهِ وَقَالَ لرجاء بن حَيْوَة مَا ترى قَالَ أَن الله تَعَالَى قد أَعْطَاك مَا تحب من الظفر بعدوك فأعظ الله مَا يحب من الْعَفو فَعَفَا عَنْهُم