الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من أَخْبَار الآخذين بِالصبرِ عِنْد نزُول الشدائد مَا يحْكى أَن أنو شرْوَان غضب على وزيره بزرجمهر فحبسه فِي بَيت كالقبر وصفده بالحديد وَألبسهُ الخشن من الصُّوف وَأمر أَلا يزْدَاد فِي كل يَوْم على قرصين من الْخبز وكف من ملح جرش وَشَيْء من مَاء وَأَن تنقل إِلَيْهِ أَلْفَاظه فَأَقَامَ شهرا لَا تسمع لَهُ لَفْظَة
فَقَالَ أنو شرْوَان أدخلُوا إِلَيْهِ أَصْحَابه ومروهم أَن يسألوه ويفاتحوه الْكَلَام وعرفوني بِهِ فَدخل إِلَيْهِ جمَاعَة من المختصين بِهِ فَقَالُوا لَهُ أَيهَا الْحَكِيم نرَاك فِي هَذَا الضّيق وَالْحَدِيد والشدة الَّتِي رفعت إِلَيْهَا وَمَعَ هَذَا فَإِن سحنة وَجهك وَصِحَّة جسمك على حَالهمَا لم تَتَغَيَّر فَمَا السَّبَب فِي ذَلِك فَقَالَ أَنِّي عملت جوارشات من سِتَّة أخلاط يَأْخُذ مِنْهُ كل يَوْم شَيْئا فَهُوَ الَّذِي أبقى على مَا ترَوْنَ فَقَالُوا صفه لنا فَعَسَى أَن نبتلى بِمثل بلواك أَو أحد من إِخْوَاننَا فنستعمله أَو نصفه لَهُ فَقَالَ
الْخَلْط الأول الثِّقَة بِاللَّه عز وجل الثَّانِي علمي بِأَن كل مَقْدُور كَائِن الثَّالِث الصَّبْر خير مَا اسْتَعْملهُ الممتحن المتعن الرَّابِع أَن لم نصبر أَي شَيْء نعمل وَمَا أغْنى عَن نَفسِي بالجزع الْخَامِس قد يُمكن أَن يكون فِي بشر شَرّ مِمَّا أَنا فِيهِ السَّادِس من سَاعَة إِلَى سَاعَة فرج
الْقَاعِدَة الْعشْرُونَ
الشُّكْر
وَفِيه مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى يتَأَكَّد الْأَمر بِهَذَا الْوَصْف الْعَظِيم لفائدتين
الْفَائِدَة الأولى أَن دوَام النِّعْمَة إِنَّمَا هُوَ بالترديد لَهُ وَمَا لم تقيد بعقاله فَهِيَ للزوال لقَوْله الله تَعَالَى أَن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى
قلت وَلَا يدْفع ذَلِك إِلَّا من تَحْصِيل أَمريْن
أَحدهمَا أَن تصريف النِّعْمَة فِي الطَّاعَة متوقفة على معرفَة مَا هِيَ الطَّاعَة وَمَتى فَاتَ ذَلِك لم يُمكن الْقيام بِحَق الشُّكْر
الثَّانِي أَن الكفران بتصريف النِّعْمَة فِي الْمعْصِيَة إِمَّا بترك الإستعمال جملَة أَو تعلقهَا بهَا مُخَالفَة فالنقدان مثلا إِن نفقا فِي طَاعَة وَاجِبَة أَو مَنْدُوبَة فشكران وَإِن كنزا تعطيلا لحكمة الإنتفاع بهما فكفران والمعاملة بهما بالربا وانفاقهما فِي سرف أَو مَحْظُور أَو صوغهما آنِية أَسْوَأ فِي الكفران من مُجَرّد اكتنازها فَقَط
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة مُتَعَلق الشُّكْر من النعم ضَرْبَان
أَحدهمَا مَا هُوَ نعْمَة بِنَفسِهِ حَسْبَمَا يرد تقسيمه إِن شَاءَ الله وَالشُّكْر عَلَيْهِمَا لَا أشكال فِيهِ
الثَّانِي مَا يتَضَمَّن النِّعْمَة كالشدائد والمصائب فقد قَالَ عمر بن الْخطاب مَا ابْتليت ببلية إِلَّا كَانَ الله على فِيهَا أَربع نعم إِذْ لم تكن فِي ديني وَإِذ لم تكن أعظم وَإِذ لم أحرم الرضى بهَا وَإِذ رَجَوْت الثَّوَاب عَلَيْهَا
قَالَ الْغَزالِيّ وَمِنْهَا أَنَّهَا زائلة وَأَنَّهَا من الله تَعَالَى وَأَن كَانَت بِسَبَب مَخْلُوق فَإِنَّهُ لَك عَلَيْهِ لَا لَهُ عَلَيْك
قلت وَإِنَّهَا تخفف الذُّنُوب أَو تحطمها قَالُوا فالشكر إِنَّمَا هُوَ على النعم المقترنة بالشدة لَا على مجردها من حَيْثُ هِيَ وَالصَّبْر هُوَ الْوَاجِب فِيهَا من تِلْكَ الْجِهَة
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ الْغَزالِيّ النعم قِسْمَانِ دنيوية ودينية فَالْأولى ضَرْبَان نعْمَة نفع ونعمة دفع فنعمة النَّفْع الْخلقَة السوية والملاذ الشهية ونعمة الدّفع سَلامَة النَّفس من آفاتها الذاتية ووقايتها من المؤذيات الخارجية
وَالثَّانيَِة ضَرْبَان نعْمَة توفيق ونعمة عصمَة فنعمة التَّوْفِيق لِلْإِسْلَامِ
أَولا ثمَّ للسّنة ثمَّ للطاعة ونعمة العصوية عَن الْكفْر أَولا ثمَّ عَن الْبِدْعَة ثمَّ عَن سَائِر الْمعاصِي
قَالَ وتفصيل ذَلِك لَا يحيه إِلَّا النعم بِهِ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ {وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها}
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة مَرَاتِب الشُّكْر بِحَسب مُتَعَلقَة من الْإِنْسَان ثَلَاثَة الْقلب وَاللِّسَان وَسَائِر الْجَوَارِح
قَالَ
(أفادتكم النعماء فِي ثَلَاثَة
…
يَدي ولساني وَالضَّمِير المحجبا)
فَالْأولى باعتقاد أَن لَا نعْمَة إِلَّا وبدايتها من الله تَعَالَى لقَوْله عز وجل {وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله} أَي أيقنوا أَنَّهَا من الله وَمحل ذَلِك إِنَّمَا هُوَ الْقلب
وَالثَّانيَِة بترديد الثَّنَاء على الله تَعَالَى والإكثار من حَمده ويندرج فِيهِ التحدث بِنِعْمَة لقَوْله تَعَالَى {وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث} وَالثنَاء على الوسائط لحَدِيث من لم يشْكر الْقَلِيل لم يشْكر الْكثير وَمن لم يشْكر النَّاس لم يشْكر الله
قلت وَمن الْمُبَالغَة فِي ذَلِك ترديده على مُجَرّد الْهم بِالْمَعْرُوفِ وَأَن حَال الْقدر السَّابِق دونه قَالَ
(لأشكرنك مَعْرُوفا هَمَمْت بِهِ
…
إِن اهتمامك بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوف)
(وَلَا ألومك أَن لم يمضه قدر
…
فَالْأَمْر بِالْقدرِ المحتوم مَصْرُوف)
وَالثَّالِثَة بِعَمَل الصَّالِحَات كلهَا بِحَسب الْأَمَاكِن لقَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا} وَفِي الحَدِيث قَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَتَّى تقطرت قدماه فَقيل لَهُ فِي ذَلِك قَالَ أَفلا أكون عبدا شكُورًا
تَفْصِيل
قيل لأبي حَازِم مَا شكر الْعَينَيْنِ قَالَ إِذا رَأَيْت بهما خيرا أعلنته وَإِذا رَأَيْت بِهِ شرا سترته قيل فَمَا شكر الْأُذُنَيْنِ قَالَ إِذا سَمِعت بهما خيرا وعيته وَإِذا سَمِعت بهما شرا دَفَنته قيل فَمَا شكر الْيَدَيْنِ قَالَ لَا تَأْخُذ بهما مَا لَيْسَ لَك وَلَا تمنع حَقًا هُوَ لله قيل فَمَا شكر الْبَطن قَالَ أَن يكون أَسْفَله صبرا وَأَعلاهُ علما قيل فَمَا شكر الْفرج قَالَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين}
قيل فَمَا شكر الرجلَيْن قَالَ إِن رَأَيْت شَيْئا غبطته استعملتهما عمله وَإِن رَأَيْت شرا كففتهما عَن عمله
تَمْثِيل
قيل وَأما من شكر بِلِسَانِهِ وَلم يشْكر بِجَمِيعِ جوارحه فَمثله كَمثل من لَهُ كسَاء فَأخذ بطرفه وَلم يلْبسهُ فَلم يَنْفَعهُ ذَلِك من الْحر وَالْبرد والثلج والمطر
قَالَ ابْن عباد وَأجْمع الْعبارَات للشكر أَنه معرفَة بالجنان وَذكر بِاللِّسَانِ وَعمل بالأركان
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة إِذا كَانَ الْعَمَل بِالطَّاعَةِ شكرا فقصد مَا هُوَ من جنس النِّعْمَة أَدخل فِي شكرها وأنيب لمقابلتها كمواساة الْغَنِيّ بمعروفه وشفاعة الْوَجِيه عِنْد السُّلْطَان وَرفع الْغدر لِذَوي الخمول من غير مَعْصِيّة قلت
ينظر إِلَى هَذَا الْمَعْنى مَا يُقَال أَن وظائف التائب إِبْدَال سالف السَّيئَة بِمَا يقابلها من الطَّاعَات كنفق مَا فِي مَعْصِيّة يُنْفِقهُ عِنْد التَّوْبَة فِي طَاعَة وَأكل حرَام بجوع نَفسه بِكَثْرَة الصّيام وناظر إِلَى مَالا يحل يكثر من النّظر فِي الْمُصحف وماش إِلَى مَالا يجوز يردد الْمَشْي إِلَى الْمَسَاجِد وَقَاتل النَّفس يديم الْجِهَاد ليقْتل نفسا كَافِرَة أَو يستشهد وحاضر مجتمعات اللَّهْو والسفاهة يحضر ليقْتل مجَالِس الذّكر لِأَنَّهَا مَوَاطِن الرَّحْمَة
قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو سعيد وَمن خطه نقلت وَذَلِكَ ليدْخل فِي قَوْله تَعَالَى إِلَّا من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فألئك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات فقد فسر بِهَذَا الْمَعْنى
الْمَسْأَلَة السَّابِعَة قَالَ ابْن قيم الجوزية الْفرق بَين التحدث بنعم الله وَالْفَخْر بهَا أَن المتحدث بِالنعْمَةِ مخبر عَن صِفَات موهبها ومحض جوده وإحسانه ثَنَاء عَلَيْهِ وشكرا وَدُعَاء إِلَيْهِ بنشر نعْمَة حَتَّى لَا يُرْجَى سواهُ وَالْفَخْر بهَا استطالة على النَّاس واستعباد لقُلُوبِهِمْ بالتعظيم لأَجلهَا إنتهى مُلَخصا
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة من الْكَلِمَات فِي هَذَا الْوَصْف
الشُّكْر قيد ومفتاح الْمَزِيد وَثمن الْجنَّة
من شكر قَلِيلا اسْتحق جزيلا
موقع الشُّكْر من النِّعْمَة مَوضِع القوى من الضَّعِيف إِن وجده لم يرم وَإِن فَقده لم يقم