الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النّظر الثَّانِي
فِي التغافل
وَفِيه مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الجاحظ من أَخْلَاق الْملك أَن التغافل عَمَّا لَا يقْدَح فِي ملك وَلَا يضع من عز وَيزِيد ذَلِك فِي أبهته وَعَلِيهِ كَانَت سيرة آل ساسان وَغَيرهم
وَقَالَت الْعَرَب الشّرف التغافل
قَالَ
(لَيْسَ الغبي بِسَيِّد فِي قومه
…
لَكِن سيد قومه المتغابي) قلت وَأَنت لَا تَجِد أحدا يتغافل عَن مَاله إِذا خرج وَعَن مبايعته إِذا غبن وَعَن التقاضي إِذا بخس إِلَّا وجدت فِي قَلْبك لَهُ فَضِيلَة وجلالة لَا تقدر على دَفعهَا وَفِي نَحوه قَالَ مُعَاوِيَة رضي الله عنه إِنِّي لأجر ذيلي على الخداع انْتهى
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة يجب على ذِي الفطنة الزَّائِدَة الْأَخْذ بِهَذَا الْخلق لما تقدم بالدهاء المفرط حَتَّى يحصل بِهِ الرِّفْق الْمَأْمُور بِهِ
قَالَ ابْن خلدون قل مَا تكون ملكة الرِّفْق فِي المتيقظ الشَّديد الْكيس وَأكْثر مَا تُوجد فِي الغفل والمتغفل وَأَقل مَا فِي اليقظ أَنه يُكَلف الرّعية فَوق طاقتهم لنفوذ نظره فِيمَا وَرَاء مداركهم واطلاعه على عواقب الْأُمُور فِي مباديها فيهلكون لذَلِك قَالَ صلى الله عليه وسلم سِيرُوا بسير ضعفائكم
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف
عظموا أقداركم بالتغافل
مَا استقصى كريم قطّ حَقه ألم تسمع قَوْله تَعَالَى {عرف بعضه وَأعْرض عَن بعض}
قَالَ
(تغافل فِي الْأُمُور وَلَا تكْثر
…
تقصيها فالاستقصاء فرقة)
(وسامح فِي حقوقك بعض شَيْء
…
فَمَا استوفى كريم قطّ حَقه)
إِن من السخاء وَالْكَرم ترك التجني وَترك الْبَحْث عَن بَاطِن الغيوب والإمساك عَن ذكر الْعُيُوب كَمَا أَن من تَمام الْفَضَائِل الصفح عَن التوبيخ وإكرام الْكَرِيم والبشر فِي اللِّقَاء ورد التَّحِيَّة والتغافل عَن خطأ الْجَاهِل
من شدد نفر وَمن ترَاخى تألف
وأنشدوا فِي التغافل
(وَمن لايغمض عَيْنَيْهِ عَن صديقه
…
وَعَن بعض مَا فِيهِ يمت وَهُوَ عَاتب)
(أغمض عَيْني عَن صديقي تغافلا
…
كَأَنِّي بِمَا يَأْتِي من الْأَمر جَاهِل)
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من الْمَنْقُول فِي تغافل الْمُلُوك على كثرته حكايتان
الْحِكَايَة الأولى قيل لما ظفر أَبُو الْفَتْح ملك شاه السلجوقي بِعَمِّهِ الْخَارِج عَلَيْهِ وَأَخذه بعث إِلَيْهِ بخريطة مَمْلُوءَة من كتب أمرائه مضمنها أَنهم حملوه على الْخُرُوج عَن طَاعَته وحسنوا لَهُ ذَلِك فدعى الْملك وزيره
نظام الْملك وَأَعْطَاهُ خريطة ليفتحها وَيقْرَأ مَا فِيهَا فَلم يفتحها وَكَانَ هُنَاكَ كانون نَار فَرمى الخريطة فِيهِ فاحترقت الْكتب فسكنت قُلُوب العساكر وأمنوا ووطنوا أنفسهم على الْخدمَة بعد أَن كَانُوا قد خَافُوا من الخريطة لِأَن أَكْثَرهم كَانَ قد كَاتبه وَكَانَ ذَلِك سَبَب ثبات دولة ملك شاه فِي السلطنة وَكَانَت هَذِه مَعْدُومَة من جميل آراء نظام الْملك
الْحِكَايَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن رضوَان من حسن التغافل مَا أخبرنَا بِهِ شَيخنَا القَاضِي أَبُو البركات بن الْحَاج قَالَ حكى لنا بعض الشُّيُوخ بفاس أَن عبد الْمُؤمن بن عَليّ وجد عَليّ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد صَالح رضي الله عنه لما بلغه أَنه تكلم فِي الْمهْدي فَقَالَ لَهُ مَاذَا تَقول فِي الْمهْدي فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد أَفِي الله شكّ فَقَالَ لَهُ عبد الْمُؤمن هُوَ المظنون بك أَيهَا الشَّيْخ جَزَاك الله خيرا انْصَرف يَرْحَمك الله فَلَمَّا خلا عبد الْمُؤمن بخاصته قَالَ أتظنون أَن الشَّيْخ احتال عَليّ فِي كَلَامه وروى عني بل عرفت وَالله وَجه كَلَامه غير أَنِّي إِن كشفت القناع مَعَه صَعب الْأَمر من جِهَة الْمهْدي وَرجل من أَوْلِيَاء الله فغطيت الْقَضِيَّة وَلم أَزْد على صرفه