الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من كتاب حَازِم عَالم ثِقَة مأمول بَصِير بِالصِّفَاتِ نَافِذ فِي الفراسة عَالم بالفروسية لِئَلَّا يدْخل على الْجند دَاخِلَة فِي أعطياتهم فتفسد لذَلِك ضمائرهم وَمَتى اطَّلَعت على شَيْء من ذَلِك فَاطْرَحْهُ عَنْهُم واجمعهم لذَلِك فخيرا لَهُم أَنَّك إِنَّمَا اطَّلَعت على دَاخِلَة لَهُم تَضُرهُمْ لم تَرضهَا لَهُم فيهم وَيجب أَن يكون سمح الْخلق لين الْجَانِب سهل اللِّقَاء لَا يغيب وَلَا يشْتَغل بِغَيْر خدمَة أَحْوَالهم وتعهد أُمُورهم وحسم عللهم
الرُّكْن الرَّابِع
حفظ المَال
وَهُوَ من أعظم مباني الْملك وقواعد أُصُوله فقد قَالَ المَال حصن السُّلْطَان ومادة الْملك وتكرار معنى قَوْلهم لَا مَال إِلَّا بجند وَلَا جند إِلَّا بِالْمَالِ إِذا عرفت هَذَا فَالْكَلَام فِيهِ يَدُور على قطبين
القطب الأول مَا هُوَ النّظر فِيهِ من حَيْثُ طبيعة الْملك
وَفِيه مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى فِي سَبَب كَثْرَة المَال
وحاصلة أُمُور
أَحدهَا وَهُوَ أَصْلهَا الْعَام كَثْرَة الْعمرَان الْمَحْفُوظ برعاية الْعدْل فقد قَالُوا
المَال بالخراج وَالْخَرَاج بالعمارة والعمارة بِالْعَدْلِ وَسَيَأْتِي وَجهه إِن شَاءَ الله
الثَّانِي وَهُوَ خَاص بِأول الدولة أَن جبايتها حِينَئِذٍ قَليلَة الوزائع كَثِيرَة الْجُمْلَة وَآخِرهَا بِالْعَكْسِ على مَا يذكر بعد إِن شَاءَ الله فالدينية
لضيقها عَن اتساع الوزائع والمتغلبة لبداوة أَولهَا تَتَجَافَى عَن الْأَمْوَال فتقل وزائعها كَذَلِك وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فتنبسط الْأَمْوَال فَبِي الْأَعْمَال الَّتِي بهَا كَثْرَة الْعمرَان الْمُفِيد لوفور مَال الجباية
الثَّالِث وَهُوَ أَيْضا خَاص بالدولة القوية الأَصْل لِأَنَّهَا لتِلْك الْقُوَّة يجْتَمع لَهَا من المَال مَا هُوَ بنسبتها وَشَاهد ذَلِك أَثَره فِي الْعَطاء والاستعداد لَهُ وَهَؤُلَاء البرامكة كَانُوا إِذا أكسبوا معدما إِنَّمَا هُوَ الْملك وَالْولَايَة وَالنعْمَة آخر الدَّهْر لإعطاء الَّذِي يَسْتَفِيد يَوْم أَو بعض يَوْم وَهَذَا جَوْهَر الْكَاتِب قَائِد جيوش بني عبيد لما ارتحل إِلَى فتح مصر استعد من القيروان بِأَلف حمل من المَال
قَالَ ابْن خلدون وَلَا تَنْتَهِي الْيَوْم دولة لمثل هَذَا
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي سَبَب نَقصه بعد الْكَثْرَة
وحاصلة الْعُدُول عَن الْعدْل الَّذِي بِهِ كَثْرَة المَال ونماؤه وتلخيص بَسطه بِذكر آفَات مِنْهُ طبيعية تَكْفِي الْوَاحِدَة مِنْهَا فِي ذَلِك وَأولى إِذا اجْتمعت
الآفة الأولى تَكْثِير الْوَظَائِف عِنْد ذهَاب بداوة الدولة لتعاقب مددها فِي ترف الْملك والعضوض واستحالة خلقهَا الساذج إِلَى الحضارة الحاملة على التَّوَسُّع فِي مَا وَرَاء الضروريات وَلَا تزَال مزيدا فِيهَا مِقْدَارًا بعد آخر لتدرج الدولة فِي عوائد الترف وَكَثْرَة الْإِنْفَاق بِسَبَبِهِ حَتَّى تثقل على الرّعية وتفرط فِي الْخُرُوج عَن الِاحْتِمَال فتذهب غبطتها فِي الاعتمار لعدم فَائِدَته إِذا قوبل مَا بَين نفعة ومغارمه وَبَين ثَمَرَته وَفَائِدَته وتنقبض أَيدي الْكثير عَنهُ فتنقص الجباية لَا محَالة
سوء تَدْبِير قَالَ ابْن خلدون وَرُبمَا يزِيدُونَ فِي مِقْدَار الْوَظَائِف إِذْ رَأَوْا ذَلِك النَّقْص ظنا مِنْهُم أَنه جبر لَهُم حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى غَايَة لَا نفع وَرَاءَهَا لِكَثْرَة الْإِنْفَاق حِينَئِذٍ فِي الاعتمار وَكَثْرَة المغارم وَعدم وَفَاء الْفَائِدَة الْمَوْجُودَة بِهِ فَلَا تزَال الجباية فِي نقص وَمِقْدَار الْوَظَائِف فِي زِيَادَة إِلَى أَن ينتقص الْعمرَان بذهاب الْأَمْوَال فِي الاعتمار وَيعود وبال ذَلِك على الدولة لِأَن فَائِدَته إِلَيْهَا ترجع
الآفة الثَّانِيَة ضرب المكوس أَوَاخِر الدول وموجبه فِي الْأَكْثَر بعد تَضْعِيف الْوَظَائِف لما تقدم سَببه أُمُور أَرْبَعَة
أَحدهمَا كَثْرَة نَفَقَة السُّلْطَان فِي خاصته لانغماسه فِي نعيم الترف وعوائد الحضارة
الثَّانِي كَثْرَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي عَطاء الْجند أَو إِقَامَة أَرْبَاب الْوَاجِبَات وَسَائِر من ينزل بِهِ من عوارض الْملك وعوائد الدولة
الثَّالِث كَثْرَة نَفَقَة أَرْبَاب الدولة لأخذهم بِمَا أَخذ السُّلْطَان فِي ذَلِك وسلوكهم على نهج مَا تقدمهم من المترفين
الرّبع ضعف الحامية عَن جباية الْأَمْوَال من الْأَعْمَال القاصية لما أدْرك الدولة من الْهَرم فتقل الجباية بِمَجْمُوع ذَلِك وعَلى أَعْيَان السّلع فِي أَبْوَاب الْمَدِينَة
تَعْرِيف قَالَ ابْن خلدون وَرُبمَا يزِيد ذَلِك فِي أَوَاخِر الدول زِيَادَة بَالِغَة فتكسد الْأَسْوَاق بِفساد الْأَمْوَال وتؤذن باختلال الْعمرَان وَلَا تزَال تتزايد إِلَى أَن تضمحل الدولة
قَالَ وَقد كَانَ وَقع مِنْهُ بأمصار الْمشرق فِي أخريات الدولة العباسية
والعبيدية كثير وفرضت المغارم حَتَّى على الْحَاج فِي الْمَوْسِم وَأسْقط صَلَاح الدّين بن أَيُّوب ذَلِك كُله وأعضه بآثار الْخَيْر
وَوَقع بالأندلس لعهد الطوائف حَتَّى محا رسمه يُوسُف بن تاشفين وبأمصار الجريد بإفريقية لهَذَا الْعَهْد حِين استبد بهَا رؤساؤها وَالله لطيف بعباده
الآفة الثَّالِثَة تِجَارَة السُّلْطَان وَهِي من أعظم الْآفَات الْمضرَّة بالرعية الْمفْسدَة للجباية وَالْحَامِل عَلَيْهَا مَا تقدم من مُوجب نقص الجباية عَن الْوَفَاء بخارجها فَيقدم على استحداثها باكتساب الْحَيَوَان والنبات لاستغلاله وَشِرَاء البضائع المترصدة بهَا حِوَالَة الْأَسْوَاق ظنا مِنْهُم أَن بذلك يجْبر نقص الجباية وتستجلب الْفَوَائِد الْكَثِيرَة
قَالَ ابْن خلدون وَهنا غلظ عَظِيم وَإِدْخَال الضَّرَر على الرعايا من وُجُوه مُتعَدِّدَة
قلت وَمُلَخَّص مَا ذكر من ذَلِك أُمُور
أَحدهَا مضايقة الفلاحين والتجار فِي شِرَاء الْحَيَوَان والبضائع إِذْ لَا يكَاد وَاجِد مِنْهُم يحصل على غَرَض من ذَلِك مَعَ مرافقة السُّلْطَان لَهُ إِذْ مَاله أعظم بِكَثِير وَيدخل عَلَيْهِ من الْغم مَا يضعف بِهِ أمله فِي الِاكْتِسَاب
الثَّانِي إِن السُّلْطَان قد ينْزع الْكثير من ذَلِك إِذا مَا تعرض لَهُ غصبا أَو بأيسر ثمن لفقد من ينافسه فيخس ثمنه على بَائِعه
الثَّالِث أَن مَا يحصل لَهُ من مستغلات الفلاحة وبضائع التِّجَارَة لَا ينْتَظر بِهِ حِوَالَة الْأَسْوَاق لما تَدعُوهُ إِلَيْهِ تكاليف الدولة فيكلف التِّجَارَة والفلاحين شِرَاءَهُ بأرفع قيمَة ويستخلص بِهِ مَا عِنْدهم من الناض فَيبقى بِأَيْدِيهِم عرُوضا خامدة وسلعا بائرة
الرَّابِع أَنهم وَالْحَالة هَذِه رُبمَا تدعوهم الضَّرُورَة فيبيعون تِلْكَ السّلع بأبخس ثمن لكساد سوقها وَرُبمَا يتَكَرَّر ذَلِك على التَّاجِر أَو الْفَلاح مِنْهُم حَتَّى يذهب رَأس مَاله ووبال المضايقة بِهِ عَائِد على الجباية بِالنَّقْصِ وَالْفساد فَإِن معظمها إِنَّمَا هُوَ من التاجرين والفلاحين لَا سِيمَا بعد وضع المكوس ونموها بالعوائد فَإِذا انقبض الْفَلاح عَن الفلاحة وَقعد التَّاجِر عَن التِّجَارَة دخلت الجباية جملَة أَو دَخلهَا النَّقْص المتفاحش
مقاسة قَالَ ابْن خلدون فَإِذا قايس السُّلْطَان بَين مَا يحصل لَهُ من الجباية وَبَين هَذِه الأرباح القليلة وجدهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أقل من الْقَلِيل
قلت وَالْعجب بعد ذَلِك من الْغَفْلَة عَن مُوجب الْعَمَل بِهِ
الْخَامِسَة أَنه على تَقْدِير حُصُول الْفَائِدَة بِالتِّجَارَة فَيذْهب بهَا حَظّ عَظِيم من الجباية من جِهَة مَا يفوت من عِنْد المغرم عِنْدَمَا يكون غير السُّلْطَان هُوَ الَّذِي يعاني البيع وَالشِّرَاء
تَحْصِيل
لَا خَفَاء عِنْد ثبات هَذِه الْأُمُور أَن تِجَارَة السُّلْطَان تُؤدِّي إِلَى ضَرَر الرّعية وَفَسَاد الجباية وَأَنَّهَا تؤول بآخرة إِلَى خراب الْعمرَان ونفاذ الدولة
وَمن ثمَّ ورد النَّهْي عَنْهَا مُصَرحًا فِيهِ بإفضائها إِلَى هَذَا الْمَحْذُور فَمن عمر بن عبد الْعَزِيز رضي الله عنه أَنه كتب لبَعض عماله أَن تِجَارَة الْوُلَاة لَهُم مفْسدَة وللرعية مهلكة فامنع نَفسك وَمن قبلك عَن ذَلِك
وَمن الْمُبَالغَة فِي ذَلِك أَمْرَانِ
أَحدهمَا اسْتِحْقَاق اللَّعْنَة وَهُوَ أعظم مَا يكون من الْوَعيد
الثَّانِي الْإِنْذَار بِوُقُوع الْفساد بَين يَدي السَّاعَة وَهُوَ دَلِيل على عظم الْمُخَالفَة من حَيْثُ هُوَ وَاقع فِي أشر زمَان فَعَن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ من أَشْرَاط السَّاعَة تِجَارَة السُّلْطَان
مضاعفة فَسَاد
قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد انْتهى الْحَال بالمنتحلين للتِّجَارَة والفلاحة من الْأُمَرَاء والمتغلبين أَنهم يعرضون لشراء الغلات والسلع من الواردين بهَا ويبيعونها فِي الْوَقْت لمن تَحت أَيْديهم من الرّعية بِمَا يفرضونه من الثّمن وَهَذِه أَشد من الأولى وَأقرب إِلَى الْفساد
تحذير قَالَ وَرُبمَا يحمل السُّلْطَان على ذَلِك من يداخله من التُّجَّار والفلاحين ليضْرب مَعَه بِسَهْم لنَفسِهِ فَيحصل على غَرَضه من جمع المَال سَرِيعا إِذْ التِّجَارَة بِلَا مغرم تسرع بنمو المَال وتثمره وَلَا يلْتَفت مَعَ ذَلِك إِلَى مَا يدْخل على السُّلْطَان من تَقْصِير الجباية
قَالَ فَيَنْبَغِي للسُّلْطَان أَن يحذر من هَؤُلَاءِ ويعرض عَن سعايتهم الْمضرَّة لجبايته وسلطانه
قلت لَا سِيمَا أَن ترفع عَن ذَلِك أَنَفَة من مُشَاركَة الرّعية فِي مهنة معالجة مَالا خطر لَهُ
حِكَايَة فِي ذَلِك ذكر الرشاطي أَن بعض وكلاء بن حَاتِم أَتَاهُ يَوْمًا فَقَالَ أعز الله الْأَمِير أَعْطَيْت بالْقَوْل الَّذِي زرعناه بفحص القيروان من المَال كَذَا وَكَذَا وَذكر مَالا كثيرا فَسكت عَنهُ ثمَّ أَمر ثمَّ أَمر قهرمانة وطباخه أَن يخرجَا إِلَى ذَلِك الْموضع وَأمر فراشيه أَن يضْربُوا الأخبية ويفرشوها ونادى فِي أَصْحَابه وَخرج وَنزل فِيهِ وَجلسَ كل قوم على مَرَاتِبهمْ وَجلسَ مَعَه خاصته ثمَّ دَعَا ذَلِك بالوكيل فَأمر بأدبه وَقَالَ يَا ابْن اللخنا أردْت أَن أعير بِالْبَصْرَةِ وَيُقَال يزِيد بن حَاتِم باقلاني أمثلي يَبِيع الفول لَا أم لَك ثمَّ نَادَى فِي أهل القيروان أَن بِالْخرُوجِ إِلَيْهِ بعده وأباحه لَهُم فَخرج النَّاس إِلَيْهِ من كل أَوب بَين آكل وشارب وناظر حَتَّى أَتَوا على جمعية مُوَافقَة حق
قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد كَانَ الْفرس لَا يملكُونَ عَلَيْهِم إِلَّا من أهل بَيت
المملكة ثمَّ يختارونه من أهل الدّين وَالْفضل وَالْأَدب والشجاعة وَالْكَرم ثمَّ يشترطون عَلَيْهِ مَعَ ذَلِك الْعدْل وَألا يتَّخذ ضَيْعَة فبضر بجيرانه وَلَا يتجر فيحب غلاء الأسعار فِي البضائع وَلَا يستخدم العبيد فأنهم لَا يَسِيرُونَ بِخَير وَلَا مصلحَة
قلت وَبِذَلِك عمل خلفاء الْملَّة الإسلامية فقد روى عَن عمر رضي الله عنه كَانَ يكْتب إِلَى عماله بِمَنْعه وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز رضي الله عنه أَنه كَانَت لَهُ سفينة يحمل فِيهَا الطَّعَام وَهُوَ أَمِير الْمَدِينَة فيبيعه فِيهَا فنهان مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَقَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَيّمَا وَال تجر فِي رَعيته فقد هَلَكت رَعيته قَالَ فَأمر بذلك الطَّعَام فَتصدق بِهِ وفككها وَتصدق بخشبها
الآفة الرَّابِعَة نقص عَطاء السُّلْطَان وَوجه إخلاله بِمَال الجباية أَمر أَن
أَحدهمَا أَن الدولة هِيَ السُّوق الْعظم للْعَالم والمادة الْمُتَّصِلَة لعمرانه فَإِذا احتجن السُّلْطَان المَال أَو فَقده قل مَا بيد الحامية وَانْقطع مأمنهم لإتباعهم فَقلت نفقاتهم الَّتِي هِيَ أكبر مَادَّة الْأَسْوَاق إذهم مُعظم السوَاد وَذَلِكَ مُوجب للكساد وَضعف أرباح المتاجر فتقل الجبايه لضعف مادتها وَيرجع وبال ذَلِك على الدولة من حَيْثُ قصد حسن النّظر لَهَا
الثَّانِي أَن المَال مُتَرَدّد بَين الرّعية وَالسُّلْطَان وَهُوَ حِكْمَة إيجاده مِنْهُم إِلَيْهِ وَمِنْه إِلَيْهِم فَإِذا حَسبه السُّلْطَان فقدته الرّعية سنة الله فِي عباده
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي الْوَقْت الَّذِي تعظم فِيهِ ثروة السُّلْطَان وحاشية وَذَلِكَ فِي وسط الدولة لَا فِي مبدأ ظُهُورهَا وَلَا عِنْدَمَا يُدْرِكهَا الْهَرم فهما إِذا حالتان
الْحَالة الأولى حُصُول الثروة فِي وسط الدولة وَسَببه أَن صَاحبهَا حِينَئِذٍ تستفحل طبيعة ملكه ويستبد على قومه فَيقبض أَيْديهم عَن الجبايات إِلَّا مَا يصير لَهُم فِي جملَة النَّاس لقلَّة عنائهم إِذْ ذَلِك واستوائهم فبالدولة مَعَ الموَالِي والصنائع فينفرد بالجباية أَو معظمها ويحتجبها للمهمات فتكثر ثروته ويتسع نطاق جاهه ويعتز على سَائِر قومه فيعظم حَال حَاشِيَته من وزراء وحجاب وَكتاب وموالي ويتسع حَالهم ويقتنون الْأَمْوَال ويتأثلونها
الْحَالة الثَّانِيَة فَقده فِي مبدأ الدولة وعندما يُدْرِكهَا الْهَرم أما فِي الأولى فلوجهين
أَحدهمَا أَن الجباية حِينَئِذٍ توزع على الْقَبَائِل وَذَوي العصبية بِمِقْدَار غنائهم وعصبيتهم
الثَّانِي إِن رئيسهم لأجل الْحَاجة إِلَيْهِم فِي تمهيد الدولة يتجافى لَهُم عَمَّن يسمون إِلَيْهِ من الجباية فَلَا يصير لَهُ مِنْهَا إِلَّا الْأَقَل من حَاجته فحاشيته لذَلِك من وَزِير وَكَاتب وَمولى ومملقون غَالِبا وجاههم استمداده من جَاءَ مخدومهم المضائق بِمن يزاحمه فِيهِ ضَعِيف وَأما فِي الثَّانِي فلوجهين أَيْضا
أَحدهمَا احْتِيَاج صَاحب الْأَمر إِذْ ذَاك إِلَى الأعوان وَالْأَنْصَار لِكَثْرَة الخارجين عَلَيْهِ من ثَائِر ومنازع فَيصْرف مُعظم الجباية عَلَيْهِم على قلتهَا فِي ذَلِك الْوَقْت كَمَا تقدم فيتقلص ظلّ النِّعْمَة عَن الْخَواص وَمن يليهم ويقل جاههم لضيق نطاقه عَن صَاحب الدولة
الثَّانِي انْتِزَاعه عِنْد شدَّة احْتِيَاجه إِلَى المَال مَا يبد أَبنَاء البطانة والحاشية إِذْ يرى أَنه أولى بِهِ فيقتضيه مِنْهُم لنَفسِهِ شَيْئا فَشَيْئًا وواحدا بعد الْوَاحِد فيتلاشى مَا ورثوه من ذَلِك وتختل مباني الدولة بِفنَاء حاشيتها وَذَوي الثروة من بطانتها
اعْتِبَار قَالَ ابْن خلدون وَانْظُر مَا وَقع من ذَلِك لوزراء الدولة العباسية فِي بني قَحْطَبَةَ وَبني برمك وَبني سهل وَبني طَاهِر وأمثالهم فِي الدولة الأموية بالأندلس فِي بني شَهِيد وَبني أبي عُبَيْدَة وَبني حدير وَبني برد وأمثالهم
قَالَ كَذَا فِي أول الدول الَّتِي أدركناها لعهدنا سِتَّة الله الَّتِي قد خلت فِي عباده وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا
القطب الثَّانِي مَا هُوَ نظر من وجهة التَّصَرُّف فِيهِ على النهج الْمُعْتَبر شرعا وسياسة وَقبل ذَلِك فَمِنْهَا مقدمتان
الْمُقدمَة الأولى فِي مداخلة الشَّرْعِيَّة ونعني بهَا مَالا يتَعَيَّن مصرفه فِي جِهَة وَهِي أَصْنَاف
أَولهَا أَمْوَال التركات حَيْثُ لَا يَسْتَحِقهَا وَارِث معِين
ثَانِيهَا الْجِزْيَة المعنوية والصلحية
ثَالِثهَا خراج الأَرْض كَمَا فعل عمر رضي الله عنه بسواد الْعرَاق
رَابِعهَا أَخْمَاس الْغَنَائِم دون زَائِد عَلَيْهَا
خَامِسهَا عشر مَا يقدم بِهِ تجار المعاهدين وَأهل الذِّمَّة على شَرطه
سادسها الموال الضائعة وَهِي الَّتِي لَا مَالك لَهَا
سابعها خمس الرِّكَاز الْمُسلم لواجده أَرْبَعَة أَخْمَاس
ثامنها مَا انجلى عَنهُ الْكفَّار دون قتال
تاسعها أَمْوَال المستغرقي الذِّمَّة من الْوُلَاة وَغَيرهم
الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِي مدَاخِل السياسة وَالْمُعْتَبر مهنها شرعا على مَا قَرَّرَهُ الْغَزالِيّ وَابْن الْعَرَبِيّ مَا وظف على الْأَمْوَال للضَّرُورَة الداعية إِلَيْهِ عِنْد خلو
بَيت المَال من الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي إِقَامَة الْمصَالح الَّتِي فِي اختلالها خراب النظام
قَالَ الْغَزالِيّ وَإِنَّمَا لم ينْقل ذَلِك عَن الْأَوَّلين لاتساع بَيت المَال فِي زمانهم
قَالَ وَهُوَ مِمَّا يعلم من مَقْصُود الشَّرْع قبل النّظر فِي الشواهد
قَالَ الشَّيْخ الْأَمَام أَبُو إِسْحَاق الشاطبي وَشرط ذَلِك عِنْدهم عَدَالَة الإِمَام وإيقاع التَّصَرُّف فِي أَخذ المَال وإعطائه على الْوَجْه الْمَشْرُوع
قلت قد تمّ أَن تعذر عَدَالَة الإِمَام فِي أصل ولايتها يسْقط اعْتِبَارهَا وَكَذَا فِي هَذَا الْموضع وَإِلَّا لزم مَالا يخفى من مضاعفة الْمَحْذُور وَالْغَزالِيّ ممهد فِيمَن يشْهد بِاعْتِبَار ذَلِك كَمَا سبق النَّقْل عَنهُ
تركيب إِذا تقرر هَذَا فَمِنْهَا مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى فِي وُجُوه مصارفه الْكُلية وَهِي جملَة
أَحدهمَا المرتزقة من الْجند لما سبق أَنه لَا جند إِلَّا بِمَال فحقهم فِيهِ لابد مِنْهُ إِذْ هُوَ قوامهم
الثَّانِي الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ لأَنهم حراس الدّين بِالدَّلِيلِ والبرهان كَمَا أَن الْجَيْش حراسه بِالسَّيْفِ والسنان
قَالَ فِي الْأَحْيَاء وَيدخل مَعَهم المؤدبون وَطلب الْعلم الْمُتَعَلّق بمصالح الدّين لأَنهم إِن لم يكفوا لم يتمكنوا من الطّلب
الثَّالِث محاويج الْخلق الَّذين قصرت بهم الضَّرُورَة عَن اكْتِسَاب قدر الْكِفَايَة
الرَّابِع سَائِر الْمصَالح الْعَامَّة كأرزاق الْوُلَاة والقضاة والعمال والحساب وسد الثغور وَبِنَاء القناطر والمساجد والمدارس وَسَائِر الْمصَالح وَمَا فِي معنى ذَلِك
فَائِدَة فِي تَنْبِيه المصاريف الْمعينَة الْجِهَة شرعا قد يدْخل بَعْضهَا على بعض على وَجه اسْتِيفَاء حق من فحش فِي جِهَة على مَا قَرَّرَهُ الشَّيْخ عز الدّين فِي أَخذ الْفُضَلَاء من الْجِزْيَة من غير تورع برعاية خلاف من عينهَا الْجند قَائِلا فِي تَوْجِيهه أَن الْجند قد أكلُوا من أَمْوَال الْمصَالح الْمُسْتَحقَّة للْعُلَمَاء وَغَيرهم مِمَّن يجب تَقْدِيم أَكْثَرهَا فَيُؤْخَذ من الْجِزْيَة مَا يكون قصاصا بِبَعْض مَا أَخَذُوهُ وأكلوه فَيصير كَمَسْأَلَة الظفر انْتهى
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي تعديد مَا يعْطى مِنْهُ أما أَرْبَاب الْوَاجِبَات فبقدر الْكِفَايَة الَّتِي يسْتَغْنى بهَا عَن التمَاس مَا يَنْقَطِع بِهِ عَن الْمصلحَة الَّتِي يقوم بهَا فَيعْتَبر من الْجند
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ من ثَلَاثَة أوجه عدد مَا يعوله من ذُرِّيَّة ومملوك وَمَا يرتبطه من الْخَيل وَالظّهْر والموضع الَّذِي يجلبه فِي الغلاء والرخص
قلت وَفِي غَيره بِنِسْبَة حَاله وَأَن من لَا مُرَتّب لَهُ فبقدر مَا يسد خلته أَو بِمَا فَوق ذَلِك بِحَسب الوسع وَالْحَال وَحَيْثُ يكون هُنَاكَ فضل
وَقد قَالَ الْمَاوَرْدِيّ ينظر فِي إصْلَاح القناطر وتسهيل الطّرق وَقطع ثغراتها المخوفة وبنيان مَا تأمن بِهِ الْمَارَّة بهَا
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي التبذير فِيهِ والتقتير وَكِلَاهُمَا مذمومان فالتبذير لإتلافه قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تبذر تبذيرا إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين} والتقتير لتَقْصِيره عَن الْوَاجِب وَصِحَّة الْإِنْصَاف بمصدره الَّذِي هُوَ الْبُخْل
قَالَ أرسطو الْبُخْل بالجبلة اسْم لَا يَلِيق بالملوك وَلَا يقْتَرن بالمملكة وَحسن التَّدْبِير فِي ذَلِك وسط بَينهمَا وَإِن كَانَ الْعدْل ضيقا لما يرْوى رضي الله عنه سَأَلَ رجلا عَن عَطاء زِيَاد قَالَ يُعْطي حَتَّى يُقَال جواد وَيمْنَع حَتَّى يُقَال بخيل فَقَالَ إِن الْعدْل لضيق
المسالة الرَّابِعَة فِي اعْتِبَار خرجه بدخله قَالَ فِي العهود اليونانية وَاعْلَم أَن حَاصِل المملكة إِذا كَانَ بازاء مؤونتها كَانَت السَّفِينَة فِي وسط الْبَحْر الَّتِي قد أحكم أمرهَا على هدوئه وَلم يُؤمن عَلَيْهَا الْغَرق فِي اهتياجه وَإِذا كَانَ حاصلها دون مَا يلْزم لَهَا حملت قَومهَا على قبح المماطلة وقسوة المحاجزة وَعدلت بهم عَن تَدْبِير أمرهَا إِلَى الْمُطَالبَة بالعاجل مِنْهَا وأخطرت بدمائهم وَأَمْوَالهمْ فِيهَا وَكَانَ مَا يجْرِي فِيهَا من سَعْيهمْ مُفْسِدا لأمرها فِي مُسْتَقْبل الْأَزْمِنَة وَهُوَ أقبح مَا يعرض فِي المهالك وَإِذا كَانَ حاصلها أَكثر فَمَا يلْزم لَهَا فَهُوَ أوضح صلاحا من أَن يحْتَاج إِلَى تَمْثِيل أَو تعديد لواحق
تَمْثِيل قَالَ وَقد كَانَ شبه مَا كَانَ حَاصله أَكثر مِمَّا يلْزم لَهُ بأجساد الْأَحْدَاث الَّتِي تُوجد بالنمو زَائِدَة على مَا كَانَت عَلَيْهِ وَمَا كَانَ حَاصله مكافئا لما يلْزم لَهُ بأجساد الكهول الَّتِي ارْتَفع مِنْهَا النمو وقارب صُورَة الانحلال فِيهَا وَمَا كَانَ حَاصله مقصرا عَمَّا يلْزمه بأجساد من هرم من الْمَشَايِخ فَإِن الانحلال مستول عَلَيْهَا والتماسك بعيد مِنْهَا
قلت هم معنى قَول أفلاطون الدولة تشب وتكتهل وتخرف فَإِن كَانَ عائدها أَكثر مِمَّا يسْتَحقّهُ الْملك وَأَتْبَاعه فَهِيَ شَابة تنذر بطول الْبَقَاء وَإِذا كَانَ عائدها بِمِقْدَار مَا تحْتَاج إِلَيْهِ كَانَت مكتهلة وَإِذا كَانَ عائدها أقل مِمَّا تحْتَاج إِلَيْهِ فَهِيَ خرفة مولية
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة فِي رِعَايَة الْمصلحَة فِيمَا يصرف إِلَيْهِ وتمثيل ذَلِك فِيهَا أَيْضا
وَاعْلَم أَن إِنْفَاق الْأَمْوَال يحي موَات مَا انصرفت إِلَيْهِ ويعظم صغيره فَإِن كَانَ فِي عَائِد المملكة كَانَ كَالْمَاءِ المنصب إِلَى الْأَشْجَار المثمرة والمزارع الزاكية الَّتِي يخصب بمصلحتها الزَّمَان وتمرع الْبِلَاد وَإِن كَانَ فِي غير عائدها انبتت مَا يضر نَبَاته وَلَا ينفع ريعه وبسوقه فَكُن فِيهِ كالطيب الحاذق الَّذِي يضع الدَّوَاء حَيْثُ يكون الدَّاء يحسن فِيهِ أثرك ويطل بِهِ استمتاعك انْتهى