الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقَاعِدَة الْخَامِسَة
السخاء والجود
وفيهَا منهجان الأول فِي بَيَان هَذَا الْوَصْف وَالْآخر فِي تَقْرِير نقيضه وَهُوَ الْبُخْل
الْمنْهَج الأول
وَفِيه مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الطرطوشي هَذِه الْخصْلَة هِيَ الْجَلِيل قدرهَا الْعَظِيم خطرها هِيَ إِحْدَى قَوَاعِد المملكة وأساسها وتاجها وجمالها تعنوا بهَا الْوُجُوه وتذل لَهَا الرّقاب وتخضع لَهَا الْجَبَابِرَة وتسترق بهَا الْأَحْرَار وتستمال بهَا الْأَعْدَاء ويستكثر بهَا الثَّنَاء وَيملك بهَا الْقُرَبَاء والبعداء وَهِي بالعزائم الْوَاجِبَات أشبه مِنْهَا بالجمال والمحبوبات
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مِمَّا يدل على فَضله وَجْهَان
أَحدهمَا قرب المتخلق بِهِ من سَعَادَة الدّين وَالدُّنْيَا فَعَن أَبى هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ السخي قريب من الله قريب من الْجنَّة بعيد من النَّار والبخيل بعيد من الله بعيد من الْجنَّة قريب من النَّار وجاهل سخي أحب إِلَى الله من عَالم بخيل رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
الثَّانِي دلَالَة كَثْرَة المتصفين بِهِ على إِرَادَة الْخَيْر بالعباد فَعَن الْحسن رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أَرَادَ الله بِقوم خيرا ولى أَمرهم الْحُكَمَاء وَجعل المَال عِنْد الأسخياء وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم
شرا أولى أَمرهم السُّفَهَاء وَجعل المَال عِنْد البخلاء رَوَاهُ أَبُو دَاوُود فِي مراسليه
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة إِذا كَانَ من قَوَاعِد الْملك وعزائم واجباته مَعَ شَهَادَة الشَّرْع لَهُ بالفضيلة فالسلطان بالتخلق بِهِ أولى وبشرف الانتساب إِلَيْهِ أَحْرَى
قَالَ الطرطوشي أحْوج خلق الله إِلَيْهِ من أحتاج إِلَى عطف الْقُلُوب عَلَيْهِ وَصرف الْوُجُوه إِلَيْهِ وَهُوَ الْملك
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ أحسن الْكَرم مَا يكون من قبل الْوُلَاة فَإِنَّهُم خزان أَمْوَال الْمُسلمين وَمَا مِنْهُم إِلَّا لَهُ عِنْدهم حق أَعْطوهُ أَو منعُوهُ فَإِذا جادوا بِهِ لأربابه كرمت ذواتهم وَطَابَتْ صفاتهم وصفت حالاتهم وعطت درجاتهم وتضاعفت بركاتهم
قلت وأمنوا كل مَخَافَة وَكفوا دفاع الروع والمخافة كَمَا يحْكى أَن النُّعْمَان بن الْمُنْذر لما توج وَاطْمَأَنَّ بِهِ سَرِيره دخل عَلَيْهِ النَّاس وَفِيهِمْ أَعْرَابِي فَأَنْشَأَ يَقُول
(إِذا سست قوما فَاجْعَلْ الْجُود بَينهم
…
وَبَيْنك تأمن كل مَا تتخوف)
(فَإِن كشفت عِنْد الملمات عَورَة
…
كَفاك لِبَاس الْجُود مَا يتكشف)
فَقَالَ النُّعْمَان مَقْبُول نصحك فَمن أَنْت قَالَ رجل من حزم فَأمر لَهُ بِمِائَة نَاقَة وَهِي أول جَائِزَة أجازها
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ الْإِمْسَاك حَيْثُ يجب الْبَذْل بخل
والبذل حَيْثُ يجب الْإِمْسَاك تبذير وَبَينهمَا وسط هُوَ الْمَحْمُود الْمعبر عَنهُ بالسخاء والجود
قلت هُوَ معنى قَول أرسطو السخاء هُوَ بذل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَقت الْحَاجة وتوصيله إِلَى مستحقيه بِقدر الطَّاقَة
قَالَ وَقد قيل أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يُؤمر إِلَّا بالسخاء فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تجْعَل يدك مغلولة إِلَى عُنُقك وَلَا تبسطها كل الْبسط} وَقَالَ {وَالَّذين إِذا أَنْفقُوا لم يُسْرِفُوا وَلم يقترُوا وَكَانَ بَين ذَلِك قواما}
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة الْوَاجِب الَّذِي لَا يَسعهُ السخاء قِسْمَانِ وَاجِب بِالشَّرْعِ كَالزَّكَاةِ وَالنَّفقَة وواجب بالمروءة كَتَرْكِ المصانعة وَالِاسْتِقْصَاء فِي المحقرات وَيخْتَلف استقباح ذَلِك بِحَسب الْأَحْوَال والأشخاص وَمَا نعه دون الأول الْبُخْل
قَالَ الْغَزالِيّ فَمن أدّى الْوَاجِب فقد تَبرأ من الْبُخْل نعم لَا يَتَّصِف بالجود والسخاء مَا لم يبْذل زِيَادَة على ذَلِك اطلب الْفَضِيلَة تنَلْ الدَّرَجَات
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة قَالَ الْمَرَاتِب هُنَا ثَلَاثَة السخاء وَهُوَ إِعْطَاء بعض وإمساك بعض ثمَّ الْجُود وَهُوَ إِعْطَاء الْأَكْثَر ثمَّ الإيثار وَهُوَ بذل الْجَمِيع قَالَ الْغَزالِيّ وَلَيْسَ بعده دَرَجَة وَبِه أثنى الله على الصَّحَابَة رضي الله عنهم بقوله تَعَالَى {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة}
قلت وَبِه يبلغ إِلَى دَرَجَة الصدْق مَعَ الله تَعَالَى ذكره ابْن الْعَرَبِيّ مستشهدا عَلَيْهِ يَقُول سُفْيَان الثَّوْريّ إِذا أكمل صديق الصَّادِق لم يخلف مَا فِي يَدَيْهِ
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة السخاء ضَرْبَان سخاء فِي الدُّنْيَا وَقد تقدّمت حَقِيقَته وَفِي الدّين وَفِيه لعلماء الْآخِرَة عِبَارَات وَمِنْهَا قَول المحاسبي رَحْمَة الله تَعَالَى أَن تسخو بِنَفْسِك لله تَعَالَى فِي إِرَاقَة دمك من غير كَرَاهَة لَا لارادة ثَوَاب عَاجل أَو آجل وان كنت لَا تَسْتَغْنِي عَن ذَلِك بل تحسن كَمَال السخاء بترك الِاخْتِيَار على الله تَعَالَى حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي يفعل بك مَالا تختاره لنَفسك انْتهى مُلَخصا
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة قَالَ الْحُكَمَاء الْمُلُوك أَرْبَعَة سخي على نَفسه سخي على رَعيته وَصَوَّبَهُ الْفرس وشحيح على نَفسه شحيح على رَعيته وَصَوَّبَهُ الهنود وسخي على نَفسه وشحيح على رَعيته وَأَجْمعُوا على ذمَّة لفساد ملكه بذلك وشحيح على سخي على رَعيته قَالَت للروم لَا عيب عَلَيْهِ فِي ذَلِك
الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْبَاب لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يشْكر نعْمَة الله بجميل الْأَنْعَام بهَا على خلق الله
يَا ابْن آدم أَمرك الله أَن تكون كَرِيمًا وَتدْخل الْجنَّة ونهاك أَن تكون شحيحا وَتدْخل النَّار عجبت لمن يَشْتَرِي المماليك بِمَالِه وَلَا يَشْتَرِي الْأَحْرَار بمعروفه
الْجواد هُوَ الَّذِي يُعْطي من غير مَسْأَلَة صِيَانة للأحرار عَن الْمَسْأَلَة
الْملك الْحق هُوَ الَّذِي يملك الْأَحْرَار لَا الْأَرْضين وَالْأَمْوَال
الَّذِي يستفيده السخي من حسن الْقبُول وَرفع الْمنزلَة ومكابرة الرؤوساء هُوَ أَكثر مِمَّا هُوَ لَهُ
الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من أغرب أَخْبَار الأسخياء فِي الإيثار بِالنَّفسِ حكايتان
الْحِكَايَة الأولى يرْوى أَن الْحَارِث بن هِشَام وَعِكْرِمَة بن أبي جهل وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة رضي الله عنهم خَرجُوا يَوْم اليرموك فَدَعَا الْحَارِث بن هِشَام بِمَاء يشربه فَنظر إِلَيْهِ عِكْرِمَة فَقَالَ ادفعوه إِلَى عِكْرِمَة فَلَمَّا أَخذه عِكْرِمَة نظر إِلَى عَيَّاش فَقَالَ ادفعوه إِلَى عَيَّاش فَمَا وصل إِلَى عَيَّاش حَتَّى مَاتَ وَلَا وصل إِلَى وَاحِد مِنْهُم حَتَّى مَاتُوا رضي الله عنهم
قَالَ صَاحب مَشَارِق الأشواق وَانْظُر إِلَى إيثارهم فِي هَذِه الْحَال وسماحة أنفسهم بِمَا هُوَ عديل حياتهم لَا جرم استحقوا رضوَان الله وَحسن المناب
الْحِكَايَة الثَّانِيَة قَالُوا لما سعى غُلَام خَلِيل بالصوفية إِلَى الْخَلِيفَة وَرفع إِلَيْهِ أَنهم زنادقة أَمر بِضَرْب أَعْنَاقهم فَأَما الْجُنَيْد فاستعاذ بالفقه وَكَانَ على مَذْهَب أبي ثَوْر وَأما الشحام والرقام وَأَبُو الْحُسَيْن الثَّوْريّ وَغَيرهم فَقبض عَلَيْهِم وَبسط النطع لضرب أَعْنَاقهم فَتقدم الثَّوْريّ فَقَالَ لَهُ السياف أَتَدْرِي لما تتقدم قَالَ نعم قَالَ وَمَا يعجلك قَالَ أوثر أَصْحَابِي بحياة سَاعَة فَتنحّى السياف وأنهى الْخَبَر إِلَى الْخَلِيفَة فردهم إِلَى القَاضِي لبعرف حَالهم فَألْقى القَاضِي على أبي الْحُسَيْن مسَائِل فقهية فَأجَاب عَن الْكل ثمَّ أَخذ يَقُول وَبعد فَإِن لله عبادا إِذا قَامُوا قَامُوا بِاللَّه وَإِذا تكلمُوا تكلمُوا بِاللَّه وَإِذا فعلوا فعلوا بِاللَّه