الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقَاعِدَة السَّادِسَة
الْحلم
وَفِيه مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى لَا مرية فِي فَضِيلَة هَذَا الْوَصْف بِمَا يتجمل بِهِ من الْفَوَائِد وَهِي جملَة
الْفَائِدَة الأولى محبَّة الله وَرَسُوله فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ للأشبح إِن فِيك خَصْلَتَيْنِ يحبهما الله وَرَسُوله الْحلم والأناة
الْفَائِدَة الثَّانِيَة شَهَادَته بعلو الهمة فَعَن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه أَنه سَأَلَ بعض كبراء فَارس عَن أَحْمد سير مُلُوكهمْ فَقَالَ لازدشير فضل السَّبق غير أَن أحمدهم سيرة أنو شرْوَان وَله خلق غَيرهَا فَقَالَ وَأي أخلاقه كَانَ أغلب عَلَيْهِ قَالَ الْحلم والإناءة فَقَالَ عَليّ رضي الله عنه هَذَا توأمان ينتجها علو الهمة
الْفَائِدَة الثَّالِثَة اسْتِحْقَاق السِّيَادَة بِهِ قَالَ أَكْثَم بن صَيْفِي من حلم سَاد وَمن تفهم ازْدَادَ وَكفر النعم لؤم ومحبة الْجَاهِل شُؤْم ولقاء الإخوان غنم وَمن الْفساد أضاعه الزَّاد
الْفَائِدَة الرَّابِعَة كفاءة الحماية بِهِ عَن مضرَّة الْغَيْر قَالَ الْأَحْنَف وجدت الْحلم أنْصر لي من الرِّجَال قَالَ الطرطوشي وَصدق فقد روى أَن رجلا أسْرع فِي ذمّ بعض الْآدَمِيّين وَهُوَ سَاكِت فحمى لَهُ بعض المارين
وَقَالَ لَهُ يَرْحَمك الله أَلا ننتصر لَك قَالَ لَا قَالَ وَلم قَالَ لِأَنِّي وجدت الْحلم أنْصر لي وَهل حميتني إِلَّا بحملي
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَحَق النَّاس بِهَذِهِ الْفَضِيلَة وأحوجهم إِلَى الإتصاف بهَا السُّلْطَان وَيدل على ذَلِك مُنْضَمًّا لما تقدم أَمْرَانِ
أَحدهمَا انتصابه لإِقَامَة آود الْخلق ومعاناة الصَّبْر على مَا يصدر مِنْهُم فِي الإرتفاع إِلَيْهِ وصدورهم بالتشاجر حرجة وأخلاقهم بمضايقة الْخُصُوم منحرفة
قَالَ الطرطوشي فَإِن لم يكن مَعَه حلم يرد بِهِ بوادرهم وَإِلَّا وَقع تَحت حمل ثقيل
الثَّانِي إِدْرَاكه بِهِ كَمَال الْعِزّ وإسداء الْمِنَّة لَا كَمَا يتَوَهَّم أَنه من عجز الْمقدرَة وَضعف الْمِنَّة
كَمَا قيل
(لن يدْرك الْمجد أَقوام وَإِن شرفوا
…
حَتَّى يداولوا وَأَن عزوا لأقوام)
(ويصفحوا عَن كثير من إساءتهم
…
لأصفح ذل وَلَكِن صفح أَحْلَام)
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من تَمام الْحلم قبُول المعاذير الصادقة أَو الكاذبة لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا وُرُود الْأَمر بذلك مَقْرُونا بالوعيد على التّرْك فَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ عفوا عَن نسَاء النَّاس
تعف نِسَاؤُكُمْ وبروا آبَاءَكُم يبر بكم أبناؤكم وَمن أَتَاهُ أخوة مُتَّصِلا أَي معتذرا فليقبل ذَلِك محقا كَانَ أَو مُبْطلًا فَإِن لم يفعل لم يرد على الْحَوْض رَوَاهُ الْحَاكِم
الثَّانِي تردده بَين النَّدَم وَالْحيَاء وَالْأول تَوْبَة تصير المعتذر عَنهُ كَأَنَّهُ لم يكن وَلذَلِك قيل الإعتراف يهدم الاقتراف وَالثَّانِي أَيْمَان وَكفى بِهِ شَفِيعًا وَمن ثمَّ قيل نعم الشَّفِيع الإعتذار عِنْد أهل الْحلم والاقتدار
قلت لَا سِيمَا لوحظ فِيهِ دلَالَة قبُوله على حريَّة النَّفس وكرم الطبيعة كَمَا قَالَ
(إِذا اعتذر الْمُسِيء إِلَيْك يَوْمًا
…
من التَّقْصِير عذر فَتى مقرّ)
(فصنه عَن عقابك واعف عَنهُ
…
فَإِن الصفح شِيمَة كل حر)
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة إِذا أدّى هَذَا الْقبُول إِلَى الصفح فِيمَا لَا يسمع الأغضاء عَنهُ سقط اعْتِبَاره
قَالَ الْحُكَمَاء اقبل الْعذر وَإِن كَانَ مصنوعا إِلَّا أَن يكون مِمَّا أوجبت الْمُرُوءَة قِطْعَة أَو يكون فِي قبُوله تشجيعه على الْمَكْرُوه أَو عونه على الشَّرّ فَإِن قبُول الْعذر فِيهِ إشراف فِي الْمُنكر
قلت وَكَذَا حَيْثُ لَا يكون هُنَاكَ عذر وَالْجِنَايَة مُسْتَحقَّة الْجَزَاء
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة الإتصاف بالحلم الممدوح لَا يتَوَقَّف على قمع الْغَضَب بِالْكُلِّيَّةِ لِأَن ذَلِك غير مَطْلُوب وَإِنَّمَا يتَوَقَّف كَمَاله على انقياد الْغَضَب لِلْعَقْلِ
حَيْثُ يُشِير رده إِلَى الإعتدال الَّذِي هُوَ وسط بَين طرفِي الإفراط والتفريط كَمَا تقدم وَإِذ ذَاك فتحقق الإتصاف بِهِ على الْوَجْه الْمَحْمُود وَمن هُنَاكَ قيل من لَا يغْضب فَلَيْسَ بحليم لِأَن الْحلم لَا يعرف إِلَّا عِنْد الْغَضَب
قَالَ الطرطوشي وَقد أنْشد النَّابِغَة الْجَعْدِي بِمحضر النَّبِي صلى الله عليه وسلم
(وَلَا خير فِي حلم إِذا لم تكن لَهُ
…
بَوَادِر تَحْمِي صَفوه أَن يكدرا)
(وَلَا خير فِي جهل إِذا لم يكن لَهُ
…
حَلِيم إِذا مَا أورد الْأَمر أصْدرَا)
فَلم يُنكر صلى الله عليه وسلم قَوْله قَالَ وَكَانَ ابْن عمر رضي الله عنه إِذا سَافر استتبع سَفِيها وَيَقُول سندفع بِهِ شَرّ السُّفَهَاء
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف
لَيْسَ الْخَيْر أَن يكثر مَالك وولدك وَلَكِن الْخَيْر أَن يعظم حلمك وَيكثر علمك
لَيْسَ الْحَلِيم من ظلم فحلم حَتَّى إِذا قدر اقْتصّ إِنَّمَا الْحَلِيم من إِذا قدر عَفا الْحلم ترك المكافآت قولا وفعلا
الْحلم حجاب الْآفَات وَأَن حلم سَاعَة ليرد سبعين آفَة
الْحلم يزِيل تعدِي الْحر وَيَردهُ إِلَى أحسن مُرَاجعَة وَلَا يزِيل الْوَعْد إِلَّا الإخافة الْحلم لَا ينْسب إِلَّا لمن قدر على السطوة
الْحلم همته عَفوه ووقاره
الْمُلُوك تعاقب قدرَة وَتَعْفُو حلما
يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم) وَقَوله تَعَالَى {فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف بِمَا كَانُوا يصنعون} وَمن ثمَّ قَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين من لم يشْكر النعم فقد تعرض لزوالها وَمن شكرها فقد قيدها بعقالها قَالَ ابْن عَبَّاس اجْتمعت حكماء الْعَرَب والعجم على قَوْلهم الشُّكْر قيد الْمَوْجُود وصيد الْمَفْقُود
الْفَائِدَة الثَّانِيَة أَن حُصُولهَا الْمَزِيد مُعَلّق على الْوَفَاء بِهِ لقَوْله تَعَالَى {لَئِن شكرتم لأزيدنكم}
وَقَوله تَعَالَى {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا}
قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ وَالسَّيِّد الْكَرِيم إِذا رأى العَبْد قد قَامَ بِحَق نعْمَته بِمن عَلَيْهِ بِأُخْرَى وَيَرَاهُ أهلالها وَإِلَّا فَيقطع عَنهُ ذَلِك
قلت وَحَيْثُ لَا يحصل الْمَزِيد فالشكر غير حَاصِل وَهُوَ عِنْد ابْن الْعَرَبِيّ أقوى مَا قيل فِي ذَلِك على احْتِمَال تَقْيِيده بِالْمَشِيئَةِ أَو بِعَدَمِ الْمعْصِيَة وَلَا يتَّفق لمن حظى بِهِ أَو تَخْصِيصه بِقوم دون قوم آخَرين
قَالَ وَبَعضه أقوى من بعض
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ حَقِيقَة الشُّكْر تصريف النِّعْمَة فِي الطَّاعَة فَإِذا أنعم على عَبده بِنِعْمَة فصرفها فِي طَاعَته فقد شكرها وَإِن صرفهَا فِي مَعْصِيّة فقد كفرها
من غرس الْحلم شَجرا أَو سقَاهُ الإناءة دررا أجتنى الْعِزّ مِنْهُ ثمرا وَأثبت فِي المكارم أثرا أحلم النَّاس من قدر على الْكَلَام وَهُوَ كثير صمته وَقدر على الْعقُوبَة وَهُوَ كثير عَفوه وَقدر على الْحَرَكَة وَهُوَ كثير وقاره
الْمَسْأَلَة السَّابِعَة الحكايات عَن الْحُكَمَاء مُتعَدِّدَة وَيَكْفِي مِمَّا استدعاه بليغ الإعتذار وَحسن الإعتطاف حكايتان
الْحِكَايَة الأولى يرْوى أَن الْمَأْمُون عتب يَوْمًا على عَمه إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ولى الثأر مُحكم فِي الْقصاص وَالْعَفو أقرب للتقوى وَمن تنَاوله الاغبرار مَعَ مأموله من أَسبَاب الرَّجَاء أَمن من عَادِية الدَّهْر وَقد جعلك الله فَوق كل ذِي لب كَمَا جعل كل ذِي لب دُونك فَأن تَأْخُذ فبحقك وَإِن تعف فبفضلك وَأَنْشَأَ يَقُول
(ذَنبي إِلَيْك عَظِيم
…
وَأَنت أعظم مِنْهُ)
(فَخذ بحقك أَو لَا
…
وأصفح بِفَضْلِك عَنهُ)
(إِن لم أكن بفاعلي
…
من الْكِرَام فكنه)
وَأطَال مَجْلِسه بِكُل إعتذار حسن وَكَلَام بليغ فَقَالَ الْمَأْمُون الْقُدْرَة بِذَهَب الحفيظة والندم تَوْبَة يَا إِبْرَاهِيم لقد حببت إِلَى الْعَفو حَتَّى خفت أَن لَا أوجر عَلَيْهِ لَا تَثْرِيب عَلَيْك يغْفر الله لَك وجدد إحسانه إِلَيْهِ
الْحِكَايَة الثَّانِيَة قيل بعث زِيَاد إِلَى مُعَاوِيَة رجلا من بني تَمِيم فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ أَنْت الْقَائِم علينا المكثر لعدونا قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا كَانَت فتْنَة عَم عماها واظلم دجاها نزا فِيهَا الوضيع وخف الْحَلِيم والرفيع فاحتدت وأكلت وشربت