المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تخليد مفاخر الملك ومآثره - بدائع السلك في طبائع الملك - جـ ١

[ابن الأزرق]

فهرس الكتاب

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌بَدَائِع السلك فِي طبائع الْملك

- ‌الْمُقدمَة الأولى

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة

- ‌الْكتاب الأول

- ‌النّظر الأول

- ‌النّظر الثَّانِي

- ‌النّظر الثَّالِث

- ‌الطّرف الأول

- ‌الطّرف الثَّانِي

- ‌الطّرف الثَّالِث

- ‌الْكتاب الثَّانِي

- ‌الرُّكْن الأول

- ‌الرُّكْن الثَّانِي

- ‌الرُّكْن الثَّالِث

- ‌الرُّكْن الرَّابِع

- ‌الرُّكْن الْخَامِس

- ‌الرُّكْن السَّادِس

- ‌الرُّكْن السَّابِع

- ‌الرُّكْن الثَّامِن

- ‌الرُّكْن التَّاسِع

- ‌الرُّكْن الْعَاشِر

- ‌الرُّكْن الْحَادِي عشر

- ‌الرُّكْن الثَّانِي عشر

- ‌الرُّكْن الثَّالِث عشر

- ‌الرُّكْن الرَّابِع عشر

- ‌الرُّكْن الْخَامِس عشر

- ‌الرُّكْن السَّادِس عشر

- ‌الرُّكْن السَّابِع عشر

- ‌الرُّكْن الثَّامِن عشر

- ‌الرُّكْن التَّاسِع عشر

- ‌الرُّكْن الْعشْرُونَ

- ‌الْكتاب الثَّالِث

- ‌الْكتاب الرَّابِع

- ‌الْمُقدمَة الأولى فِي تَقْرِير مَا يوطىء للنَّظَر فِي الْملك عقلا وَفِيه عشرُون سَابِقَة

- ‌السَّابِقَة الأولى

- ‌السَّابِقَة الثَّانِيَة

- ‌السَّابِقَة الثَّالِثَة

- ‌السَّابِقَة الرَّابِعَة

- ‌السَّابِقَة الْخَامِسَة

- ‌السَّابِقَة السَّادِسَة

- ‌السَّابِقَة السَّابِعَة

- ‌برهَان وجود

- ‌السَّابِقَة الثَّامِنَة

- ‌تمهيد قَالَ ابْن خلدون

- ‌السَّابِقَة التَّاسِعَة

- ‌السَّابِقَة الْعَاشِرَة

- ‌السَّابِقَة الْحَادِيَة عشرَة

- ‌بَيَان الأول

- ‌بَيَان ثَانِي

- ‌تَنْبِيه

- ‌السَّابِقَة الثَّانِيَة عشرَة

- ‌السَّابِقَة الثَّالِثَة عشرَة

- ‌تَنْبِيه

- ‌استظهار

- ‌السَّابِقَة الرَّابِعَة عشرَة

- ‌اعْتِبَار بالخليفة

- ‌برهَان وجود

- ‌السَّابِقَة الْخَامِسَة عشرَة

- ‌السَّابِقَة السَّادِسَة عشرَة

- ‌عاطفة اعْتِبَار

- ‌السَّابِقَة السَّابِعَة عشرَة

- ‌السَّابِقَة الثَّامِنَة عشرَة

- ‌اعْتِبَار

- ‌السَّابِقَة التَّاسِعَة عشرَة

- ‌السَّابِقَة الْعشْرُونَ

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة

- ‌فِي تمهيد أصُول من الْكَلَام فِي الْملك شرعا

- ‌الْفَاتِحَة الأولى

- ‌الْفَاتِحَة الثَّانِيَة

- ‌الْفَاتِحَة الثَّالِثَة

- ‌الْفَاتِحَة الرَّابِعَة

- ‌الْفَاتِحَة الْخَامِسَة

- ‌الْفَاتِحَة السَّادِسَة

- ‌الْفَاتِحَة السَّابِعَة

- ‌الْفَاتِحَة الثَّامِنَة

- ‌وَقَاعِدَة

- ‌الْفَاتِحَة الْحَادِيَة عشرَة

- ‌الْفَاتِحَة الثَّانِيَة عشرَة

- ‌الْفَاتِحَة الثَّالِثَة عشرَة

- ‌الْفَاتِحَة الرَّابِعَة عشرَة

- ‌الْفَاتِحَة الْخَامِسَة عشرَة

- ‌الْفَاتِحَة السَّادِسَة عشرَة

- ‌الْفَاتِحَة السَّابِعَة عشرَة

- ‌استظهار

- ‌الْفَاتِحَة الثَّامِنَة عشرَة

- ‌تَنْزِيل

- ‌الْفَاتِحَة التَّاسِعَة عشرَة

- ‌الْفَاتِحَة الْعشْرُونَ

- ‌الْكتاب الأول

- ‌فِي حَقِيقَة الْملك والخلافة وَسَائِر أنولع الرياسات وَسبب وجود ذَلِك وَشَرطه

- ‌فِي حَقِيقَة الْملك والخلافة وَسَائِر أَنْوَاع الرياسات

- ‌وَفِيه مسَائِل

- ‌النّظر الأول

- ‌فِي حَقِيقَة الْخلَافَة

- ‌الرياسة الأولى

- ‌رياسة كوهن

- ‌الرياسة الثَّانِيَة

- ‌رياسة البابا

- ‌عاطفة تَكْمِيل

- ‌النَّوْع الثَّانِي

- ‌الرياسة غير الشَّرْعِيَّة

- ‌الطّرف الثَّانِي

- ‌فِي شَرط وجوب الْملك وَهِي

- ‌العصبية أَو مَا يقوم مقَامهَا

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌تَصْدِيق بواقعين

- ‌اعْتِبَار

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

- ‌بَيَان الْعَكْس

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة

- ‌مزِيد اعْتِبَار

- ‌بَيَان الثَّانِي من وَجْهَيْن

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة

- ‌الْمقَام الأول

- ‌الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ

- ‌الطّرف الثَّالِث

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌فِي صفة الحروب

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي تعبئة العساكر

- ‌تَنْبِيه

- ‌تَكْمِيل

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌فِي ضرب المصاف وَرَاء العساكر

- ‌الْفَصْل الرَّابِع

- ‌فِي مَكَائِد مَا قبل الْقِتَال وآدابه

- ‌الْفَصْل الْخَامِس

- ‌فِيمَا يخدع بِهِ الْعَدو عِنْد الْقِتَال

- ‌الْفَصْل السَّادِس

- ‌فِي مَكَائِد حِصَار المدن والحصون

- ‌فِي الْأَفْعَال الَّتِي تُقَام بهَا صُورَة الْملك ووجوده

- ‌الرُّكْن الأول

- ‌نصب الْوَزير

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة

- ‌الْموضع الأول الْمشرق

- ‌الْموضع الثَّانِي فِي الْمغرب وَذَلِكَ فِي دوَل

- ‌الْمطلب الأول

- ‌فِي شُرُوطه الضرورية والمكملة

- ‌الْمطلب الثَّالِث

- ‌الرُّكْن الثَّانِي

- ‌إِقَامَة الشَّرِيعَة

- ‌تركيب

- ‌تَنْبِيه

- ‌الرُّكْن الثَّالِث

- ‌إعداد الْجند

- ‌الْعِنَايَة الثَّالِثَة

- ‌فِي اخْتِيَار قَائِم الْجند ورئيسه

- ‌الرُّكْن الرَّابِع

- ‌حفظ المَال

- ‌وَفِيه مسَائِل

- ‌الرُّكْن الْخَامِس

- ‌تَكْثِير الْعِمَارَة

- ‌الرُّكْن السَّادِس

- ‌إِقَامَة الْعدْل

- ‌الرُّكْن السَّابِع

- ‌تَوْلِيَة الخطط الدِّينِيَّة

- ‌الخطة الأولى

- ‌إِمَامَة الصَّلَاة

- ‌الخطة الثَّانِيَة

- ‌الْفتيا

- ‌الخطة الثَّالِثَة

- ‌التدريس

- ‌الخطة الرَّابِعَة

- ‌الْقَضَاء

- ‌الخطة الْخَامِسَة

- ‌الْعَدَالَة

- ‌الخطة السَّادِسَة

- ‌الْحِسْبَة

- ‌الخطة السَّابِعَة

- ‌السِّكَّة

- ‌الرُّكْن الثَّامِن

- ‌تَرْتِيب الْمَرَاتِب السُّلْطَانِيَّة

- ‌ الحجابة

- ‌الْمرتبَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌نَوَادِر

- ‌الْمرتبَة الثَّانِيَة

- ‌الْكِتَابَة

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمرتبَة الثَّالِثَة

- ‌ديوَان الْعَمَل والجباية

- ‌الْمرتبَة الرَّابِعَة

- ‌الشرطة

- ‌الرُّكْن السَّابِع

- ‌رِعَايَة السياسة

- ‌الرُّكْن الْعَاشِر

- ‌وَفِيه مُقَدمَات ومقامات

- ‌الْمقَام الأول

- ‌المستشير

- ‌الْمقَام الثَّانِي

- ‌المستشار

- ‌الْمقَام الثَّالِث

- ‌المستشار فِيهِ

- ‌الْمقَام الرَّابِع

- ‌الرُّكْن الْحَادِي عشر

- ‌بذل النَّصِيحَة

- ‌الرُّكْن الثَّانِي عشر

- ‌إحكام التَّدْبِير

- ‌الرُّكْن الثَّالِث عشر

- ‌تَقْدِيم الْوُلَاة والعمال

- ‌الرُّكْن الرَّابِع عشر

- ‌إتخاذ البطانة وَأهل الْبسَاط

- ‌الرُّكْن الْخَامِس عشر

- ‌تنظيم الْمجْلس وعوائده

- ‌الرُّكْن السَّادِس عشر

- ‌تَقْرِير الظُّهُور والاحتجاب

- ‌وَهُوَ نَوْعَانِ

- ‌النَّوْع الثَّانِي

- ‌الْمَمْنُوع مِنْهُ

- ‌الرُّكْن السَّابِع عشر

- ‌رِعَايَة الْخَاصَّة والبطانة

- ‌الرُّكْن الثَّامِن عشر

- ‌ظُهُور الْعِنَايَة بِمن لَهُ حق أَو فِيهِ مَنْفَعَة

- ‌الصِّنْف الثَّالِث

- ‌الصالحون

- ‌الرُّكْن السَّابِع

- ‌مُكَافَأَة ذَوي السوابق

- ‌الرُّكْن الْعشْرُونَ

- ‌تخليد مفاخر الْملك ومآثره

- ‌الْبَاب الثَّانِي

- ‌فِي الصِّفَات الَّتِي تصدر بهَا تِلْكَ الْأَفْعَال على أفضل نظام

- ‌ الْعقل

- ‌الْقَاعِدَة الأولى

- ‌الْقَاعِدَة الثَّانِيَة

- ‌الْعلم

- ‌الْقَاعِدَة الثَّالِثَة

- ‌الشجَاعَة

- ‌الْقَاعِدَة الرَّابِعَة

- ‌الْعِفَّة

- ‌الْقَاعِدَة الْخَامِسَة

- ‌السخاء والجود

- ‌الْمنْهَج الأول

- ‌الْمِنْهَاج الثَّانِي

- ‌الْقَاعِدَة السَّادِسَة

- ‌الْحلم

- ‌الْقَاعِدَة السَّابِعَة

- ‌الطّرف الثَّانِي

- ‌فِي الْغَضَب

- ‌الْقَاعِدَة الثَّامِنَة

- ‌الْعَفو

- ‌الْقَاعِدَة التَّاسِعَة

- ‌الرِّفْق

- ‌الْقَاعِدَة الْعَاشِرَة

- ‌اللين

- ‌الْقَاعِدَة الثَّانِيَة عشرَة

- ‌الْوَفَاء بالوعد

- ‌الْقَاعِدَة الثَّالِثَة عشرَة

- ‌الصدْق وضده وَهُوَ الْكَذِب

- ‌الْقَاعِدَة الرَّابِعَة عشرَة

- ‌كتم السِّرّ

- ‌الْقَاعِدَة الْخَامِسَة عشرَة

- ‌الحزم

- ‌الْقَاعِدَة السَّادِسَة عشرَة

- ‌الدهاء والتغافل

- ‌النّظر الثَّانِي

- ‌فِي التغافل

- ‌الْقَاعِدَة السَّابِعَة عشرَة

- ‌التَّوَاضُع

- ‌الْمطلب الثَّانِي

- ‌فِي الْكبر

- ‌الْمطلب الثَّانِي

- ‌فِي الْعجب

- ‌الْقَاعِدَة الثَّامِنَة عشرَة

- ‌سَلامَة الصَّدْر من الحقد والحسد

- ‌الطّرف الأول

- ‌فِي الحقد

- ‌الْقَاعِدَة التَّاسِعَة عشرَة

- ‌الصَّبْر

- ‌الْقَاعِدَة الْعشْرُونَ

- ‌الشُّكْر

- ‌النَّوْع الأول

- ‌الْقلب

- ‌النَّوْع الثَّانِي

- ‌اللِّسَان

- ‌النَّوْع الثَّالِث

- ‌الأذنان

- ‌النَّوْع الرَّابِع

- ‌الْبَصَر

- ‌النَّوْع الْخَامِس

- ‌اليدان

- ‌النَّوْع السَّادِس

- ‌الرّجلَانِ

- ‌النَّوْع السَّابِع

- ‌الْفرج

- ‌النَّوْع الثَّامِن

- ‌الْبَطن

الفصل: ‌تخليد مفاخر الملك ومآثره

‌الرُّكْن الْعشْرُونَ

‌تخليد مفاخر الْملك ومآثره

وَهُنَاكَ مقدمتان الْمُقدمَة الأولى أَن من سَعَادَة السُّلْطَان سَعْيه فِي تشييد مفاخر الْملك وتخليد مآثره الشاهدة بِكَمَال النِّيَابَة بِهِ فِي الظُّهُور كَمَا قَالَ أفلاطون السعيد من تمت بِهِ رياسة آبَائِهِ والشقي من انْقَطَعت عِنْده وَفِي مَعْنَاهُ قَول بعض الْحُكَمَاء إِن أبر الْمُلُوك من تمّ بِهِ سعي سلفه وأعقهم من أنقطع سَعْيهمْ عِنْده

الْمُقدمَة الثَّانِيَة أَن تَحْصِيل هَذِه السَّعَادَة حقيق أَن يرغب فِيهِ لأمرين أَحدهمَا ثَوَاب الْآخِرَة وَنَعِيمهَا المخلد الْملك الْكَبِير لقَوْله تَعَالَى {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} وَقَوله صلى الله عليه وسلم من سنّ سنة حَسَنَة كَانَ لَهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا من بعده من غير أَن ينقص من أجرهم شَيْئا لَهُ الحَدِيث

الثَّانِي عز الدّين بتخليد جميل الذّكر وَالثنَاء الْحسن كَمَا قَالَ

(وَهل شَيْء يَدُوم سوى حَدِيث

جميل الذّكر فالدنيا حَدِيث)

حَدِيث موعظة

قَالَ الطرطوشي أثر تَقْرِيره لهَذَا الْمَعْنى فانتهز فرْصَة الْعُمر ومساعدة الدُّنْيَا وَقدم لنَفسك كَمَا قدمُوا تذكر بالصالحات كَمَا ذكرُوا وَأعلم أَن الْمَأْكُول للبدن والموهوب للمعاد والمتروك للعدى فاختر أَي الثَّلَاثَة شِئْت وَالسَّلَام

مرجع إِذا تقرر هَذَا مِمَّا بِهِ نيل السَّعَادَة وَهُوَ مَا يشيد بِهِ مفاخر الْملك يخلد بِهِ مآثره يظْهر من حِكَايَة مَا نقل مِنْهُ عَن جلة الْمُلُوك وأعيان الوزراء فَهُنَا مقامان

ص: 408

الْمقَام الأول مَا نقل مِنْهُ عَن الْمُلُوك وَالْكَافِي مِنْهُ خبران

الْخَبَر الأول قَالَ ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة السُّلْطَان أبي سعيد الْمَدْعُو بِالْملكِ الْمُعظم مظفر الدّين صَاحب أربل كَانَ لَهُ فِي فعل الْخيرَات غرائب وَلم يكن فِي الدُّنْيَا شَيْء أحب إِلَيْهِ من الصَّدَقَة كَانَ لَهُ فِي كل يَوْم قناطير مقطرة من الْخبز يفرقها على المحاويج فِي عدَّة مَوَاضِع من الْبَلَد يجْتَمع فِي كل يَوْم فِي الْموضع خلق كثير فَيُفَرق عَلَيْهِم فِي أول النَّهَار وَإِذا نزل من الرّكُوب يكون قد اجْتمع جمع كثير عِنْد الدَّار فيدخلهم إِلَيْهِ وَيدْفَع لكل وَاحِد مِنْهُم كسْوَة على قدر الْفَصْل من الشتَاء والصيف وَغَيرهمَا وَمَعَ الْكسْوَة شَيْء من الذَّهَب من الدِّينَار إِلَى الْإِثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَأَقل وَأكْثر وَكَانَ قد بنى أَرْبَعَة مَوَاضِع للمرضى والعميان وملأها من هذَيْن الصِّنْفَيْنِ وَقدر لَهُم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ كل وَاحِد وَكَانَ يَأْتِيهم فِي كل عصر إثنين وخميس وَيدخل إِلَى كل وَاحِد فِي بَيته ويسأله عَن حَاله ويتفقده بِشَيْء من النَّفَقَة وينتقل إِلَى الآخر وَهَكَذَا حَتَّى يَأْتِي على جَمِيعهم وَهُوَ يباسطهم ويمزح وَيجْبر قُلُوبهم

قَالَ وَكَانَ رحمه الله قد بنى دَارا للنِّسَاء الأرامل ودارا للصغار الْأَيْتَام ودارا للملاقيط رتب بهَا جمَاعَة من المراضع وكل مَوْلُود ملتقط يحمل إِلَيْهَا فيرضع وَيجْرِي على أهل كل دَار مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي كل يَوْم وَكَانَ يدْخل إِلَيْهَا فيرضع وَيجْرِي على أهل كل دَار مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي كل يَوْم وَكَانَ يدْخل للمارستان وَيقف على كل مَرِيض يسْأَله عَن مَرضه وَكَيْفِيَّة حَاله وَمَا يشتهيه وَكَانَ لَهُ دَار مضيف يدْخل إِلَيْهَا كل قادم على الْبَلَد من فَقير أَو صَغِير أَو غَيرهمَا وعَلى الْجُمْلَة فَمَا كَانَ يمْنَع مِنْهَا كل من قصد الدُّخُول أليها وَلَهُم فِي الدَّار الْغَدَاء وَالْعشَاء وَإِذا عزم الْإِنْسَان على السّفر أَعْطوهُ نَفَقَة على مَا يَلِيق بِمثلِهِ

ص: 409

وَبنى مدرسة رتب فِيهَا الْفَرِيقَيْنِ من الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة وَكَانَ كل وَقت يَأْتِيهَا بِنَفسِهِ وَيعْمل السماط بهَا ويتطيب وَيعْمل السماع فَإِذا طلب خلع شَيْئا من ثِيَابه وييسر للْجَمَاعَة شَيْئا من الْأَنْعَام وَلم يكن لَهُ لَذَّة سوى السماع فَإِنَّهُ كَانَ لَا يتعاطى الْمُسكر وَلَا يُمكن من ادخله غلى الْبَلدة وَبنى للصوفية زاويتين فيهمَا خلق كثير من المقيمين والواردين ويجتمع فِي أَيَّام المواسم فِيهَا خلق كثير وَلَهُمَا أوقاف وافرة تقوم بِجمع مَا يحناج إِلَيْهِ ذَلِك الْجمع وَلَا بُد عِنْد سفر وَاحِد من نَفَقَة يَأْخُذهَا وَكَانَ يسير فِي كل سنة دفعتين مَعَ جمَاعَة من اصفائه إِلَى بلد السَّاحِل وَمَعَهُمْ جملَة وافرة من أَمْوَال يفْدي بهَا بهَا أُسَارَى الْمُسلمين من أَيدي الْكَافرين فَإِذا وصلوا إِلَيْهِ أعْطى كل وَاحِد مَالا وَإِن لم يصل لَهُ الْأُسَارَى فالأمناء يعطونههم بِوَصِيَّة مِنْهُ فِي ذَلِك وَكَانَ يُقيم فِي كل سنة سبلا للْحَاج ويسير مَعَه جَمِيع مَا تَدْعُو حَاجَة الْمُسَافِر إِلَيْهِ فِي الطَّرِيق ويسير صحبته أُمَنَاء مَعَهم خَمْسَة آلَاف دِينَار أَو سِتَّة آلَاف دِينَار ينفقها فِي الْحَرَمَيْنِ على المحاويج وأرباب الرَّوَاتِب وَله بِمَكَّة حرسها الله تَعَالَى آثَار جميلَة وَبَعضهَا بَاقٍ إِلَى الْآن وَهُوَ أول من أجْرى المَاء إِلَى جبل عَرَفَات فِي لَيْلَة الْوُقُوف وَغرم عَلَيْهِ جملَة كَثِيرَة من المَال وَعمر بِالْجَبَلِ مصانع للْمَاء فَإِن الْحجَّاج كَانُوا يتضررون من عدم المَاء هُنَاكَ وَكَانَ رحمه الله مَتى أكل شَيْئا واستطابه لَا يخْتَص بِهِ بل يَقُول احملوا هَذَا إِلَى الشَّيْخ فلَان أَو فُلَانَة مِمَّن هم عِنْدهم مَشْهُور بِالسِّلَاحِ

قلت قَالَ ابْن رضوَان وَكَأَنَّهُ نظر إِلَى مَا حكى أَنه كَانَ مَكْتُوبًا على جَوَانِب مائدة أنو شرْوَان خير الْمُلُوك مَا كَانَ طَعَامه من حلّه وَعَاد على ذَوي الْحَاجَات من فَضله انْتهى

ص: 410

الْخَبَر الثَّانِي قَالَ كَانَ أَبُو الْفَتْح ملك شاه بن البارسلان السلجوقي مغرما بالعمائر فحفر كثيرا من الْأَنْهَار وَعمل على كثير من الْبلدَانِ الأسوار وابتنى فِي المفاوز رباطات وقناطير وَهُوَ الَّذِي عمر جَامع السُّلْطَان بِبَغْدَاد فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَزَاد فِي ذكر السلطنة بهَا وصنع بطرِيق مَكَّة مصانع وأتفق عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة خَارِجَة عَن الْحصْر وأبطل المكوس والخفارات فِي جَمِيع بِلَاده وَكَانَ لهجا بالصيد حَتَّى أَنه ضبط مَا اصطاده بِيَدِهِ فَكَانَ عشرَة آلَاف فَتصدق بِعشْرَة آلَاف دِينَار بعد أَن نسي كثيرا مِنْهُ وَقَالَ إِنِّي خَائِف من الله تَعَالَى من إزهاق الْأَرْوَاح لغير مآكله وَصَارَ بعد ذَلِك كلما قتل صيدا تَصْدِيق بِدِينَار وَخرج مرّة لتوديع الْحَاج فجاوز العذيب وشيعهم بِالْقربِ من الواقصة وصاد فِي طَرِيقه وحشا كثيرا فَبنى هُنَاكَ مناورة من حوافز الْحمر الوحشية وقرون الظباء الَّتِي صادها فِي تِلْكَ الطَّرِيق وَكَانَت السبل فِي أَيَّامه سَاكِنة من المخاوف آمِنَة تسير القوافل مِمَّا وَرَاء النَّهر إِلَى أقْصَى الشَّام وَلَيْسَ مَعهَا خفير ويسافر الْوَاحِد والإثنان من غير خوف وَلَا رهب

الْمقَام مَا نقل مِنْهُ عَن الوزراء وَالْكَافِي أَيْضا مِنْهُ خبران

الْخَبَر الأول قَالَ ابْن رضوَان وَأَصله للطرطوشي وَمثله لِابْنِ الْعَرَبِيّ كَانَ الْوَزير نظام الْملك قد بنى دور الْعلم للفقهاء وَأَنْشَأَ الْمدَارِس للْعُلَمَاء وَأسسَ الرباطات للعباد والزهاء وَأهل الصّلاح والفقراء ثمَّ أجْرى

ص: 411

لَهُم الجرايات مشاهرة والكساوى والنفقات وأجرى الحبر وَالْوَرق لمن كَانَ من أهل الطّلب للْعلم مُضَافا إِلَى أَرْزَاقهم وَعم بذلك جَمِيع أقطار المملكة سُلْطَانه أَبُو الْفَتْح بن البارسلان فَلم يكن فِي أَوَائِل الشَّام وَهِي بِبَيْت الْمُقَدّس إِلَى الشَّام الْأَعْلَى وديار يكر والعراقين وخراسان بأقطارها إِلَى سَمَرْقَنْد ووراء نهر جيحون زهاء مائَة يَوْم حَاصِل علم أَو طَالبه أَو متعبد أَو زاهد فِي زاويته إِلَّا وكرامة شَامِلَة لَهُ وسابغة عَلَيْهِ وَكَانَ الَّذِي يخرج من بيُوت أَمْوَاله فِي هَذِه الْأَبْوَاب سِتّمائَة ألف دِينَار فِي كل سنة فوشى بِهِ الوشاة إِلَى أبي الْفَتْح الْملك وأوغروا صَدره عَلَيْهِ وَقَالُوا إِن هَذَا الْخَارِج من بيُوت الْأَمْوَال تقيم بِهِ جَيْشًا تركز بِهِ راية فِي سور قسطنطينية فخامر ذَلِك قلب أبي الْفَتْح فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ لَهُ يَا أَبَت بَلغنِي أَنَّك تخرج من بيُوت الْأَمْوَال كل سنة سِتّمائَة ألف دِينَار إِلَى مَالا ينفعنا وَلَا يغنى عَنَّا شَيْئا فَبكى نظام الْملك وَقَالَ يَا بني أَنا شيخ أعجمي وَلَو نُودي على فِيمَن يزِيد لم أحفظ خَمْسَة دَنَانِير وَأَنت غُلَام تركي لَو نُودي عَلَيْك عساك تحفظ ثَلَاثِينَ دِينَارا وَأَنت مشتغل بلذاتك ومنهمك فِي شهواتك وَأكْثر مَا يصعد إِلَى الله تَعَالَى مَعَاصِيك دون طَاعَتك وجيوشك الَّذين تعدهم للنوائب إِذا احتشدوا كافحوا عَنْك بسيوف طولهَا ذِرَاع وقوس لَا يَنْتَهِي مدى مرماها ثَلَاثمِائَة ذِرَاع وهم مَعَ ذَلِك مستغرقون فِي الْمعاصِي وَالْخُمُور والملاهي والمزامر والطنبور وَإِنِّي أَقمت لَك جَيْشًا يُسمى جَيش اللَّيْل فَإِذا

ص: 412

جن اللَّيْل قَامَت جيوش اللَّيْل على أَقْدَامهم صُفُوفا بَين يَدي رَبهم فأرسلوا دموعهم وأطلقوا بِالدُّعَاءِ ألسنتهم ومدوا إِلَى الله الْعَظِيم أكفهم بِالدُّعَاءِ لَك ولجيوشك فَأَنت وجيوشك فِي خفارتهم تعيشون وبدعائهم تبيتون وببركاتهم تمطرون وترزقون وتخرق سِهَامهمْ إِلَى السَّمَاء السَّمَاء السَّابِعَة بِالدُّعَاءِ والتضرع فَبكى أَبُو الْفَتْح بكاء شَدِيدا ثمَّ قَالَ شاباش يَا أَبَت شاباش أَي يَا أَبَت أَكثر لي من هَذَا الْجَيْش قَالَ وَهَذَا الرجل هُوَ الَّذِي بنى الْمدرسَة النظامية بِبَغْدَاد وَإِلَيْهِ تنْسب رحمه الله

قلت قَالَ ابْن خلكان هُوَ أول من ابتنى الْمدَارِس فاقتدى بِهِ النَّاس وَشرع فِي عمَارَة مدرسته بَغْدَاد سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَفِي سنة تسع وَخمسين جمع النَّاس على طبقاتهم ليدرس بهَا الشيح أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فَلم يحضر فدرسها أَبُو نصر بن الصّباغ صَاحب الشَّامِل عشْرين يَوْمًا ثمَّ جلس الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ بِبَغْدَاد وَكَانَ إِذا حضر وَقت الصَّلَاة خرج مِنْهَا وَيُصلي فِي بعض الْمَسَاجِد وَكَانَ يَقُول إِن أَكثر الْآلَات بهَا غصب

ص: 413

قلت وَذكر الطرطوشي مَا اتّفق لَهُ مَعَ أبي سعيد الْخُدْرِيّ الَّذِي كَانَ بناؤها لَهُ على يَده فَرَاجعه من هُنَاكَ قَالَ ابْن خلكان وَسُئِلَ عَن محبته للصوفية قَالَ أَتَانِي صوفي وَأَنا أخدم بعض الْأُمَرَاء فَقَالَ لي أخدم من تنفعك خدمته وَلَا تشتغل لخدمة من تَأْكُله الْكلاب غَدا فَلم أفهم مَا قَالَ فَسَكِرَ ذَلِك الْأَمِير من الْغَد وَكَانَت لَهُ كلاب كالسباع تفترس الغرباء بِاللَّيْلِ فغلبه السكر فَخرج وَحده فَلم تعرفه الْكلاب فمزقته فَعلمت أَن الرجل كوشف بذلك فَأَنا أخدم الصُّوفِيَّة لعَلي أظفر بِمثل ذَلِك الرجل

قلت قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ كَانَ قبل أَن يوزر صوفيا فَقِيرا يمشي على قَدَمَيْهِ من مَسْجِد الاقدام بِمصْر إِلَى تركستان وَمَا وَرَاء جيحون فِي صُحْبَة الزهاد وانتقل من رِبَاط إِلَى رِبَاط أَرْبَعِينَ عَاما ثمَّ وزر أَرْبَعِينَ عَاما

قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ إِذا قدم عَلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي صَاحب الرسَالَة بَالغ فِي إكرامها وأجلسها فِي مَوْضِعه قَالَ وَتوجه صُحْبَة صَاحب ملك شاه أصيهان فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة السبت عَاشر رَمَضَان سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَلَمَّا كَانَ قرب نَهَارهَا قَالَ هَذَا مَوضِع قتل فِيهِ خلق كثير من الصَّحَابَة فِي زمن عمر بن الْخطاب رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ فطوبى لمن كَانَ فيهم فاعترضه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة صبي ديلمي لابس على هَيْئَة الصُّوفِيَّة مَعَه قَصَبَة عالية فَدَعَا لَهُ وَسَأَلَهُ تنَاولهَا فَتَنَاولهَا من يَده ليأخذها فَضَربهُ الصَّبِي بسكين بفؤاده فَحمل إِلَى يَده ليأخذها فَضَربهُ الصَّبِي بسكين فِي فُؤَاده فَحمل إِلَى مضربه فَمَاتَ وَقتل قَاتله فِي الْحِين بعد أَن هرب فعثر فِي طُنب خيمته فَوَقع فَقتل وَحمل نظام الْملك إِلَى أَصْبَهَان فَدفن فِيهَا

ص: 414

قَالَ وَقيل أَن السُّلْطَان دس عَلَيْهِ الْقَاتِل لَهُ فَإِنَّهُ سم طول حَيَاته واستكثر مَا بِيَدِهِ من الإقطاعات وَلم يَعش السُّلْطَان بعده إِلَّا خَمْسَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَكَانَ رحمه الله من حَسَنَات الدَّهْر

قلت قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ قَالَ النَّاس فِيهِ لم يوزر بعد مَوته مثله

قَالَ ابْن خلكان ورثاه شبْل الدولة أَبُو الهيجا مقَاتل بن عَطِيَّة الْبكْرِيّ بقوله

(كَانَ الْوَزير نظام الْملك لؤلؤة

نفيسة قد صاغها الرَّحْمَن من شرف)

(عزت فَلم تعرف الْأَيَّام قيمتهَا

فَردهَا غيرَة مِنْهُ إِلَى الصدف)

الْخَبَر الثَّانِي قَالَ ابْن رضوَان وَمِمَّنْ لَهُ فِي المآثر المخلدة الْيَد الْعليا والفوز بِأَكْثَرَ مساعي الْبر المتكفلة لَهُ بِالْحُسْنَى الْوَزير جمال الدّين بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي مَنْصُور المعزو بالجواد الْأَصْفَهَانِي وَلَا يدعى إِلَّا جمال الدّين الْجواد وَزِير صَاحب الْموصل فقد ثَبت لَهُ من الْآثَار الْكَرِيمَة والصنائع الحميدة والمصانع المبنية فِي ذَات الله تَعَالَى المشيدة مَا لم يسْبقهُ إِلَيْهِ أحد من أكَابِر الْخُلَفَاء وفضلاء الوزراء تَمَادى على هَذِه الْمَقَاصِد السّنيَّة المجتمعة على الْمَنَافِع الْعَامَّة لجَمِيع الْمُسلمين فِي حرم الله وَحرم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَكثر من خَمْسَة عشر عَاما لم يزل فِيهَا باذلا أَمْوَالًا لَا تحصى فِي بِنَاء رباع جَامع مَكَّة مسبلة فِي طرق الْخَيْر مؤيدة محبسة وَفِي اختطاط صهاريج المَاء وَوضع جباب فِي الطّرق يسْتَقرّ بِهِ الْمَطَر إِلَى تجديده آثَار من الْبناء فِي الْحَرَمَيْنِ الكريمين وَكَانَ من أشرف أَعماله أَن جلب المَاء إِلَى عَرَفَات وقاطع عَلَيْهِ

ص: 415

الْعَرَب من بني شيبَة سكان تِلْكَ النواحي المجلوب إِلَيْهَا بوظيفة من المَال كَثِيرَة على أَن لَا يقطعوا المَاء عَن الْحَاج فَلَمَّا توفى عَادوا إِلَى عَادَتهم من قِطْعَة وَمن مآثره أَنه جعل مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَحت سَرِير من عيقر وَأنْفق فِيهَا أَمْوَالًا لَا تحصى كَثْرَة وَمن أعجب مَا وَفقه الله إِلَيْهِ أَنه جدد أَبْوَاب الْحرم كلهَا وجدد بَاب الْكَعْبَة وعشاه فضَّة مذْهبه وجدد العتبة الْمُبَارَكَة بلوح ذهب ابريز وَأخذ الْبَاب الْقَدِيم وَأمر أَن يصنع لَهُ مِنْهُ تَابُوت يدْفن فِيهِ فَلَمَّا حانت وَفَاته أَمر أَن يوضع فِي ذَلِك التابوت الْمُبَارك ويحج بِهِ مستا ويدفن بالموصل دون السّنة وَبعد ذَلِك أَن يسَار إِلَى عَرَفَات وَيُوقف بِهِ على الْجَبَل ويكشف عَن التابوت فَلَمَّا أَفَاضَ النَّاس بِهِ وكتبت لَهُ الْمَنَاسِك كلهَا وطيف بِهِ طواف الْإِفَاضَة وَكَانَ رحمه الله لم يحجّ فِي حَيَاته ثمَّ حمل إِلَى مَدِينَة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَله فِيهَا الْآثَار الْكَرِيمَة وبنيت لَهُ رَوْضَة بازاء رَوْضَة الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم وَفتح بهَا مَوضِع يُلَاحظ الرَّوْضَة المقدسة وأقيم لَهُ ذَلِك لسابق أَفعاله الْكَرِيمَة وَإِلَيْهِ ينْسب أحد الحمامين الَّذين بسكة الْمَشْهُور بحمام جمال الدّين

قَالَ وَلِهَذَا الرجل من الْآثَار الجميلة والمفاخر الجليلة الَّتِي لم يسْبق إِلَيْهَا الأكابر الأجواد والسادات الأمجاد فِيمَا سلف من الْأَزْمَان مَا لَا يُحْصى ويستقر بِهِ الثَّنَاء ويستصحب طول الْأَزْمَان من الْأَلْسِنَة بِالدُّعَاءِ وحسبك أَنه اتَّسع اعتناؤه بإصلاح جادة الطَّرِيق للْمُسلمين فِي الْمشرق من الْعرَاق إِلَى الشَّام إِلَى الْحجاز فاستنبط الْمِيَاه وابتنى الْجبَاب واختط الْمنَازل فِي المغازات وَأمر بعماراتها مأوى لأبناء السَّبِيل وكافة الْمُسَافِرين وابتنى بالمدن الْمُتَّصِلَة من الْعرَاق إِلَى الشَّام فنادق وعينها لنزول الْفُقَرَاء وَأَبْنَاء السَّبِيل الَّذين تضعفت أَحْوَالهم عَن تأدية الأكرية وأجرى على قومه تِلْكَ الفنادق والنازل مَا يقوم بعيشهم وَعين لَهُم ذَلِك فِي وُجُوه متأبدة لَهُم فَبَقيت لَهُم تِلْكَ الرسوم على حَالهَا إِلَى الْآن فسارت تلهج بِذكر هَذَا الرفاق وملئت ثَنَاء عَلَيْهِ الْآفَاق وَكَانَ مُدَّة حَيَاته بالموصل قد اتخذ دَار كَرَامَة وَاسِعَة الفناء فسيحة الأرجاء يَدْعُو إِلَيْهَا كل يَوْم الجفلى من الغرباء شبعا وريا وَرُبمَا وجد الْوَارِد والصادر فِي ظله

ص: 416

عَيْشًا هَنِيئًا وَلم يزل على ذَلِك أَيَّام حَيَاته رَحمَه الله تَعَالَى فَبَقيت آثاره مخلدة وأخباره بألسنة الذّكر مجددة وَقضى حميدا سعيدا وَالذكر الْجَمِيل للسعداء حَيَاة ثَانِيَة وَمُدَّة من الْعُمر بَاقِيَة وَالله كَفِيل بجزاء الْمُحْسِنِينَ من عباده فَهُوَ أكْرم الكرماء انْتهى

وَهُوَ مَنْقُول عَن ابْن خلكان

ص: 417